النفط الليبي: تداعيات الإغلاقات النفطية المتكررة..

قبل بداية عصر النفط الليبي والبدء في تصديره، كانت ليبيا تُعد من الدول الفقيرة التي يعتمد اقتصادها على النشاطين الزراعي والرعوي. حيث صنفت كأفقر بلد عالمي في عام 1951، وفي عام 1958 وبالمصادفة تم اكتشاف النفط، وذلك أثناء حفر آبار المياه، حينها قال الملك إدريس السنوسي مقولته المشهورة: “أتمنى لو أنكم عثرتم على المياه وليس النفط”، ربما لإدراكه المشكلات التي يمكن أن تجلبها هذه الثروة. ولكن هل تحققت نبوءة السنوسي بعد أكثر من 66 عامًا؟!. أصبح النفط الليبي سببًا للصراع في ليبيا منذ اكتشافه حتى الآن، حيث شكل النفط طوال العقود الماضية العمود الفقري لاقتصادها، وكان من أهم مصادر الدخل في ليبيا، ولكنه اليوم بات سببًا رئيسيًا في انهيار منظومتها الاقتصادية عوضًا عن أن يكون محركها بعد أن أصبح وقودًا للصراع وسببًا في المشاكل التي تعيشها البلاد.

اكتُشف النفط في ليبيا في وقت متأخر مقارنة بدول الخليج، حيث انضمت إلى منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك بعد عامين من التأسيس، وعند تأسيس منظمة الدولة المصدرة للنفط لم تكن ليبيا من الدول المصدرة للنفط آنذاك، ولكنها انضمت إلى المنظمة بعد عامين تقريبًا، وتحديدًا في عام 1962، لتصبح العضو السابع في هذا الكيان. يعتمد اقتصاد ليبيا البالغ عدد سكانها حوالي 6.9 ملايين نسمة بشكل أساسي على قطاع النفط، والذي يُشكل أكثر من حوالي 69% من عوائد الصادرات. حيث تُسهم العوائد الكبيرة المحققة من قطاع الطاقة، إلى جانب انخفاض عدد السكان، في جعل ليبيا واحدة من أعلى الدول في أفريقيا من ناحية نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.

ولكن عمليات الإغلاق للحقول النفطية المتكررة، تُشكل الخطر الأكبر الذي يُهدد مستقبل صناعة النفط الليبية، حيث تُعد الأحدث في سلسلة الاضطرابات التي تضرب ليبيا منذ عام 2011، وسط العديد من الأزمات السياسية المتفاقمة، كما أدت هذه الإغلاقات من بين أسباب أخرى إلى ارتفاع أسعار النفط الخام، حيث تأتي هذه القرارات في وقت حرج بالنسبة إلى الدولة الليبية والتي تعتمد بصفة أساسية على صناعة النفط وعوائده الضخمة.

سيظل الصراع في الدولة الليبية صراعًا على توزيع الثروات النفطية، وهي الأزمة المفصلية التي لم تجد طريقها للحل طوال السنوات الماضية، وظل النفط الليبي في تلك المعادلة الصعبة والحسبة العاصفة، حيث تحاول أطراف استخدامه محليًا أو حتى دوليًا، كورقة للمساهمة ولتحقيق مكاسب أكبر، فيما يظل الطلب الأساسي قائمًا وهو عدالة التوزيع.

تمتلك ليبيا أكبر احتياطيات مؤكدة من النفط الخام في القارة الأفريقية، وحتى نهاية عام 2023، كانت ليبيا تمتلك حوالي 48.8 مليار برميل من احتياطيات النفط الخام المؤكدة، أي ما يُعادل حصة قدرها حوالي أكثر من حوالي 4% من احتياطي منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، حيث تشغل ليبيا بذلك المرتبة السابعة في قائمة أكبر الدول في منظمة أوبك من ناحية الاحتياطي النفطي. حيث تحتوي أراضيها على أحواض وحقول وموانئ نفطية مهمة، ويُشكل النفط نحو حوالي 95% من إجمالي الإيرادات في ليبيا، حيث تخطت إيراداته العام الماضي حوالي 20.7 مليار دولار. كما يوضح الشكل التالي مستويات الاحتياطيات المؤكدة من النفط الليبي خلال السنوات السابقة.

وتحتل ليبيا المركز الأول من حيث الاحتياطي المؤكد في القارة الأفريقية، وذلك بنسبة 40.3% من إجمالي حوالي 120.2 مليار برميل من النفط الخام، حيث تُساهم القارة الأولى بنسبة حوالي 0.8% من احتياطيات النفط المؤكدة العالمية من النفط الخام، كما هو موضح في الشكل التالي.

وبشكل عام، أنتجت ليبيا خلال شهر أكتوبر الماضي حوالي 35.8 مليون برميل من النفط الخام، وحوالي 513.5 ألف طن من المنتجات النفطية، وحوالي 41 ألف طن من المنتجات البتروكيماوية، و198 ألف طن من المكثفات، ومليار و44 ألف متر مكعب من الغاز الطبيعي.

واستكمالًا لما سبق، تمتلك ليبيا حوالي 1.4 تريليون متر مكعب من الاحتياطيات المؤكدة للغاز الطبيعي وذلك وفقًا لتقديرات عام 2023، ما يجعلها خامس أكبر مالك لاحتياطي الغاز الطبيعي في القارة الأفريقية، وقد تعطل إنتاج الغاز الطبيعي الليبي بالكامل تقريبًا كما هو الحال مع النفط لفترات طويلة وذلك في عام 2011، قبل أن يبدأ في التعافي حتى بلغ حوالي 13.3 مليار متر مكعب بنهاية عام 2022، مقارنة مع حوالي 16 مليار متر مكعب وذلك عام 2010. ويوضح الشكل التالي مستويات الاحتياطيات المؤكدة من الغاز الطبيعي في ليبيا.

صدرت ليبيا حوالي 9.1 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عام 2021، مقارنة مع حوالي 4.5 مليار متر مكعب في العام السابق له، إذ تحاول الصناعة التعافي بعد الأزمة السياسية، وتذهب جميع صادرات ليبيا من الغاز الطبيعي إلى إيطاليا عبر خط أنابيب جرين ستريم (Green stream) إذ يُعالج الغاز الطبيعي المنقول من حقل الوفاء البري وحقل بحر السلام البحري من أجل التصدير.

يُعد حقل الشرارة بمثابة أكبر الحقول النفطية في ليبيا من حيث مستويات الإنتاج اليومية، ومع ذلك لم ينجُ من الصراعات السياسية، إذ تعاني البلاد -خاصةً قطاع النفط- من الاضطرابات الأمنية. فمنذ عام 2011، دخلت ليبيا مسلسلًا مستمرًا من الصراعات، لفرض السيطرة على إنتاج النفط وعائداته. وينتج حقل الشرارة حوالي أكثر من 300 ألف برميل من النفط يوميًا، وهو ما يُمثل تقريبًا ثلث إنتاج النفط الليبي في الظروف الطبيعية، أي باستبعاد أثر الصراعات السياسية وتداعياتها على قطاع النفط. ويقع حقل الشرارة، المكتشف عام 1980، في صحراء مرزق جنوب طرابلس، ولأنه أكبر حقل نفط إنتاجًا في ليبيا، فإن حقل الشرارة أهم روافد الاقتصاد الليبي، كون عائدات النفط تُشكل حوالي 95% من إجمالي إيرادات الحكومة. ويُنقل النفط الخام من حقل الشرارة عبر خط أنابيب إلى محطة تصدير النفط في الزاوية ومصفاة الزاوية التي تقع على بُعد حوالي 45 كم غرب طرابلس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وتبلغ قدرتها حوالي 120 ألف برميل يوميًا. مكامن الثروة النفطية في ليبيا تكمن أيضًا في منطقة الهلال النفطي شمال شرقي ليبيا، والتي تمتد على طول 250 كم إلى الشرق، بين سرت وبنغازي، حيث تتمركز فيها أهم موانئ البلاد النفطية، مثل: ميناء السدرة، ورأس لانوف، والبريقة، والزويتينة، كما هو موضح في الشكل التالي.

بدأ الحقل الواقع في صحراء مرزق وعلى بعد حوالي 700 كم جنوب طرابلس، وكان الإنتاج الفعلي عام 1996، حيث شهد حقل الشرارة النفطي استخراج حوال 54% من إجمالي الاحتياطيات القابلة للاستخراج (الاحتياطيات المؤكدة)، مع توقعات بأن يستمر إنتاج الحقل من حيث الجدوى الاقتصادية حتى عام 2060. حيث تدير شركة أكاكوس للعمليات النفطية (ريبسول للعمليات النفطية سابقًا) حقل الشرارة النفطي، كما أنها إحدى الشركات التابعة للمؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، ويشترك مع أكاكوس في تطوير حقل الشرارة المؤسسة الوطنية للنفط وشركات ريبسول الإسبانية وتوتال إنرجي الفرنسية وأو إم في النمساوية وإكوينور النرويجية، كما يوضح الشكل التالي المخطط العام للمؤسسة الوطنية.

إنتاج النفط الليبي وصل إلى معدلات قياسية حوالي 1.5 مليون برميل يوميًا وذلك في عام 2009، لكنه انخفض بشكل حاد إلى حوالي 462 ألف برميل يوميًا وذلك عام 2011، وهو ما تُرجم إلى انكماش اقتصادي بنحو حوالي 67% في العام ذاته، وذلك قبل أن يعود إلى التعافي. ومنذ عام 2017، اتبع إنتاج النفط الخام في ليبيا اتجاهًا صعوديًا، إذ زاد من حوالي 811 ألف برميل يوميًا إلى حوالي 951 ألف برميل في العام التالي له. وذلك قبل أن يسجل حوالي مليون برميل يوميًا في عام 2019. حيث استمرت معدلات الإنتاج فوق حاجز المليون برميل يوميًا قبل مرحلة الصراع الأخيرة في بداية عام 2022، والتي ترتب عليها إغلاق العديد من الحقول النفطية، ووصل حجم التراجع النفطي إلى حوالي 530 ألف برميل يوميًا بعد أن قاربت حاجز 1.2 مليون برميل يوميًا، مما يُشكل ضربة لاقتصاد البلاد في وقت اقتربت فيه أسعار النفط من سعر 80 دولارًا للبرميل الواحد. من جهةٍ أخرى، عانت حقول الإنتاج وموانئ التصدير الليبية من الإغلاقات المتكررة خلال السنوات الماضية، مما تسبب في تذبذب مستمر لمعدلات الإنتاج التي لم تصل أبدًا خلال هذه الفترة إلى معدلاتها القياسية (1.8 مليون برميل يوميًا)، فالصراع المستمر على السلطة أثر بالسلب في معدلات الإنتاج في البلاد. ومن زاوية أخرى، يُشكل تراجع معدلات الإنتاج الليبي مشكلة أخرى لإمدادات منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) التي يطالبها كبار المستوردين، ومن بينهم الولايات المتحدة الأمريكية، بالإسراع في زيادة معدلات الإنتاج.

واستكمالًا لما سبق، زادت مؤسسة النفط الليبية من حالة تعقيد المشهد النفطي في البلاد، حيث أعلنت الأحد الماضي حالة القوة القاهرة على حقل الشرارة جنوبي البلاد، وذلك بسبب إغلاق محتجين للحقل. وحالة القوة القاهرة هي وضع قانوني يعفي أطراف التعاقد من أي التزامات تترتب على عدم وفاء أحدهم ببنود العقد المبرم بسبب ظروف خارجة عن إرادته. وأضافت المؤسسة، في بيان، أن إغلاق الحقل تسبب في توقف إمدادات النفط الخام منه إلى ميناء الزاوية (غرب)، ولا تزال المفاوضات جارية في محاولة لاستئناف الإنتاج في أقرب وقت ممكن. وفي 3 يناير الجاري، أُغلق حقل الشرارة، إثر دخول المحتجين إليه، احتجاجًا على ما يقولون إنه نقص الوقود في مناطق جنوبي البلاد، كما يوضح الشكل التالي تأثيرات مختلفة على معدلات الإنتاج الليبي من النفط.

القوة القاهرة هي إجراء يُتخذ عادةً في ظروف معينة خارجة عن إرادة الأطراف، مثل الحرب أو الأعمال العدائية أو الكوارث الطبيعية، ويعفي أحد الطرفين أو كلاهما من تنفيذ العقد بطريقة ما، بمعنى أن هذا الطرف لن يكون مسئولًا عن إخفاقه في الالتزامات المنصوص عليها في العقد المبرم.

وسط تلك الأزمة الراهنة، تُعد الإغلاقات النفطية الأحدث في سلسلة الاضطرابات التي تضرب ليبيا منذ عام 2011، كما أدت هذه العمليات من بين أسباب أخرى إلى ارتفاع أسعار النفط في وقت مبكر، وتأتي هذه القرارات في وقت حرج بالنسبة إلى الدولة الليبية التي تعتمد بصفة أساسية على صناعة النفط، حيث يُشكل النفط مصدر الإيرادات الوحيد للدولة الليبية، ومشهد إغلاق الحقول متكرر بصفة شهرية ليعكس الأزمة المستمرة. ولذلك فالصراع الداخلي في ليبيا وعدم قدرة قطاع النفط على الحصول على التمويل اللازم يُكبّد العالم وليبيا خسائر ضخمة، في وقت كان يجب أن تكون طرابلس فيه جزءًا من الحل في أزمة الطاقة العالمية وليست جزءًا من الأزمة، ومن هنا نلخص أهم الأسباب التي أدت إلى انخفاض معدلات الإنتاج:

  • الصراع السياسي على السلطة والثروة النفطية.
  • إغلاق حقل الشرارة النفطي بشكل متكرر وشبه ربع سنوي.
  • تهالك البنى التحتية مع الضعف الحاد في تسهيلات الإنتاج في قطاع النفط والغاز الطبيعي.
  • انخفاض إنتاج ليبيا من النفط إلى حوالي 340 ألف برميل يوميًا مقارنة بحوالي مليون برميل يوميًا تقريبًا (من الممكن الوصول إلى مستويات منخفضة بشكل أكبر في حالة توسيع دائرة الإغلاقات الحالية).
  • وصلت مستويات الهبوط في بيانات سابقة (إغلاقات سابقة) إلى حوالي 950 ألف برميل يوميًا من النفط الخام.
  • فقدان حوالي أكثر من حوالي 220 مليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي يوميًا (بيانات سابقة عن الإغلاقات السابقة).
  • بلغ حجم الخسائر المالية الناجمة عن إغلاق المنشآت النفطية في شرق البلاد حوالي أكثر من 3 مليارات دولار.
  • ضربة قوية للآمال الليبية التي عُلّقت على مستويات مناسبة في أسعار النفط الخام حاليًا (حول مستوى 80 دولارًا للبرميل النفطي) وإعطاء دفعة للاقتصاد الليبي الذي يواجه أزمات كبيرة.
  • انخفاض إيرادات مبيعات النفط الليبي في العام الماضي حوالي 1.3 مليار دولار، وذلك مقارنة بعام 2022 (حيث بلغت حوالي 20.7 مليار دولار مقارنة بحوالي 22 مليار دولار).

تتمثل أيضًا الخسائر غير المباشرة في مصاريف التشغيل اليومية للموانئ والحقول النفطية من دون إنتاج فعلي، والأموال التي سوف تنفق على عمليات عودة الإنتاج لطبيعته، إضافة إلى ثمن شراء محروقات ومنتجات إضافية لكي يتم تغطية العجز الداخلي الذي يتعدّى أكثر من حوالي 45% من الاحتياجات اليومية، نتيجة لتوقف عمليات الإنتاج بالقوة القاهرة، ويُضاف إلى ذلك خسارة الخبرات النفطية الفنية والتقنية، سواء الأجنبية منها أو المحلية، التي تترك البلاد نظرًا لتوقف عمليات الإنتاج والتصدير وحالات عدم الاستقرار الأمني.

يفتقر الاقتصاد الليبي إلى تنويع مصادر الدخل القومي، ويُعد استقدام الاستثمارات الأجنبية من إحدى وسائل تنويع الدخل النقدي للبلاد، وخلق فرص عمل وجلب تكنولوجيا جديدة وسد احتياجات السوق المحلي وتنويع التصدير، وتنفيذ العديد من مشروعات إعادة التعمير واستكمال بناء مشروعات التنمية التي تستهدفها الدولة. ولكن تحقيق ذلك يرتبط بمدى توافر الاستقرار السياسي والأمني في البلد المضيف للاستثمار الأجنبي، فمن المتعارف عليه أنه حينما وجد الأمن الداخلي ومحفزات الاستثمار وُجدت الاستثمارات الأجنبية، والعكس صحيح، وإلا فكيف ستطمئن الشركات العالمية على أموالها وسلامة أفرادها، وذلك في ظل تهديدات مستمرة بتوقف الإنتاج باعتصامات مستمرة بالأسلحة تُمثل خطرًا وتهديدًا على الاستقرار والسلم المجتمعي.

ومن ناحية أخرى، ضياع فرص توظيف محتملة كان من الممكن توفيرها في حال استكمال الدولة لمشروعات التنمية أو جذب استثمارات أجنبية جديدة داخل البلاد، وبالأخص أن ليبيا تتمتع بالعديد من المؤهلات التي تجعلها من ضمن الدول الجاذبة للاستثمار، من توافر ثروات طبيعية، وما يترتب عليها من صناعات بتروكيماوية وتحويلية عديدة (فرصة واعدة)، وأيضًا مع توقف تصدير النفط والعمل بحالة القوة القاهرة يعني الإخلال بعقود التوريد مع الشركات والدول المستوردة للنفط الليبي دون سابق إنذار، وتكبدهم خسائر مادية كبيرة جزاء ذلك التوقف، وما يترتّب عليه من مسئوليات قانونية من شروط جزائية أو تعويضات مادية عن الخسائر التي لحقت بتلك الشركات جزاء توقف عمليات التصدير. وقد يصل الأمر بهم إلى حد المطالبة بتدخل قوات أجنبية لحماية مصالحهم، وذلك لوجود مجموعة من المصافي الأجنبية مصممة لتلائم النفط الليبي، مما يعني احتمال وجود ما يهدد الأمن القومي الليبي في حال استمرار توقف تصدير النفط الخام.

واستكمالًا لما سبق، هناك العديد من الجوانب السياسية السلبية المترتبة على إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حالة القوة القاهرة، بسبب توقف التصدير والمتمثلة في إظهار ضعف الدولة أمام العالم الخارجي، وفقدانها لجدية التعاقد والمحافظة على أمن الاستثمارات الأجنبية وسلامة الأفراد العاملين بها، واستمرار الإنتاج، خاصة وأن شركات النفط العاملة في الأراضي الليبية، تُعد من أكبر وأقوى شركات العالم في صناعة النفط والأكثر تأثيرًا في دائرة صناعة القرار العالمي، والتي تُمثل أيضًا دولًا عظمى اقتصاديًا ومؤثرة في السياسة الدولية وبالأخص دول الاتحاد الأوروبي، الذي يُعد الشريك التجاري الأكبر للدولة الليبية والإخلال بالتعاقدات مع تلك الشركات، سيؤثر سلبًا على العلاقات السياسية والاقتصادية مع تلك الدول بالتبعية.

وعليه يمكن القول، من الممكن أن تؤدي القوة القاهرة أو عمليات توقف الإنتاج الليبي إلى فقدها لعملائها وسوقها النفطي، لأن النفط الليبي يغطي حوالي 1.8% من استهلاك العالم للنفط يوميًا وأن أكثر من حوالي 80% من صادرات البلاد النفطية إلى الأسواق الأوروبية وحوالي 13% تذهب إلى الأسواق الآسيوية وحوالي 0.5% تذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي فإن توقف التصدير لتلك الدول الصناعية الكبرى سيؤدي إلى بحث تلك الدول عن بدائل للنفط الليبي أكثر استقرارًا لتلبية احتياجاتهم بصفة مستمرة، دون انقطاع متكرر يعرضهم لخسائر غير متوقعة مباشرة أو غير مباشرة من توقف مصانعهم وتضرر أسواقهم الداخلية. وبالتالي فقدان الاقتصاد الليبي لأسواق تصريف النفط واحتلال دول أخرى لتلك الأسواق، وعلى رأسها دول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية التي تُعد من أكبر منتجي النفط في العالم والقادرة على تلبية احتياجات الأسواق الأوروبية، وذلك بشكل أكثر استقرارًا وثباتًا.

مما لا شكّ فيه أن أي مقترحات تُوضع للحفاظ على القطاع النفطي الليبي أو الخروج من الأزمة الحالية التي تمر بها الدولة الليبية، ورغم إمكانية فتح حقل الشرارة النفطي (قضية متشابكة ومستمرة)، فإنه لا ضمانة لاستمرار الفتح واستقرار الأوضاع والأزمة يمكن أن تتكرر أي وقت، وبالتالي فإن هناك حاجة ضرورية لاتخاذ تدابير قوية تمنع تكرار تلك التهديدات ومنها:

  • الوصول إلى حل للأزمات السياسية المتعددة التي تعصف بالبلاد، وحالات الاحتجاجات المتكررة وذلك نظرًا لأن عدم حل المشكلة السياسية والوصول إلى حالة الاستقرار، سيعيق تنفيذ أي خطوات لحل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها ليبيا.
  • إطلاق حملات التوعية للشعب الليبي، وذلك من خلال وسائل الإعلام المختلفة بما يتم تحقيقه من إنجازات ملموسة في قطاع النفط، وما هو مخطط لتحقيقه مستقبلًا من مشروعات تنموية وما هو العائد من تلك المشاريع على الشعب الليبي، بهدف إشراك الشعب الليبي في خطط التنمية وضرورة استكمالها والمحافظة على المكتسبات الحالية.
  • تفكيك المركزية ومجابهة البيروقراطية والعمل على الاهتمام الخاص بمناطق وأقاليم استخراج النفط، والعمل على تحسين مستوى معيشة سكانها حتى يشعروا بأهمية تلك الثروات، وبضرورة المحافظة على استمرار تدفق إنتاجها، حتى يٌسحب البساط من تحت أقدام من يحاول توظيف قضية تهميش المناطق التي توجد بها المنشآت النفطية لأغراض سياسية.
  • ضرورة العمل على تنويع مصادر الاقتصاد الوطني، وزيادة الاستثمارات والإنتاج المحلي في القطاعات غير النفطية كالقطاع الزراعي، وما يرتبط به من صناعات مختلفة، وذلك بهدف سد حاجة الطلب المحلي.
  • ضرورة الاهتمام بالصناعات التحويلية وحسن استغلال الموارد النفطية (فرصة واعدة)، وعدم تصديرها في شكل خامات فقط، بل يلزم وضع خطة محددة فنيًا وزمنيًا لزيادة الصناعات التحويلية في مقابل خفض تصدير النفط الخام وزيادة التكنولوجيا في الإنتاج.
  • ضرورة اتباع الشفافية في عرض ما يتعلق بأموال النفط من كيفية تحصيلها وحجم الإيرادات وكيفية إنفاقها.
  • رفع الإنتاج يحتاج لوجود مقومات تخزين قادرة على استيعاب الكميات المضافة من نفط خام ومكثفات، حتى مجمع خزانات السدرة أكبر مجمعات للتخزين في ليبيا بسعة حوالي 6.5 ملايين برميل قد تعرض للتدمير وذلك في عام 2014، وتعمل منه حوالي 9 خزانات من أصل حوالي 19 خزانًا.
  • هناك عدد كبير من الحقول مثل الظهرة ومحطة الباهي ومحطة الزناد وحقلي زلة والغاني وحقل البيضاء، ما زالت تحتاج تأهيلًا لمصادر الطاقة الكهربائية، وتطوير معدات سطحية للآبار النفطية، وذلك لضمان عودتها إلى الإنتاج بطاقة إنتاجية كاملة.
  • ضرورة العمل على تنويع أسواق التصدير للمنتج البتروكيماوي الليبي، والعمل على فتح آفاق وأسواق جديدة، وبالأخص في المنطقة الأفريقية، مع ضرورة استغلال عامل القرب الجغرافي للتفوق على المنافسين في هذا الجانب.
  • تطوير وهيكلة البنية التحتية الموجودة في صناعة البتروكيماويات الليبية مع ضرورة الاستعانة بدول الجوار العربي والأفريقي (فرصة واعدة)، وبالأخص الدولة المصرية لما تتمتع به من مقومات ضخمة في مجال صناعة البتروكيماويات وأيضًا قربها من الدولة الليبية.

مجمل القول، يعاني قطاع النفط الليبي منذ أكثر من 13 عامًا من حالة ضعف وتهالك لأسباب سياسية وأزمات اقتصادية، لكنه سيظل رغم ذلك المورد المالي الوحيد لليبيين، كونه يشكل أكثر من 95% من إيرادات ليبيا. وبالرغم من ضبابية المشهد السياسي الليبي، ما زالت الفرص واعدة أمام طرابلس من أجل لعب دورًا في أسواق النفط العالمي، لما تمتلكه من احتياطات كبيرة من النفط الخام، بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي، القريب من الأسواق الأوروبية. وبصفة عامة، يحتاج قطاع النفط الليبي إلى وضع خطة طويلة الأجل، تبدأ أولًا بسداد الديون المتراكمة على شركات النفط، وذلك بسبب ضعف التمويل منذ عام 2015، إذ ما زالت مؤسسة النفط تتلقى حوالي 45% فقط من موازنتها. وثانيًا لكي تستمر معدلات الإنتاج يجب إنشاء صندوق للتنمية المستدامة لإدارة المساعدات المخصصة للمناطق المجاورة للعمليات النفطية، لتجنب أي خلافات مع المكونات القبلية حولها، مما يجعل رفع سقف الإنتاج استراتيجية وطنية يجب أن يتعاون فيها الجميع، ويحتاج تنفيذها إلى خطة قوية وتقابلها شفافية تشارك فيها جميع مؤسسات الدولة، حتى تنعكس إيراداتها على تطوير حياة الشعب الليبي.

وفي الأخير، عندما يحترق النفط الليبي وينتهي، سوف ينتهي معه مسلسل وحدة ليبيا ووحدة أراضيها، وسوف يعود الليبيون إلى مربع ما قبل اكتشاف النفط وينتبه المواطن الليبي إلى أن الزراعة مهمة والصناعة مهمة والسياحة والتنمية مهمة، أما النفط فهو لعنة الليبيين منذ اكتشافه في عام 1958.

المصدر : https://ecss.com.eg/42783/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M