باتريك كوبيرن
تعجز بريطانيا في التعامل مع جائحة كوفيد-19 بشكل جيد كما تفعل دول أخرى في أوروبا وشرق آسيا. فمن بين 62000 حالة “وفاة زائدة” في المملكة المتحدة، “كان من الممكن تجنب 40000 حالة وفاة لو أن الحكومة تصرفت بمسؤولية”، كما يقول السير ديفيد كينغ كبير المستشارين العلميين السابق.
كان الفشل مدمّراً، إذ توفي 359 شخصاً بسبب فيروس كورونا في المملكة المتحدة في يوم واحد هذا الأسبوع، أي أكثر من عدد الوفيات في كل دول الاتحاد الأوروبي الـ 27 على مدار فترة الـ 24 ساعة نفسها. كما أن المملكة المتحدة بدأت في الخروج من حالة الإغلاق بينما لم تتم السيطرة بعد على الجائحة على الرغم من كل التدمير الذاتي للاقتصاد.
وهناك سببان رئيسيان يفسران تحوّل الأزمة في بريطانيا إلى كارثة. يتمثل الأول في العواقب السياسية للبريكست التي اتضح أنها أكثر فتكاً وسرعة من أي ضرر اقتصادي محتمل. فقد تبيّن الآن أن أسوأ نتيجة للاضطرابات التي أحاطت بمغادرة الاتحاد الأوروبي كانت تسليم بريطانيا إلى قيادة عديمة الكفاءة على نحو مذهل خلال واحدة من أسوأ الأزمات في التاريخ البريطاني.
ففي هذه الأيام، يظهر بوريس جونسون، عندما يظهر، مثل مهرّج سطحي يروّج لنفسه، وذلك كما وصفه منتقدوه بمن فيهم العديد من الذين يعرفونه جيداً ممن قالوا إنه كان دائماً كذلك. وفيما تتضاعف إخفاقات حكومته، يبقى موقفه المألوف هو التهرب والإنكار، فهو أبلغ مجلس العموم أنه كان “فخوراً جداً بما حققنا”،
في اليوم نفسه الذي تجاوزت فيه بريطانيا (66 مليون نسمة) الاتحاد الأوروبي بأكمله (446 مليون نسمة) من حيث عدد الوفيات.
في معظم الأوقات، لا يهم كثيراً من يدير بالاسم دولة إن كان سلك خدمتها المدنية فعالاً، بيد أننا لسنا حالياً في واحدة من تلك الأوقات. فهناك أحكام تتسم بأهمية قصوى لحياة الناس وسبل عيشهم وينبغي إجراؤها. لكن في هذه اللحظات الحرجة تكتشف بريطانيا عن أنها تُدار على طريقة ثنائي المسرح الغنائي الإنجليزي غيلبرت وسوليفان. ويعتبر التشبيه هنا ملائماً للغاية، إذ يبدو جونسون، بكلامه المنمق الذي يعكس أرستقراطية زائفة وبتعاملاته المشبوهة، قريباً للغاية من شخصية “دوق بلازا تورو” في مسرحية “غوندوليرز” الذي “قاد كتيبته من الخلف/وجدها أقل إثارة”. في حين تُذكّر شخصية كبير مستشاري جونسون دومينيك كامينغز الشريرة وأفعاله المريبة، بشدة بتلك التي قام بها “المحقق الكبير” في الأوبرا ذاتها.
يعتقد الجميع تقريباً من خارج الحكومة بأنها لم تنجح في استباق التطورات في أي مرحلة من مراحل الوباء، وأنها كانت متخلفة على الدوام، وفي كثير من الأحيان ذهبت في الاتجاه الخطأ.
إن قائمة الأخطاء طويلة، تشتمل على الاستهانة بالتهديد الذي يشكله الفيروس، وعدم الاستعداد لمواجهته من خلال التعجيل بشراء المعدات الضرورية، وإجراءات الاختبار والتتبع المتأخرة وغير الكافية، وإرسال المصابين الذين لم يخضعوا للاختبار إلى دور الرعاية، وعدم فرض لبس أقنعة الوجه في وقت مبكر، بالإضافة إلى الاستعداد الفوضوي لاستئناف الحياة الطبيعية والنشاط الاقتصادي. ويحتمل أن تبقي هذه الأخطاء مجتمعة بريطانيا في حالة شبه مغلقة في المستقبل المنظور.
اشتهرت بريطانيا يوماً بامتلاكها واحدة من أكثر الطبقات السياسية ذكاءً في العالم التي تعمل من خلال إحدى أكثر الأجهزة الإدارية فعالية. لكن لم يعد الأمر كذلك، وكانت الجائحة نقطة التحول. فطوال الوقت، أظهر جونسون ووزراؤه الذين يعتبرون دون المستوى، إحساساً مخيفاً، ليس بسبب خبثهم، بل بفعل افتقارهم إلى الاحترافية في العمل، وكانوا ضعفاء في حيرة حيال ما يحدث وغير قادرين على التعلم من التجربة.
هكذا تدفع بريطانيا ثمناً باهظاً لقاء مشروع بريكست الغريب برمته. ولا يعود ذلك في جزئه الأكبر إلى الضرر الاقتصادي الذي لا شك في أن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيلحقه بالبلاد، ولكن إلى القادة غير الأكفاء الذين أدى المشروع إلى ترقيتهم ليتسلموا السلطة. فأي شخص اعتقد بصورة جدية أن مشاكل بريطانيا نابعة في المقام الأول من عضويتها في الاتحاد الأوروبي كان إما مجنوناً أو انتهازياً أو ببساطة شخصاً غير مطّلع جيداً. وعلى الرغم من ادعائهم رؤية مستقبل ذهبي لبريطانيا في الميدان العالمي، كان دعاة البريكست الذين لم يخجلوا لكونهم “ليتل إنغلاندرز” (إنجليز ضيّقو الأفق) الذين عبرت عن عزلتهم بشكل دقيق نشرة الطقس المصطنعة التي أشار إليها عنوان شهير أبرزته صحيفة بريطانية وجاء فيه “الضباب في القناة، أوروبا باتت معزولة”.
أعاقت هذه النظرة الضيقة، منذ بداية الأزمة، التعاون مع الدول الأخرى أو حتى التعلم من تجاربها. وربما أن غريزة أنصار البريكست للوقوف بمفردهم باعتزاز في تحدٍ للواقع، هي ما يفسر قرار فرض الحجر الصحي مدة 14 يوماً على المسافرين الذين يصلون إلى بريطانيا، حيث ما زال فيروس كورونا منتشراً، على الرغم من أنهم قد يأتون من بلدان استطاعت احتواءه إلى حد كبير. هذا يذكرني بأسفاري في تسعينيات القرن الماضي إلى روسيا والعراق حيث كان يُطلب من جميع الوافدين الخضوع لاختبار الإيدز في حين كانت الأنظمة الصحية في كلا البلدين منهارة والأمراض تنتشر فيهما بشكل جامح.
أما السبب الثاني لمعدل الوفيات “القياسي عالمياً” في بريطانيا، لاقتباس عبارة التباهي الشهيرة لجونسون، فيكمن في النسبة التي تلاشت بها القدرة التشغيلية لحكومة المملكة المتحدة في العقود الأخيرة. وعلى سبيل المثال، يقدم الوزراء ادعاءات الواثق بنفسه بشأن توفير الاختبارات والتتبع، ومعدات الحماية الشخصية، وتطبيق لمنع انتشار المرض، والمبادرات الأخرى؛ ولكن لا شيء يحدث أو يتوقف التسليم أو لا يمكن الاعتماد عليه.
هكذا تكتشف بريطانيا بصعوبة مدى الضعف الذي أصاب جهازها الإداري بسبب التخفيضات والتعاقد الخارجي. فقد احتكرت الحكومة المركزية السلطة والموارد، وحرمت السلطات المحلية من كليهما، على الرغم من أن هذه الأخيرة مطالبة بأن تكون في طليعة منفذي إجراءات “الاختبار والتتبع” المتطورة للغاية. وفي هذا الصدد، يوجز جيداً مقال افتتاحي نشرته مجلة “بريتيش ميديكال جورنال” لكاتبها الرئيس البروفيسور مارتن ماكي، وهو أستاذ للصحة العامة الأوروبية، ما حدث قائلاً إن “الخدمة المدنية الجوفاء لطالما تحولت إلى شركات التعاقد الخارجي على الرغم من إخفاقات هذه الشركات المتكررة. فقد عانت الشركات القليلة الخبرة في محاولة تنظيم اختبارات الفيروس أو تتبع المخالطين. كما أن مهمة تنسيق الأنشطة مع المنظمات القائمة، مثل مختبرات خدمات الصحة الوطنية أو مع إدارات الصحة العامة المحلية، معقدة للغاية بالنسبة إلى نموذج أعمالها التجارية”.
في هذا السياق، يعد الاختبار والتتبع إجراءين أساسيين في محاولة الحكومة احتواء الجائحة. وهذا ليس مفاجئاً، إذ إن الدكتور جون سنو، وهو أحد مؤسسي علم الأوبئة الحديث، رسم خريطة لضحايا الكوليرا لأول مرة في سوهو بلندن عام 1854 من أجل تحديد مكان ظهور الكوليرا (الذي كان مضخة مياه تنتج مياهاً ملوثة). ومنذ ذلك الحين، جرت الاستعانة بحملات “تتبع وتعقب” أكثر تعقيداً للسيطرة على الأوبئة أو احتوائها. يحتاج عمل استقصائي ذات طابع بوليسي كهذا إلى مستجوبين مدربين جيداً من أصحاب الخبرة لإقناع الغرباء تماماً بالكشف عن تحركاتهم واتصالاتهم. ويعزو مسؤولو الصحة الألمان اليوم نجاحهم في السيطرة على الوباء في بلادهم بحلول 17 أبريل (نيسان) إلى نظام “اختبار وتتبع” منظم للغاية، بعد ستة أسابيع فقط من أول وفاة بالفيروس.
في بريطانيا، وُظف 25000 شخص للعمل كمتتبعين، وجرى استقطابهم جزئياً عبر شركات خارجية، فبينهم 10000 متتبع جرى توظيفهم عبر شركة “سيركو” ومقاوليها. ولم يعلم مديرو الصحة العامة بإطلاق برنامج الاختبار والتتبع قبل موعده بأربعة أيام حتى صباح إعلان إطلاقه. واتضح الآن أن هذا البرنامج لن يعمل بشكل كامل قبل حلول سبتمبر (أيلول) أو أكتوبر(تشرين الأول)، وفقاً للرئيس التنفيذي للمشروع.
وينصّ التفسير الرئيس الذي قدّمته الحكومة على أنها، إلى جانب جميع الحكومات في العالم، فوجئت بسرعة الفيروس وشراسته. كان هذا العذر سيحظى ببعض الصدقية لو جاء في فبراير (شباط) أو حتى مارس (آذار)، ولكن ليس في الوقت الحالي، بعدما قتل فيروس كورونا حوالى ضعف عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم في “ذا بليتز” (قصف ألمانيا النازية لندن أثناء الحرب العالمية الثانية) التي أوقعت 32 ألف قتيل. والأدهى أن معظم ضحايا فيروس كورونا كان يجب أن يبقوا على قيد الحياة.
رابط المصدر: