المسح العالمي للقيم: قراءة في التحولات القيمية والثقافية حول العالم

محمد عز

 

المسح العالمي للقيم هو مشروع بحثي عالمي يهدف إلى درس القيم الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، الدينية، والثقافية للسكان حول العالم، وذلك بهدف التعرف على التغيرات الحادثة في منظومة القيم عبر الزمن، ومدى تأثير ثبات هذه القيم أو تغيرها على التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في بلدان العالم المختلفة. وقد بدأ المسح العالمي للقيم في عام 1981 بقيادة عالم الاجتماع الأمريكي “رونالد انجلهارت” من جامعة “ميتشجان” بالولايات المتحدة الأمريكية. وبالفعل أظهرت نتائج المسح على مدى موجاته السبع أن قيم الناس ومعتقداتهم تلعب دورًا رئيسيًا في التنمية الاقتصادية، والتحول الديمقراطي في المجتمع.

يغطي المسح -في الوقت الحالي- السكان في 120 دولة حول العالم عبر عينات ممثلة لـ 94.5% من السكان حول العالم، وذلك عبر موجات متتالية من المسوح بدأت أولها خلال الفترة (1981-1984)، ثم الثانية خلال الفترة (1990-1994)، ثم الموجة الثالثة خلال الفترة (1995-1998)، ثم الموجة الرابعة خلال الفترة (1999-2004)، ثم الموجة الخامسة خلال الفترة (2005-2009)، ثم الموجة السادسة خلال الفترة (2010-2014)، والموجة السابعة والأخيرة خلال الفترة (2017-2022) ومن المعلن أن تتم الموجة الثامنة في الفترة (2023-2026). وقد شاركت مصر في الموجات الأربعة الأخيرة؛ الرابعة، الخامسة، السادسة، والسابعة، وتم جمع البيانات من السكان في أعوام 2000، 2008، 2012، 2018 على عينات بلغ قوامها (3000)، (3051)، (1532)، (1200) على التوالي. وتستخدم بيانات المسح العالمي للقيم من قبل العديد من الأفراد والمؤسسات الدولية والحكومات ومنظمات المجتمع المدني حول العالم، وحتى الآن، هناك أكثر من 30.000 منشور؛ بين كتاب وورقة علمية حول العالم بالاعتماد على قاعدة بيانات المسح العالمي للقيم، مما يشير إلى الأهمية القصوى التي يتمتع بها هذا المجهود البحثي الضخم.

أبعاد التحول الثقافي في العالم

يشير مسح القيم العالمي خلال موجاته السبع المتتالية أن هناك بعدين للتحول الثقافي حول العالم:

البعد الأول: الانتقال من القيم التقليدية Traditional Values؛ التي تؤكد على أهمية الدين في حياة الأفراد، والروابط الأسرية القوية، والإذعان للسلطة، والنظام الاجتماعي الأبوي. ويرفض الأفراد الذين يعتنقون هذه القيم موضوعات كالطلاق، والإجهاض، والانتحار، إلى القيم العلمانية-العقلانية Secular-rational Values؛ التي تعطي أهمية أقل للدين والسلطة والروابط العائلية التقليدية، وليست هناك مشاكل لدى الأفراد الذين يعتنقون هذه القيم في موضوعات الطلاق، والإجهاض، والانتحار.

البعد الثاني: الانتقال من قيم البقاء Survival Values؛ التي تتجسد في الاهتمام بالأمن الاقتصادي والمادي؛ كالحاجة إلى الطعام والشراب والجنس، والحاجة إلى الأمن الوظيفي، والأمن الأسري، والأمن الصحي والأمن المعنوي والنفسي، ويتمتع الأفراد الذين يتمثلون هذه القيم بمستويات منخفضة من الثقة في الآخرين والتسامح معهم، إلى قيم تحقيق الذات Self-expression values؛ التي تتجسد في الاهتمام بالحريات والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ويتمتع الأفراد الذين يتمثلون هذه القيم بمستويات عالية من التسامح مع الأخرين كالأجانب والمثليين والمثليات، والمساواة بين الجنسين، ويميلون بصورة متزايدة إلى حماية البيئة والديمقراطية.

وقد بنى انجلهارت خريطة ثقافية للعالم يمثل محورها الرأسي القيم التقليدية في مقابل القيم العقلانية، ويمثل محورها الأفقي قيم البقاء في مقابل قيم التعبير عن الذات، وقام بوضع البلدان عليها طبقًا للقيم التي يتمثلها كل مجتمع. انظر شكل رقم (1)

شكل رقم (1) الخريطة الثقافية للعالم 2022

النسق القيمي حول العالم

وتشير عملية تحليل البيانات لمسوح القيم إلى أن هناك مجموعة من النتائج أو قل الحقائق حول النسق القيمي في العالم، وتتمثل أهم هذه الحقائق في:

تقع معظم الدول العربية والأفريقية (مصر، لبنان، اليمن، غانا، أثيوبيا،..) في الجزء الأيسر السفلي من الخريطة؛ مما يعني أنها تتصف بانتشار القيم التقليدية وقيم البقاء، في المقابل تقع بعض الدول الأوربية البروتستانتية (السويد، الدنمارك، ألمانيا، …) في الجزء الأيمن العلوي من الخريطة؛ مما يعني أنها تتصف بانتشار القيم العلمانية العقلانية وقيم التعبير عن الذات. وبصورة عامة، يمكن القول، إن قيم البقاء هي القيم المميزة لدول العالم الشرقي وقيم التعبير عن الذات هي القيم المميزة لدول العالم الغربي.

تراجع أهمية الدين في حياة الأفراد عالميًا: يشير رونالد انجلهارت في كتابه “الانحدار المفاجئ للدين: ما أسبابه؟ وماذا سيحدث بعد ذلك؟ “Religion’s Sudden Decline: What’s Causing it, and What Comes Next” والمعتمد على تحليل بيانات من الموجات السبع لمسح القيم العالمي، إلى أن العالم أصبح أقل تدينًا من أي وقت مضى. ومنذ العام 2007 تتناقص أهمية الدين بالنسبة للأفراد في معظم أنحاء العالم عما كانت في الفترة من (1981: 2006). وعلى الرغم من ذلك، فإننا نجد تفاوتًا كبيرًا بين البلدان في أهمية الدين في حياة الأفراد؛ فعلى سبيل المثال، عند سؤال الأفراد عن مدى انخراطهم في الخدمات الدينية ومدى أهمية المعتقدات الدينية في حياتهم؛ تظهر بيانات المسح لعام 2000 أن 98٪ من الجمهور في إندونيسيا يعتبرون أن الدين مهم جدًا في حياتهم، بينما في الصين 3٪ فقط يعتبرون أن الدين مهم جدا في حياتهم. كذلك فقد حافظت البلدان العربية والإسلامية على مستويات عالية من أهمية الله في حياتهم على طول فترات المسوح؛ ففي مصر على سبيل المثال نجد أهمية الله في حياة الناس في الموجات المسحية الخامسة والسابعة كان الله مهما جدا في حياة الأفراد بنسب 96.9%، 96.8% على التوالي.

الدين نقطة ارتكاز للقيم التقليدية: يلعب الدين دورًا محوريًا في تشكيل النسق القيمي في أي مجتمع؛ فإذا كان الأفراد في مجتمع ما يولون أهمية كبيرة للدين في حياتهم؛ فإنه يمكنك التنبؤ النسبي بالتوجه القيمي لدى أفراد هذه المجتمع، حيث تجدهم يملكون مواقفًا محافظة تجاه عمليات الإجهاض، والانتحار، والمثلية، وكذلك تجد لديهم ميولًا نحو الاحترام المتزايد للسلطة. هنا يمكن أن نصيغ نتيجة عامة مؤداها أن كلما ارتفعت أهمية الدين في مجتمع ما، مال إلى القيم التقليدية، وعلى العكس كلما تحرر المجتمع من الدين وأصبح أقل أهمية في حياته، مال إلى القيم العلمانية العقلانية.

ثمة علاقة بين التاريخ الديني والاستعماري ومنظومة القيم: يرتبط النظام القيمي في المجتمع ارتباطًا كبيرًا بالتاريخ الديني والإرث الاستعماري للمجتمع؛ حيث تميل المجتمعات البروتستانتية إلى احتلال مرتبة أعلى في قيم البقاء/ التعبير عن الذات مقارنة بالمجتمعات الكاثوليكية. على النقيض من ذلك تحتل معظم المجتمعات الشيوعية مرتبه منخفضة نسبيًا في بعد البقاء/ التعبير عن الذات، وتحتل المجتمعات الأرثوذكسية التي خبرت الحكم الشيوعي مرتبة أعلى بكثير في قيم التعبير عن الذات من المجتمعات الأرثوذكسية الأخرى. بينما تحتل المجتمعات الإسلامية التي خبرت الحكم الشيوعي (أذربيجان وألبانيا) مرتبه أعلى في قيم العقلانية والعلمانية من المجتمعات الإسلامية الأخرى.

ويتضح تأثير الاستعمار بقوة على المجتمعات في وجودة منطقة ثقافية مشتركة لأمريكا اللاتينية، التي يمكن وضع الفلبين -وهي من خارج أمريكا اللاتينية- ضمنها؛ وعلى الرغم من حقيقة البعد الجغرافي، تشترك الفلبين وأمريكا اللاتينية في تأثير الحكم الاستعماري الإسباني والكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ومن ثم تتشابه منظومة القيم في كليهما، ويزيد من هذا التأثير عند يرافق الحكم الاستعماري هجرة جماعية من البلد المستعمِر (بكسر الميم) إلى البلد المستعمَر (بفتح الميم).

ثمة علاقة طردية بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية والتحول إلى القيم العقلانية والعلمانية وقيم التعبير عن الذات: تختلف منظومة القيم في البلدان الأكثر ثراءً بشكل كبير ومنهجي عن نظيرتها في البلدان الفقيرة؛ فكلما ارتفعت مستويات المعيشة في مجتمع ما، وانتقل إلى المجتمع ما بعد الصناعي (مجتمع المعرفة)، كلما مال هذا المجتمع إلى التحرك من القيم التقليدية وقيم البقاء باتجاه القيم العلمانية والعقلانية وقيم التعبير عن الذات. ويفسر انجلهارت ذلك، بأن التحول إلى المجتمعات ما بعد الصناعية (مجتمعات المعرفة) يرافقه ارتفاع في مستويات المعيشة وضمان الغذاء والكساء والمأوى ومستويات غير مسبوقة من الرخاء والرفاهية، مما يقلل معه اهتمام الناس بقيم البقاء؛ التي أصبحت مضمونة بالفعل. كذلك ينتهي عصر السيطرة المركزية على العمال داخل المصنع، والرضوخ الكامل للسلطة، ويميل الأفراد إلى قيم التحرر من السلطة؛ حيث يتمتع العمال (الحاصلون على تعليم عال بالفعل) بالاستقلالية في عملهم حتى وإن كانوا يعملون في مؤسسات لها طابع هرمي للسلطة، ويميلون نحو القيم الديمقراطية ومشاركة أكبر في عملية صنع القرار.

وتحدث عملية التحول هذه على مستويين؛ الأول هو التحول من المجتمع الزراعي تجاه المجتمع الصناعي؛ هنا يحدث التحول من القيم التقليدية إلى القيم العقلانية والعلمانية، ولكن المجتمع الصناعي لا يشجع على قيم التعبير عن الذات؛ حيث تظل قيم التحرر من السلطة مقيدة، وتاريخيًا تبنت المجتمعات الصناعية أشكالًا استبدادية أكثر من تبنيها للمؤسسات الديمقراطية. وفي المستوى الثاني يتحول المجتمع من الصناعي إلى المجتمع ما بعد الصناعي؛ هنا يميل النظام القيمي في المجتمع إلى التحول من قيم البقاء إلى قيم التعبير عن الذات؛ حيث قيم التحرر من السطلة والمؤسسات الديمقراطية.

اتجاه عالمي نحو المساواة: تشهد معظم مجتمعات العالم تحولًا نحو المساواة بين الجنسين، وفتح مساحة أكبر أمام النساء للاختيار في كافة المجالات، أكثر من أي وقت مضى، وعلى الرغم من ذلك ما زال الأفراد في معظم مجتمعات العالم يميلون إلى النظر إلى الرجال على أنهم قادة سياسيون أفضل من النساء، ويميل هذا الرأي إلى الانكماش في المجتمعات ما بعد الصناعية لا سيما بين فئات الشباب في هذه المجتمعات.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20599/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M