بسط الرزق وتضييقه _ الجزء الأول _ تأملات قرآنية من الآية السادسة والثلاثين من سورة سبأ

بهاء النجار

 

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)

التأمل الأول :
كما هو واضح فإن أكثر الناس ( دولاً وأفراداً ) يسيرون وفق الفكر الرأسمالي للاقتصاد ، وبالتالي فهناك إيمان – قد لا يكون ظاهرياً – بأن الرزق ليس بيد الله تعالى مع الأسف ، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أم غير مباشرة ، وإنما هو جهد إنساني بحت ! بحيث أن السائرين تحت راية هذا الفكر لا يعترفون بالأحكام الشرعية التي يؤمنون بها إلا أن تخدم أهدافهم الرأسمالية وتوسع مشاريعهم الاقتصادية ، كما هو الحال في المصارف الإسلامية إذ أصبحت إحدى وسائل نمو الأموال وليس لأن العمل بها يرضي رب العباد ، وإلا هناك الكثير من الأحكام الشرعية في الجانب الاقتصادي لا يؤخذ بها .

التأمل الثاني :
إن أكثر الناس لا يعلمون أن هناك رزقاً مادياً ورزقاً معنوياً ، وربما يعلمون ذلك ولكنهم لا يعطونه أهمية تناسبه ، وبالتالي فليس لذلك العلم أثر عملي في حياتهم ، وكما أنهم لا يطلبون الرزق المادي من رب الأرباب فإنهم لا يطلبون الرزق المعنوي منه إما غفلة أو لأنهم لا يعتبرونه بيد الله تعالى يبسطه لمن يشاء ويقدره على من يشاء ، كما أنهم لا يملكون مصاديق كثيرة للرزق المعنوي ، فأغلب المصاديق التي يعرفونها – إن لم نقل كلها – هي مصاديق دنيوية ذات أبعاد دنيوية كالصحة والراحة وما شابه ، أما المصاديق الأخروية كالهداية والعبودية لله جل وعلا وطاعته فلا تخطر في بالهم .

التأمل الثالث :
من يؤمن بأن الله تعالى يبسط الرزق ( المادي والمعنوي ) لا بد أن يلجأ الى الطرق السريعة والمختصرة والمثمرة التي لا تتوفر إلا في ساحة الرزاق الكريم ، وشهر رمضان المبارك من أفضل المحطات الزمانية التي تُستنزَل فيها الأرزاق المادية والمعنوية وخصوصاً في ليلة القدر التي تُقّدر فيها الأقدار لسنة كاملة ، وإذا استثمر المؤمن ما قُدِّر له من أرزاق معنوية في تلك السنة استثماراً جيداً فستكون تلك الأقدار المقدَّرة سبباً ومقدمة لأقدار أخرى لسنوات في المستقبل ( مثال الصدقة تنزل الرزق وتدفع البلاء وما شابه ) .
ولكن للأسف أكثر الناس لا يعلمون .

التأمل الرابع :
من سمات الربوبية وميزاتها هو بسط الرزق وتضييقه بحسب مصلحة المربوب ، ورب الأسرة ورب العمل وشيخ العشيرة ورئيس الدولة ممن يرغب التخلق بأخلاق الله تعالى عليه أن يسعى لتوفير مصادر الرزق لمن هم تحت رعايته وأبويته ، على أن يكون هذا الرزق عوناً لهم في حياتهم ليزيدهم قرباً من رب الأرباب ، أما إذا كان سبباً للابتعاد عن خالقهم وبارئهم فعليه توجيههم وتذكيرهم فإن لم ينفع معهم ذلك وكان التضييق عليهم أكثر نفعاً لهم في التقرب من الله سبحانه فليتجه نحن التضييق عسى أن يهديه الله تعالى .
هذا البسط والتضييق في الرزق ينبغي أن يكون من ضمن إستراتيجية الدولة التي تسعى لتربية أبنائها تربية دينية ، إذ لا يكفي أن يكون سُلّم الرواتب وفق الكفاءة فقط .

التأمل الخامس :
إن الله تعالى لا يعتدي على أهل مملكته ، كما نقرأ في بعض أدعية شهر رمضان ، وبالتالي فإن مشيئته سبحانه لا تؤدي الى إعتداء على أحد من مربوبيه ومخلوقيه ، فلا بسط الرزق إعتداءٌ عليهم ولا قدره وتضييقه كذلك ، بل وأكثر من ذلك ، فإن هذا البسط والتضييق في الرزق هو في مصلحة المربوب أولاً وآخراً ، فرغم أن الله جل جلاله مالك الملك والخلق كلهم تحت إمرته وسيطرته ومشيئته ، إلا أن رحمته ولطفه وحكمته هي المتحكمة بمشيئته جل وعلا ، بحيث يكون بسط الرزق فيه رحمة ولطف وحكمة وقدر الرزق وتضييقه يكون كذلك ، ومن مصاديق الرزق المعنوي هو البسط والتضييق في الرزق المادي .

التأمل السادس :
إذا علم الإنسان ووعى أن مشيئة ربه في بسط الرزق – سواء كان له أم للناس عموماً – وتضييقه تكون وفق حكمة إلهية وليست عبثية فقد بسط له ربنا رزقاً معنوياً بهدايته ، فهذا المستوى من العلم والوعي أحد ثمار الهداية وأحد مؤشراتها ، فمن بلغ هذا المستوى يمكن اعتباره من المهتدين بدرجة من الدرجات ومن لم يبلغه لم يكن مهتدياً من هذه الناحية ، ومن انعكس علمه ووعيه بتطابق المشيئة الإلهية مع الحكمة الإلهية على حياته وسلوكياته فإنه أهدى ممن بقي في حيز الإيمان العقلي .
وغالبية الناس – كما يثبت الواقع – لم يستوعبوا أن بسط الرزق وتضييقه وفقاً لحكمة مطلقة ، وإن استوعبوها نظرياً فإنهم لم يستوعبوها عملياً .

التأمل السابع :
إذا عرّفنا الجاهل بأنه من لا يعلم ، فإن أكثر الناس جهلة بعلاقة بسط الرزق وتضييقه بالله سبحانه ، سواء كان ذلك قصوراً أم تقصيراً ، وعليه فمن صفات الجاهل في القرآن أنه من لا يعلم بحقيقة البُعد الغيبي للرزق فيحصر أسبابه بالقضايا المادية والدنيوية ، وهي بلا شك أسباب موجودة لكنها ليست الوحيدة ، ولا يعلم بذلك إلا من يؤمن بالغيب .
ووفق ما تقدّم يمكن تغيير نظرتنا الى العالم والجاهل ، فقد يحمل الشخص شهادة عليا في إختصاصه لكنه جاهلٌ قرآنياً ، وقد يكون جاهلاً أمياً لا يعرف القراءة والكتابة إلا أنه قرآنياً غير جاهل .

التأمل الثامن :
من يبتعد عن تطبيق الأحكام الشرعية في مكسبه – سواء كان ذلك على المستوى الفردي أم على مستوى الدولة – فإنه لا يعلم ولا يؤمن (عملياً) بأن الله تعالى هو من يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وإيمانه ضعيف بربوبية ربه الذي ربّانا منذ صغرنا ونحن ضعفاء ، وبالتالي فهو جاهل من الزاوية القرآنية ، أما من يطبّق هذه الأحكام فهو غير جاهل قرآنياً ، حتى وإن كان في نظر الناس جاهل ، لأنه يعلم أن الرزق بيد الله سبحانه وليس بيد المخلوقين .
ويمكن استخلاص نتيجة ، أن الجهل الناجم عن الفقر بسبب تطبيق الأحكام الشرعية في كسب الرزق هو في الحقيقة علمٌ حتى لو تعاملت المنظمات الدولية معه كجهل .

التأمل التاسع :
هناك شبه إجماع على أن تطور كثير من الدول المتقدمة هو تطورهم في الاقتصاد الذي تأسس على أسس علمية رصينة ومتينة ، أما الدول الضعيفة فنرى اقتصادها مُنهاراً وذلك لأنه لم يكن وفق أسس علمية ، وهذا ما يوافق النظرة القرآنية للاقتصاد بشرط أن يكون هذا التطور الاقتصادي بما يطابق شرع الله تعالى ، فلا فائدة من التطور الاقتصادي من دون الالتزام بالضوابط الشرعية لأن الرزق بيد الله سبحانه ، وبالتالي على المسلمين أن يعلموا – وأن لا يكونوا ممن لا يعلمون – أن التطور الاقتصادي الذي شهدته بعض الدول ليس هو غاية الاقتصاد الإسلامي لأنه لم يراعِ المحددات الشرعية للاقتصاد .

 

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M