انعقاد حتمي.. هل تنقذ محادثات القاهرة بشأن “ستارت” العالم من شفير الحرب النووية؟

داليا يسري

 

قادت الحرب الروسية الأوكرانية، منذ لحظة اندلاعها في أواخر فبراير من العام الجاري، العالم أجمع إلى مرحلة من التوترات المتسارعة بلغت من الشدة الحد الذي دفع الجميع إلى مرحلة حبس الأنفاس؛ وسط تصاعد خطاب التهديد النووي بين دولتي أكبر ترسانتين نوويتين في العالم؛ روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.

في غضون ذلك، كان من المقرر أن تستضيف القاهرة في الوقت الراهن محادثات معاهدة الحد من الأسلحة النووية بين موسكو وواشنطن، في الفترة ما بين “29 نوفمبر – 6 ديسمبر”، والتي أرجأتها روسيا في اللحظات الأخيرة من جانب واحد. فقد سلط العالم أنظاره صوب مصر تتبعًا للمحادثات المرتقبة التي من الأجدر القول إنها لا ترتبط فقط بمستقبل خفض التصعيد النووي بين القوتين، بل من المؤكد أن نجاحها سينعكس بدوره على مستقبل الحرب الروسية الأوكرانية التي أرقت العالم ونالت تبعاتها من الكل بدرجات متفاوتة. وعلى هذا الأساس، نبحث في الآفاق والنتائج المحتملة من وراء عملية المحادثات؛ أملًا في العثور على إجابة للسؤال بـ لماذا ينظر العالم لهذه المباحثات المنتظرة بعين يحدوها الأمل؟

العالم على شفير حرب نووية

في أكتوبر عام 1962، خاض العالم أجمع فترة حبس أنفاس على مدار 13 يومًا كاد فيها الصراع ينزلق إلى حرب نووية كاسحة لا تُحمد عُقباها. كان من أبرز الدروس التي ذكرها التاريخ عن هذه الفترة الزمنية إجمالًا أن الأزمة علمت موسكو وواشنطن أهمية قنوات الاتصال، والدور الذي تلعبه هذه الأدوات في كبح جماح الأزمات الكبرى، حيث ترتب عليها إنشاء خط ساخن يوفر اتصالًا هاتفيًا مباشرًا بين البيت الأبيض والكرملين.

بهذه الطريقة، نُدرك كيف تلعب الاتصالات الحيوية بين أكبر قوتين تمتلكان رؤوسًا نووية في العالم دورًا لا غنى عنه في الحيلولة دون وقوع الكارثة التي قد تضع حدًا للوجود البشري ككل. وعلى هذا الأساس، فإن معاهدة “ستارت 3″، تكتسب أهميتها في مجالات نزع وتخفيض الأسلحة النووية من كونها نصت على نظام مُحكم للتحقق من مدى التزام كل طرف نووي ببنود الاتفاقية، وسمحت المعاهدة، في وقت توقيعها بـ 2010، لكل طرف بامتلاك 6000 سلاح نووي.

ويُذكر أنه قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، كان العالم يعرف بالفعل أنه على موعد مع محادثات معقدة بين الجانبين منتظر انعقادها قبيل حلول العام 2026، موعد انتهاء المعاهدة. وذلك بفعل خلافات متوقعة بين موسكو وواشنطن حول أوضاع الصواريخ الروسية الجديدة –تم ابتكارها بعد توقيع المعاهدة وتعتبرها واشنطن أسلحة نووية بينما لا تعترف موسكو بذلك- مثل صواريخ “داجر” و”بورفيستنيك” و”بويزدون”. غير أن الحرب الروسية الأوكرانية غيرت الموازين وتسببت في تفاقم التوترات بين الجانبين، بشكل أدى إلى تعقد عمليات التفتيش التي كانت قد عُلقت في 2020 بفعل تفشي الوباء، لكنها قد تعرقلت تمامًا من جانب روسيا في أغسطس 2022. حتى باتت المعاهدة برمتها على المحك، ليس فقط بفعل توقف عمليات التفتيش، بل أيضًا بسبب الغموض والإحساس بالخطر الذي يكتنف التهديدات الروسية باستخدام أسلحة نووية ذات قدرات محدودة في ساحة الحرب بأوكرانيا.

في غضون ذلك، استشعر المجتمع الدولي الخطر أمام النتائج المتوقع حدوثها في حالة تعرضت المعاهدة للخطر. ففي هذه الحالة، تكمن الخطورة في أن البلدين ستضطران إلى زيادة عدد رؤوسهم النووية بشكل مستمر؛ نظرًا إلى انعدام وجود قيود تحول دون ذلك. سيؤدي هذا الأمر إلى وقوع خسائر اقتصادية فادحة لدى الجانبين، نظرًا لأن ذلك سيؤدي إلى وقوع سباق تسلح باهظ الكلفة، سيكون مصحوبًا بتصعيد غير محسوب ومن الصعب التنبؤ به.

علاوة على ذلك، هناك، إجمالًا، 9 دول حول العالم تمتلك ترسانة نووية، وعلى هذا الأساس، من المستبعد أن تقف تلك الدول مكتوفة الأيدي أمام سباق التسلح بين أكبر ترسانتين، ومن المرجح أن تسعى بدورها إلى زيادة حجم ترسانتها النووية كذلك، مما يرفع احتمالات وقوع كوارث نووية. بجانب أن إطلاق العنان لسباق التسلح النووي بين البلدين، سيرتبط بالضرورة بزيادة الجهد الاستخباراتي لدى الدولتين، وهو ما يُمثل عبئًا ماديًا إضافيًا عليهما.

بارقة أمل فيما وراء محادثات القاهرة

يعرف التاريخ السياسي العديد من القِمم التي نتج عنها معاهدات أثبت الوقت أنها لم تكن ذات قيمة تُذكر لأطرافها أو حتى للدول المتورطة في أسبابها وظروفها بشكل أو بآخر. وعلى النقيض من ذلك، نجد أن اللقاء المنتظر انعقاده في القاهرة بين موسكو وواشنطن، يكتسب أهمية فريدة من نوعها بفعل أسباب عديدة منها؛ ظروف انعقاده، وأطرافه، وطبيعة القمة نفسها. بشكل يجعل اللقاء بكل مخرجاته المتوقعة أقرب في طابعه المحوري إلى قمة باريس 1919 والتي كان من أبرز مخرجاتها معاهدة فرساي ودورها في إنهاء الحرب العالمية الأولى، وقمة كامب ديفيد 1978 واتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل التي نتجت عنها.

وعلى هذا الأساس، نعرف أن الاجتماع المقبل سيكون حدثًا استثنائيًا يتوقف عليه مصير قضايا محورية ليس فقط بالنسبة للدول الأطراف، وإنما أيضًا بالنسبة للعالم المتضرر –بشكل أو بآخر- من التوترات بين الطرفين. وعلى هذا، هناك أسباب تدعو للتفاؤل ومؤشرات تبرهن على نية الطرفين إحراز تقدم، وذلك على الرغم من إرجاء القمة التي من الممكن تفسيرها بأنها خطوة تمثل انعكاسًا لعرقلة ما ربما واجهها الطرفان في الاتصالات التي قاما بإجرائها في القنوات الخلفية بينهما. ومع ذلك، لا ينفي هذا وجود بوادر تبشر بحدوث انفراجة قريبة في المشهد برمته، لا تمس فقط ملف الأسلحة النووية، ولكن أيضًا ملف التصعيد المرتبط بالحرب. وهذه المؤشرات نسردها في النقاط التالية:

● سبق وتحدث الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، في مناسبات عدة عن رغبة بلاده في الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع أوكرانيا. كان من أبرزها تصريحاته في خطاب إعلان التعبئة العسكرية، في أواخر سبتمبر 2022، عندما تحدث عن رغبة بلاده في الحصول على ضمانات أمنية من خلال المفاوضات. موضحًا أن العائق أمام تحقيق هذا الأمر هو تردد كييف وخنوعها للإرادة الغربية التي تُملي عليها تبني التصعيد ضد روسيا. مما يعني أن تحقيق انفراجة مع أوكرانيا شيء لا يمكن حدوثه بدون وقوع انفراجة بين موسكو وواشنطن أولًا وأخيرًا.

● قال نائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودنكو إن بلاده ليس لديها شروط مسبقة لإجراء مفاوضات مع أوكرانيا، لكن يتوجب على كييف “إبداء حسن النية ولا توجد شروط مسبقة من جانبنا، باستثناء الشرط الرئيسي: أن تظهر أوكرانيا حسن النية”، وفق تعبيره، ودون أن يوضح الإجراءات التي تثبت حسن نية كييف تجاه المفاوضات.

● أعلنت روسيا، 9 نوفمبر، قرار انسحاب قواتها من “خيرسون”، وهو القرار الذي من المؤكد أنه له أبعاد وأسباب عسكرية، لكن حتى هذه الأسباب لا تخلو من إرادة سياسية ورغبة في تقديم بوادر حسن نية ربما تكون باهظة الثمن بالنسبة للروس و”بوتين” على رأسهم، لكنها مع ذلك تظل حتمية وضرورية لفتح الباب مجددًا أمام الجلوس الحقيقي على طاولة المفاوضات.

● فور إعلان قرار الانسحاب الروسي من “خيرسون”، صرح رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية، الجنرال مارك ميلي، إنه إذا استقرت الخطوط الأمامية في أشهر الشتاء، فسوف تكون هناك فرصة للتفاوض لإنهاء الصراع. مضيفًا، إنه “يجب أن يكون هناك اعتراف متبادل بأن النصر العسكري بالمعنى الحقيقي لا يمكن تحقيقه بالوسائل العسكرية، وبالتالي فمن الضروري استخدام أدوات أخرى”.

● بدأ مستشار الأمن القومي الأمريكي في مستهل نوفمبر الجاري، قناة اتصال مباشرة مع نظيره الروسي، “نيكولاي باتروشيف”. ونقلت مصادر إخبارية، 4 نوفمبر، سفره إلى كييف ليطلب من الرئيس “فلوديمير زيلينسكي” الذهاب إلى طاولة المفاوضات مع روسيا.

● في غضون ذلك، كان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، قد أوضح أن اجتماع اللجنة الاستشارية الثنائية قيد الإعداد بالفعل عن طريق اجتماعات سرية خلال الفترة الماضية من أجل تلاشي أي تطور نووي في الأزمة الأوكرانية الروسية.

● لقد بدأ بالفعل فصل الشتاء القاسي، على أوكرانيا نفسها في المقام الأول، وعلى أوروبا في المقام الثاني. بحيث يسعى الغرب حاليا لوقف ارتفاع الأسعار والتملص من تكلفة حرب الطاقة.

سيناريوهات القِمة المنتظرة

يوجد عدد من السيناريوهات للنتائج التي من المرجح أن تترتب على اللقاء المقبل بين موسكو وواشنطن، من ضمنها أن يتفق الجانبان على الامتثال لكافة بنود المعاهدة الحالية بدون إضافة أي تعديلات عليها وهو الخيار الذي سيسمح بمواصلة السيطرة الثنائية للولايات المتحدة وروسيا على المخزون النووي العالمي من خلال إطالة أمد الاتفاقية السابقة. وهناك سيناريو اعتماد اتفاقية جديدة بدون التصديق الإلزامي عليها،  ذلك وصولًا إلى إبرام معاهدة جديدة تمامًا بشكل رسمي، ويتطلب هذا الخيار الأخير موافقة تشريعية من البلدين عليهما، لذلك قد يتطلب تنفيذه فترة من الزمن وهو الشيء الذي لا يتوافر في الخيارين الأوليين. وعلى كل حال، يتطلب تأسيس معاهدة جديدة تمامًا الوصول إلى حل وسط وتنازلات من قِبَل الطرفين.

وفي حين من الممكن القول إن واشنطن ستذهب إلى المحادثات حاملة في جعبتها ثلاثة أهداف رئيسة، تتمثل في: الإبقاء على الحدود النووية المتبادلة في المعاهدة لما بعد العام 2026، والسيطرة على الأنواع الجديدة من الأسلحة الروسية، والحد من جميع الأسلحة النووية الروسية بوجه عام. بالإضافة إلى الوصول لتوافق بشأن استئناف عمليات التفتيش على المنشآت النووية مرة أخرى.

وليس من المتوقع أن يكون أي من البنود السالف ذكرها محل خلاف، عدا الجزء المتعلق بالأسلحة الروسية المبتكرة حديثًا، أي ما بعد 2010، فهذه النقطة تعد موضع خلاف حيث لا تعترف موسكو بأنها أسلحة تندرج تحت بند الأسلحة النووية بينما ترى واشنطن العكس. فضلًا عن أن الحد من جميع الأسلحة النووية الروسية أيضًا يعد تحديًا كبيرًا، خاصة مع امتلاك روسيا لأسلحة نووية غير استراتيجية سيتطلب إدراجها في معاهدة الحد من الأسلحة النووية جهدًا كبيرًا وثقة متبادلة جديدة بين الدولتين. وتشير الاحتمالات إلى أن أي تقدم ستحرزه موسكو في الملف النووي سيكون مرهونًا بتنازلات غربية مرغوبة في ملف الحرب في أوكرانيا، مثل تخفيف العقوبات وتجميد الحرب.

وبسؤال ختامي حول إمكانيات عقد لقاء بين الجانبين والنتائج المنتظرة من ورائه، نجد أن ما حدث هو مجرد “إرجاء” وليس “إلغاء”، والأهم أن فكرة الاجتماع قائمة حتى وإن استمر انتظارها لأسابيع غير محددة. وهو شيء يُبرهن، كما سلف الذكر، على نية الطرفين لإحداث انفراجة في علاقتهما. وعلى هذا الأساس، ربما يكون من المنتظر أن يحقق اللقاء المنتظر جزءًا ولو بسيطًا من الآمال المعلقة عليها؛ من حيث الوصول إلى توافقات بشأن استئناف عمليات التفتيش أو بشأن النقاط المتعلقة بالأسلحة الروسية الجديدة التي تم ابتكارها في الفترة ما بعد العام 2010. ومن المؤكد بشكل لا لبس فيه أن الخطوط العريضة لأهداف هذه القمة تتقاطع وتتشابك مع مسار الحرب الروسية الأوكرانية، وليس هنا شك في أن أي انفراجة محتملة بين الجانبين ستنعكس بالتبعية على الحرب.

وختامًا، ربما أيضًا يكون من الأجدر القول إن هذه القمة حتى ولو لم تكن ستخرج بنتيجة ملموسة، فإن مجرد جلوس وفدي البلدين إلى طاولة المفاوضات، أي مفاوضات، وسط الأجواء الحالية المشحونة بالتوتر، سيكون بحد ذاته إنجازًا يمنح الجمهور العالمي المتضرر من الانعكاسات الاقتصادية للحرب خيطًا ولو رفيعًا من الأمل بشأن احتمالات اقتراب موعد انتهاء الحرب أو على الأقل وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74216/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M