اِستفاقَة جيوسياسية: سياسات التوسُّع الأوروبي في غرب البلقان وآفاقها

في 6 ديسمبر الجاري عقد زعماء دول غرب البلقان قمةً مع نظرائهم في الاتحاد الأوروبي في العاصمة الألبانية تيرانا، حول مستقبل المنطقة وعلاقتها بالوحدة الأوروبية، سبقها حراك دبلوماسي واقتصادي أوروبي تجاه البلقان. يأتي ذلك بعد تردد أوروبي طويل حول الاهتمام بالمنطقة وإمكانيات ضمَّها إلى مجال الاتحاد. وقد جاءت الحرب الأوكرانية-الروسية لتعيد المسألة إلى دائرة الاهتمام الأوروبي، نظراً للأهمية الجيوسياسية التي يلعبها البلقان الغربي بوصفه منطقة صراع نفوذ بين قوى دولية مناوئة للأوروبيين.

 

تُحلل هذه الورقة السياسات الأوروبية الجديدة تجاه غرب البلقان، من خلال محاولة الكشف عن سياقها، وأهدافها، وأهم التحديات التي يمكن أن تعترض تحقيقها، ومساراتها المستقبلية المتوقعة.

 

السياق وأهداف سياسة التوسُّع الأوروبية

شهدت الأسابيع التي سبقت قمة الاتحاد الأوروبي وغرب البلقان في ألبانيا، حراكاً دبلوماسياً واسعاً من الجانب الأوروبي تجاه دول غرب البلقان الست: ألبانيا، والبوسنة والهرسك، وكوسوفو، والجبل الأسود، ومقدونيا الشمالية، وصربيا. فقد عقدت في شهر يونيو قمة مسار برلين لغرب البلقان، وهي منصة تأسست في عام 2014 لجميع دول غرب البلقان، لتسريع المواءمة الوثيقة مع الاتحاد الأوروبي وتعميق التكامل والتعاون الإقليمي. وخلال هذه القمة، انتقد زعماء البلقان علناً، وبشدة، الاتحاد الأوروبي لعدم إحراز تقدم في محادثات الانضمام، وسط خيبة أمل من أن المفاوضات لم تبدأ أو توقفت، بعد سنوات من وعدهم بالعضوية النهائية في الاتحاد الأوروبي.

 

وقد دفع هذا الأمر الاتحاد الأوروبي إلى تسريع دراسة مسارات انضمام دول البلقان إلى مجاله. ففي 12 أكتوبر الماضي، اعتمدت المفوضية الأوروبية حزمة التوسيع لعام 2022، التي قدمت تقييماً مفصلاً لحالة التقدم الذي أحرزته دول المنطقة، كما أوصت المفوضية مجلس أوروبا بأن يمنح المجلس وضع المرشح للبوسنة والهرسك. وكان مفوض الجوار والتوسع الأوروبي، أوليفر فارهيلي، واضحاً في تقديم حزمة هذا العام، إذ قال: “إن سياسة توسيع الاتحاد الأوروبي هي استثمار جيوستراتيجي في سلام قارتنا الأوروبية، واستقرارها، وأمنها، ونموها الاجتماعي والاقتصادي. ومن مصلحتنا المشتركة تسريع عملية التكامل، بدءاً من غرب البلقان، حيث استثمرنا لسنوات عديدة لتقريبها من الاتحاد الأوروبي”. أما الممثل الأعلى للاتحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل، فأشار إلى أن “الغزو الروسي لأوكرانيا يُبرز أهمية توسع الاتحاد الأوروبي، الذي يكتسب أهمية جيوسياسية جديدة. إنه استثمار طويل الأجل في السلام والازدهار والاستقرار”.

 

وبعكس القمم السابقة، خرجت القمة الأخيرة بمنجزات ملموسة، على الأقل بالنسبة للجانب البلقاني، وكشفت عن جدية أوروبية هذه المرة في التوجه نحو الجوار. فقد أعلن الأوروبيون عن تقديم عن دعم لقطاع الطاقة بقيمة مليار يورو، وبحيث ينقسم إلى جزئين: 500 مليون يورو لدعم الميزانية المباشر، والنصف الثاني، 500 مليون يورو، في البنية التحتية. وكذلك اعتماد 40 مشروعاً رائداً بقيمة 1.8 مليار يورو.

 

هذه الاستدارة الأوروبية اللافتة نحو البلقان تعد جزءاً من “استفاقة جيوسياسية أوروبية” فرضتها الحرب الأوكرانية الروسية، مع أنها تحمل أهدافاً أبعد من مجرد الحرب، بحكم أن غرب البقان جيب جغرافي واسع في جوار الاتحاد الأوروبي تتنازعه القوى الدولية غير الصديقة مثل روسيا والصين، وكذلك إطلالته على المياه الدافئة، حيث يشكل طريقاً بديلاً لتدفقات الهجرة الواسعة، سواءً من المشرق أو من جنوب المتوسط، وبالتالي فإنه يعد بوابةً رئيسة لدخول الاتحاد الأوروبي.

 

وإجمالاً، يمكن تقسيم الأهداف الأوروبية من هذه الاستدارة إلى ركيزتين أساسيتين:

 

1. كبح مخاطر التنافس الجيوسياسي: بعثت محاولة روسيا لغزو أوكرانيا حياة جديدة في السياسة التوسعية للاتحاد الأوروبي، وأعادت تركيز اهتمام أوروبا على ساحتها الخلفية، حيث باتت أوروبا الغربية مُدركةً لمخاطر سياسة الإحجام عن التوسع شرقاً وعواقبها الجيوسياسية، مما يخلق فراغاً تعمل روسيا والصين بالفعل على ملئه. ولطالما سعت موسكو إلى لعب دور من خلال دعم حلفائها الصرب؛ وهو هدف يعود فعلياً إلى قرون مضت، حيث طورت الإمبراطورية الروسية روابط ثقافية وسياسية ودينية وثيقة مع البلقان. ومع السيطرة على المنطقة المتنازع عليها من قبل القوى الغربية الكاثوليكية والإمبراطورية العثمانية، قدمت روسيا نفسها بوصفها حليفاً وراعياً للسُّلاف المسيحيين الأرثوذكس، خاصة في بلغاريا ورومانيا وصربيا. وفي عهد بوتين، سعت روسيا إلى استعادة دورها كوسيط قوي في السياسة الأوروبية، حيث شكلت البلقان نقطة مركزية في حجج بوتين لعودة “التعددية القطبية” في الشؤون العالمية، على عكس ما يراه النظام الأحادي القطب الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. ويركز نهج روسيا على إيجاد وسائل منخفضة التكلفة أو غير متكافئة لإبطاء اندماج البلقان في المؤسسات الغربية، مع تعميق العلاقات مع صربيا والجماعات الصربية في جميع أنحاء المنطقة. ويسعى هذا النهج إلى استغلال الانقسامات الإقليمية وتضخيم التوترات بين المجتمعات العرقية والدينية. كما تُمارس روسيا نفوذها من خلال الروابط الدينية، إذ تتطلع الكنيسة الأرثوذكسية الصربية إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الأكبر لدعم مطالبها في كوسوفو، التي تحتوي على بعض أقدس الأماكن الدينية للأرثوذكسية.

 

في المقابل، يأخذ النفوذ الصيني في غرب البلقان شكله التقليدي الاقتصادي. فبيجين تعمل على تحسين وضعها في العديد من القطاعات الرئيسة، مثل الطاقة والبنية التحتية. وعلاوة على ذلك، شهدت السنوات القليلة الماضية توسُّعاً للأنشطة التي تتجاوز الاقتصاد، وتتجاوز التفاعل مع مؤسسات الدولة. فهناك الآن مشاركة صينية أكبر في الثقافة والأوساط الأكاديمية والتعليم والإعلام، وحتى مع مجموعة من الأحزاب السياسية والحكومات المحلية. وتعمل الصين أيضاً على تطوير قاعدة أوسع من الشركاء المهتمين داخل دول المنطقة، لتعزيز التأثير الذي تمارسه هناك. وبسبب الأزمات الاقتصادية الدورية، تجد الصين فرصاً لدخول القطاعات الحيوية في دول المنطقة، كما تُنفِّذ سياستها النقدية في الإقراض بشروط ميسَّرة، حيث مثلاً تبلغ نسبة الديون المستحقة للجبل الأسود للصين نصف قيمة ناتجها الإجمالي.

 

2. احتواء الهجرة وتأمين الحدود: الهدف الثاني من الاستدارة الأوروبية نحو غرب البلقان – والتي لا تقل أبداً أهميةً عن مسألة النفوذ الجيوسياسي – هو التعاطي مع مسألة الهجرة وتأمين إدارة حدود المجال الجغرافي، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار أن طريق البلقان يُعدّ أشهر دروب تدفقات الهجرة غير النظامية نحو دول الاتحاد الأوروبي؛ فمن خلال هذا الطريق تدفق الملايين قادمين من سوريا وأفغانستان والعراق وغيرها من مناطق النزاع في المشرق. وقد تحول خلال العام الماضي إلى طريق مفضَّل لتدفقات الهجرة من شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، عبر صربياً تحديداً. وتعد منطقة البلقان ثغرة جغرافية خطيرة بالنسبة للمجال والحدود في الاتحاد الأوروبي، لذلك يسعى الأوروبيون إلى تأمينها بعد فشلهم في معالجة أسباب الهجرة في دول الإنطلاق. وقبل قمة الاتحاد الأوروبي وغرب البلقان، قدمت المفوضية الأوروبية خطة عمل للاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة وإدارة الحدود في المنطقة، وتُحدد هذه الخطة سلسلة من الإجراءات لتعزيز دعم الاتحاد الأوروبي للدول الأعضاء التي تواجه ضغوطاً متزايدة من الهجرة على طول طرق غرب البلقان. وتقوم على خمس ركائز أساسية: تعزيز إدارة الحدود على طول الطرق، وضمان إجراءات اللجوء السريعة ودعم القدرة على الاستقبال، ومكافحة تهريب المهاجرين، وتعزيز التعاون بشأن الترحيل، وتحقيق توافق حول سياسة التأشيرات.

 

التحديات

تواجه السياسات الأوروبية الجديدة تجاه غرب البلقان تحديات عديدة يمكن أن تحول بينها وبين أهدافها، يمكن حصرها في ثلاثة تحديات رئيسة:

 

1. تنامي التنافس الجيوسياسي: ستكون السياسة الأوروبية في مواجهة مع قوى ذات نفوذ، بعضه قديم مثل روسيا، وبعضه حديث وذو تأثير قوي مثل الصين، إلى جانب النفوذ التركي الواضح في المناطق البلقانية ذات الغالبية المسلمة في البوسنة وألبانيا وكوسوفو. فما زالت موسكو تتمتع بنفوذ كبير في صربيا يمكن أن يكون عامل تأزيم للمنطقة، خاصة في سبيل توتير علاقة بلغراد مع جيرانها، واللعب على التناقضات التاريخية العرقية والدينية في المنطقة. وكثيراً ما استفادت موسكو من استياء الصرب العرقي من حملة الناتو عام 1999 التي أدت إلى إنشاء كوسوفو كدولة مستقلة. كما تملك موسكو نفوذاً على قادة صرب البوسنة. وبعد الحرب الأوكرانية وعلى الرغم من تصويت بلغراد لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في مارس 2022 الذي يدين هجوم روسيا على أوكرانيا، إلا أنها حصلت على عقد مدته ثلاث سنوات للغاز الروسي المخفض بشدة في مايو 2022.

 

ومع ذلك يبقى النفوذ الروسي أقل شأناً من النفوذ الصيني، إلا أن الصين يمكن أن تجد مع الأوروبيين تفاهمات في البلقان، حيث تتركز أهدافها في المنطقة على دوافع تجارية. وفي الواقع، لا يتعلق اهتمام الصين الرئيس بغرب البلقان في المقام الأول بدول المنطقة على هذا النحو، ولكن بقربها من الاتحاد الأوروبي، وهو سوق تصدير رئيس للصين. وبالتالي، فإن المبادرة الرئيسة على مستوى المنطقة للحكومة الصينية لغرب البلقان هي طريق الصين-أوروبا البري والبحري السريع، أحد مكونات مبادرة الحزام والطريق، وهو ممر نقل يربط الصين وأوروبا عبر اليونان وغرب البلقان، حيث تنتقل البضائع المعبأة في حاويات عن طريق البحر من الصين إلى ميناء بيرايوس في اليونان، ومن هناك تُنقَل بالقطار عبر مقدونيا الشمالية وصربيا وصولاً إلى داخل الاتحاد الأوروبي نحو المجرّ وجمهورية التشيك. ونفوذ الصين في المنطقة على أساس العلاقات السياسية أو الأمنية يظل محدوداً، والمتغير الأبرز في هذا الصدد هو حاجة صربيا للدعم الصيني في مجلس الأمن الدولي من أجل منع كوسوفو من أن تصبح عضوا في الأمم المتحدة. ومع ذلك، لا تعتمد صربيا حصرياً على الصين، حيث تلعب روسيا نفس الدور.

 

2. الصراع الصربي-الكوسوفي: إن الصراعات العرقية الدينية التي شقت المنطقة على مدى عقود ما زالت حاضرةً بقوة في المشهد. ويعد الصراع الصربي-الكوسوفي نقطة خلافة رئيسة أمام وحدة المنطقة، وأمام انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. ويسعى الأوروبيون إلى طرح مبادرات للحل النهائي، مع أنهم يعترفون بسيادة كوسوفو بالضد من السياسة الصربية التي لا تزال تعتبر الإقليم تابعاً لبلغراد. والمؤكد أن الخلفية التاريخية للصراع لن تكون عامل سهلاً في حله، مع وجود قوى قومية ويمينية متطرفة في صربيا لا تزال تحظى بقاعدة اجتماعية واسعة. ففي سبتمبر 2021، بدأ بعض صرب كوسوفو في رفض الالتزام بالقواعد الجديدة التي وضعتها حكومة كوسوفو فيما يتعلق ببطاقات الهوية ولوحات أرقام السيارات. وفي هذا العام، قرر المسؤولون من صرب كوسوفو سحب مشاركتهم في مؤسسات كوسوفو، بما في ذلك البرلمان. وفي الشهر الماضي، لم ينتج عن اجتماع مطول برئاسة الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، مع رئيس وزراء كوسوفو، ألبين كورتي، ورئيس صربيا ألكسندر فوسيتش، أيّ حل لهذه القضايا.

 

3. ضعف الإجماع الأوروبي: إلى جانب العوامل الموضوعية، يوجد عامل ذاتي يتعلق بالدول الأوروبية يمكن أن يشكل عائقاً أمام سياسات الاتحاد الجديدة للتوسع في غرب البلقان، ويتمثَّل في التردد وعدم الإجماع داخل الاتحاد حول انضمام دول البلقان الست، إذ من جهة تبدو شروط التوسع الأوروبي شرقاً صعبةً، بل ومستحيلةً بالنسبة للعديد من الدول في الجوانب الاقتصادية خاصةً، إضافةً إلى الجوانب المتعلقة بسيادة القانون والشفافية والإصلاح الإداري والقضائي. فقد توقفت عملية التوسيع فعلياً منذ انضمام رومانيا وبلغاريا في عام 2007، وأعرب العديد من الأعضاء الغربيين عن أسفهم لأن الدول المُنضمَّة مؤخراً مثل المجر وبولندا تنتهك معايير الاتحاد الأوروبي بشأن سيادة القانون والديمقراطية.

 

الآفاق المستقبلية

من المتوقع أن يواصل الاتحاد الأوروبي خلال العام المقبل المُضي في سياسته الجديدة تجاه غرب البلقان وتعزيزها، عبر المساعدات الاقتصادية، من أجل تخفيف النفوذ الصيني في المنطقة ودعم اقتصاديات الدول الست كي تلبي المعايير المطلوبة للانضمام للاتحاد. وكذلك عبر المُضي في مبادرة الحلّ للخلافات السياسية في كوسوفو، بوصفها معضلة رئيسة يجب حلها قبل الشروع في أي مسار انضمام بالنسبة لصربيا وكوسوفو.  وفي ظل ضعف الدور الروسي مع الحرب الأوكرانية وتزايد ترابط المصالح الاقتصادية الأوروبية الصربية، من المتوقع أن تجد القضية الكوسوفية حلاً قريباً يفتح المجال أمام بلغراد للمضي نحو الانضمام إلى المجموعة الأوروبية، وكذلك كوسوفو.

 

أما على المدى الطويل، فمن المتوقع أن يتعامل الاتحاد الأوروبي مع دول غرب البلقان بشكل منفرد، على أساس وحدة جغرافية وسياسية، فيما يتعلق بمسارات الانضمام، حيث يمكن أن تنضم دول قبل أخرى وفقاً للتقارير النهائية لحزمة التوسع التي تصدرها المؤسسات الأوروبية نهاية كل عام. وتوجد دول في المنطقة أقرب إلى ذلك من خلال مطابقة المعايير المطلوبة في الاقتصاد والبيئة وحكم القانون والديمقراطية، من مجموع الدول المرشحة رسمياً، وهي: مقدونيا الشمالية، والجبل الأسود، وصربيا، وألبانيا، والبوسنة والهرسك.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/scenario/aistfaqa-jiusiasiya-siasat-altawasue-al-uwrubiyi-fi-gharb-albalqan-wafaquha

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M