بين الإفراط والتفريط والانفعال: الاستراتيجية الإيرانية الجديدة في منطقة جنوب القوقاز

  • أخذت إيران وقتاً طويلاً لفهم التغيرات شديدة التعقيد على حدودها الشمالية الغربية. وتحاول طهران اليوم تصميم استراتيجية جديدة لها في منطقة جنوب القوقاز، لكنّها تبدو خطوة متأخرة للغاية.
  • لم تُظهِر روسيا على مدى العقدين الأخيرين رغبةً بمنح إيران دورًا نشطًا في جنوب القوقاز، وذلك عائدٌ لأسباب منها منح موسكو الأولويّة للتفاعل الروسي-التركي في المنطقة، وإخفاق طهران في تبنّي نهجٍ ثابت وخارج عن النمط الإيديولوجي المعتاد.
  • تجد إيران أن أفضل الخيارات المُتاحة حالياً هي العمل على استعادة توازن القوى بين أذربيجان وأرمينيا؛ وهو ما يتطلب كسب الوقت لاتخاذ خطوات جديدة، مع استخدام التهديدات والتطمينات في وقت واحد لكلٍّ من باكو ويريفان.

تتمثّل إحدى أكبر التهديدات التي تواجه طهران في منطقة القوقاز الجنوبي، بالتغييرات السريعة التي تحدث في توازنات القوى في هذه المنطقة؛ حيث يتزايد وزن ومجال تأثير المحور (الإسرائيلي-التركي-الأمريكي)، وبشكل خاص، حلف شمال الأطلسي، والغرب.

 

وبشكل عام، تعود هذه التطورات للتغيرات في السياسة العالمية، وزيادة نفوذ منافسي طهران في المنطقة؛ خاصة خلال العقدين الأخيرين، نتيجة لانشغال إيران في صراعات مختلفة على الساحة العالمية، وتصاعد نطاق التوتر مع الولايات المتحدة، وغيرها من الدول. وقد أدّى هذا الانشغال إلى إهمال أقسام متخصصة في وزارة الخارجية، حتى تم تجاهل التحليلات، والدراسات المتخصصة للأوضاع والتطورات السريعة في منطقة القوقاز .

 

وكانت طهران تتوقع أنْ تحقق تقدُّماً ملحوظًا في تحريك عمليّة السلام والتعاون في جنوب القوقاز، بعد استضافتها اجتماع مجموعة الـ (3+3) في طهران، تحت عنوان التعاون والتنمية؛ حيثُ تتطلّع طهران إلى تحقيق آمالها وأفكارها في المنطقة، بعد توقف وتقاعس دام عقدين من الزمان. وهي تلعب الآن دورًا فاعلًا، وتُعدُّ من الأطراف المؤثرة في المنطقة إلى جانب روسيا، وتركيا. وعلى سبيل المثال، تمكنت طهران من وضع خطة ممرّ آراس موضع التنفيذ، لكن الأوضاع الميدانية تُشير إلى أنّ اتفاقات اجتماع طهران، بقيت في معظمها حبرًا على ورق، كما كانت في الماضي، خصوصًا بعد هجوم “حماس” على إسرائيل، واشتعال حرب غزة؛ حيث تعتبر تل أبيب، طهران هي المحرض الرئيس وراء هجمات “حماس”.

 

ومن المتوقع أنْ تشهد المنطقة تصعيدًا مُتبادلًا متعدّد الأبعاد ضدّ طهران في جنوب القوقاز بعد انتهاء الأزمة في غزة؛ إذْ يعكس الواقع في أذربيجان استعدادها للتصعيد؛ حيث تواصل وسائل الإعلام في باكو هجومها على طهران، رغم الوقف المؤقت للتصعيد الإعلامي. وهو ما يشير إلى فضاء متجه نحو تصعيد التوتر بين البلدين إلى مستويات أكبر ممّا كانت عليه في الأشهر الست الماضية. خاصة إذا ما تمّ النظر إليه إلى جانب التحركات المناهضة لروسيا في يريفان، وتعقيد معادلات القوقاز من خلال جلب أطراف أجنبية أخرى ضد مصالح إيران إلى المنطقة.

 

لماذا تفاجأت طهران بالتطورات في منطقة القوقاز

أخذت طهران وقتًا طويلاً لفهم التغيرات الشديدة التعقيد على حدودها الشمالية الغربية؛ فمنذ ما يقرب من عقدين من الزمن، ولأسباب متعددة لم تعتبر إيران أنّ أذربيجان تُشكّل تهديدًا. وفي الوقت نفسه، كانت نظرة طهران تتغير حيال التهديدات المحتملة من أرمينيا، نتيجة للعلاقات الحميمية بين يريفان وواشنطن، ومواقف أخرى مشابهة. حتى أن طهران لم تأخذ على محمل الجدّ، الأخطار والتحركات التحريضية من جانب المحور القومي التركي الذي يعتقد كثيرون بأنه يسعى إلى انفصال المقاطعات الإيرانية الأربع الناطقة باللغة الأذرية. وهناك أسباب أدّت إلى ما يمكن تسميته “الفهم المتأخر” الإيراني لمصادر التهديد على الحدود الشمالية، منها: نفوذ اللوبي الأذربيجاني في المؤسسات الإيرانية المؤثرة في صنع القرار في السياسة الخارجية الإيرانية، وتقديمه معلومات غير صحيحة بشأن مسار التطورات في القوقاز، واعتماد إيران على معايير خاطئة، مثل تركيزها على البيانات الدينية لسكان أذربيجان الشيعة، وغيرها من البيانات التحليلية.

 

وبمعنى آخر، فإن ما يثار اليوم، كتهديد قوي بالنسبة لطهران، لا يقتصر على مسألة تغييرات الحدود فحسب، بل يتعلّق هذا التهديد بمستويات عدّة، منها: مساعي المنافسين الإقليميين إلى تنفيذ مشروع جيوسياسي وجيواقتصادي مشترك، وتوسيع الوجود الإسرائيلي في المناطق الحدودية الشمالية لإيران، والتحركات القومية الأذرية ذات الأهداف الانفصالية. وكلّ ذلك يجعل الوضع يصبح أكثر حساسية وأهمية بالنسبة لطهران. وتسعى إيران إلى تغيير هذه الديناميات السلبية التي تعمل ضدها، من خلال معارضة مشروع ممرّ “زنغزور” الذي تعتبره طهران ممرًّا لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، ولأتباع “الفكر التوراني” الساعين إلى تطبيق سياسات أردوغان التوسعيّة. وبالنظر إلى كل هذه الملاحظات، تحاول طهران اليوم تصميم استراتيجية جديدة لها في المنطقة، ولكنّها تبدو حتى الآن، خطوة متأخرة للغاية. وكان مستوى الصّدمة الإيرانية الناتجة عن هذه البيانات الخاطئة، واضحًا للعيان خلال حرب قره باغ الثانية في عام 2020؛ حيث كانت إيران حتى ذلك الحين، تراهن على استثماراتها الطويلة الأمد في مجال الأنشطة الإيديولوجية في أذربيجان.

 

غياب استراتيجية إيرانية لجنوب القوقاز حتى عام 2023

لم تُظهر روسيا على مدى العقدين الأخيرين رغبةً بمنح إيران دورًا نشطًا في جنوب القوقاز، وذلك عائدٌ لأسباب متعدّدة، منها: منح روسيا الأولويّة للتفاعل الروسي-التركي في المنطقة، وإخفاق طهران في تبنّي نهجٍ ثابت، وخارجٍ عن النمط الإيديولوجي المعتاد في هذه المنطقة. لاسيما في مجالات النقل، والاقتصاد، حيثُ لم تسعَ طهران لوضع استراتيجيات محدَّدة للربط المُوجَّه بين باكو وإيران؛ ممّا أدى بشكل مستمر إلى تدهور الأوضاع في جنوب القوقاز، وأثر سلبًا على إيران.

 

وقامت طهران خلال الحرب الأولى بين أذربيجان وأرمينيا، بدعم حكومة حيدر علييف في أذربيجان، خاصة بعد احتلال أرمينيا لإقليم “قره باغ” الذي كانت تصفه أدبيات إيران السياسية بأوصاف تشبه فلسطين المحتلة. وعلى الرغم من تأكيد طهران في كل المحافل على ضرورة عودة إقليم “قره باغ” بالكامل إلى أراضي أذربيجان، لكنّ العلاقات الإيرانية الأذرية ظلت تتراجع، وظل نفوذ إيران يتناقص في تلك المنطقة، حتى وصل الأمر إلى الحدّ الذي وجّه فيه القائد العسكري الأذربيجاني التحية إلى محافظة تبريز الإيرانية ذات الأغلبية الأذرية خلال عرض عسكري أُقيم في باكو بمناسبة انتصار أذربيجان في الحرب الثانية في 10 ديسمبر 2020؛ إذ أشاد القائد العسكري بتبريز من بين أسماء الوحدات المتميزة في الحرب. وقرأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي كان ضيفًا ومتحدثًا رئيسيًّا في العرض العسكري، الشعر المشهور “أرس” أو “آراز” الذي يُعبر عن رغبة الأتراك في ربط “باكو” و”تبريز”، وتكوين أذربيجان الموحدة.

 

وقام الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف بتوجيه رسائل تهديد، واستهزاء غير مباشرة إلى طهران، عبر استعراضه طائرات بدون طيار إسرائيلية تغزو السماء، وقيامه باللعب مع القطة (ترمز القطة إلى خريطة إيران التي تشبه القطة) في منطقة شوشي.  وأطلقت باكو حملة اعتقالات واسعة في أذربيجان لأشخاص مختلفين بتهمة التعاون، أو الولاء لطهران. وكانت تلك الإشارات بمثابة جرس الإنذار بالنسبة إلى طهران التي أدركت تمامًا صعوبة الظروف، والتناقضات التي تتعارض مع مصالحها الوطنية في جنوب القوقاز، بعد أكثر من عشرين عامًا من تقاعس المؤسسات الإيرانية المعنية بالسياسة الخارجية. وبدأت طهران التحرك لحل هذه المشاكل التي تأخرت كثيرًا في التصدي لها.

 

وبحسب العادة الإيرانية، كانت الخطوة الأولى في إيران، تتمثل في الإثارة، والمواقف العنيفة، والانتقادات المشحونة بالتهديدات، والكلمات اللاذعة؛ حيث كانت المؤسسات والوجوه الإيرانية تتنافس باستخدام هذه اللغة المحمومة ضدّ أذربيجان. ومع ذلك، لم تقدم طهران أية استراتيجية عملية، وقابلة للتنفيذ، لتغيير المعادلة الإقليمية غير المواتية.

 

وتوسعت في منطقة القوقاز الجنوبية المخاوف من الدور، والنفوذ الإيراني، والناجمة عن عدم وجود أي استراتيجية لإيران هناك سوى الإثارة والتهديد؛ حيث لم تكن هناك خطط استراتيجية من طهران تتضمن البعدين: الثقافي، والاقتصادي لتعزيز الروابط مع تلك الشعوب التي تربطها بإيران جذور عميقة.

 

وفي السنوات الأخيرة، استخدمت أذربيجان وسائل متنوعة للضغط على طهران، سواء عبر إطلاق حملات إعلامية تركز على فكرة أن إيران تنوي الإطاحة بحكومة باكو، أو عبر التصرفات العدائية تجاه سائقي الشاحنات الإيرانيين الذين يسعون للمرور من أذربيجان للوصول إلى روسيا؛ حيث كانوا يتعرضون إلى التأخيرات الطويلة في المناطق الحدودية التجارية، مثل “استارا”، أو يواجهون التهم بتهريب المخدرات، وغيرها. ومع ذلك، ظلّت طهران تمارس الحذر في مواجهة الضغوط الأذربيجانية نتيجة الضغوط المتزامنة التي كانت تتعرض لها طهران، وبالنظر إلى المخاوف المرتبطة بالوحدة الوطنية في إيران، واحتمالات تأثر المحافظات الإيرانية ذات الأغلبية الأذرية.

 

وتتهم أذربيجان طهران بتهريب المواد المخدرة عبر سائقي الشاحنات الناقلة للبضائع. وتكرّر إعلان هذه الاتّهامات من مسؤولي أذربيجان على أعلى المستويات حتى من طرف الرئيس إلهام علييف. فيما كرّرت طهران نفي هذه الاتّهامات، واعتبرتها جزءًا من سيناريو سياسي يُستخدم كوسيلة للضغط، ولافتعال الخلافات بين باكو وطهران على مدى السنوات الأخيرة.

 

أولوية طهران الجديدة للتفاعل المتعدد الأبعاد في جنوب القوقاز

مع استمرار النزاع الطويل بين روسيا وأوكرانيا، وتوافقات موسكو مع باكو وأنقرة، واستمرار التصعيد من جانب حكومة “نیکول باشينيان” في أرمينيا، وتوسيع الحضور الغربي، وخاصةً الأمريكي، والاحتمال المتزايد لتعزيز حضور حلف شمال الأطلسي قرب الحدود الإيرانية، واستمرار تصاعد التهديدات من الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، والتهدئة المتزامنة بين باكو ويريفان، تجد إيران أن أفضل الخيارات المُتاحة، هي العمل على استعادة توازن القوى بين أذربيجان وأرمينيا؛ وهو ما يتطلب كسب الوقت، من أجل اتخاذ خطوات جديدة في هذا السياق، مع استخدام التهديدات والتطمينات في وقت واحد لكلّ من باكو و يريفان. وقد بدأت طهران بالفعل تزويد أرمينيا بالمُسيرات، وغيرها من الأسلحة التي من شأنها استعادة موازين القوة.

 

وأدى الهجوم على سفارة أذربيجان للمرّة الثانية في طهران إلى تصعيد التوتر بين البلدين إلى مستويات مثيرة للقلق، متجاوزًا التوقعات السابقة. ونتيجة لذلك، اقترح جزء من اللوبي الأذري داخل هياكل السلطة في إيران اعتقال شخصين من كبار مسؤولي “مجموعة حسينيون/ حركة المقاومة الإسلامية في أذربيجان” وهما (توحيد إبراهيم، وأورخان محمدوف) اللذين كانا نشطين في إيران منذ سنوات، ويُعتبران من المعارضين الأشدّاء لعائلة علييف، وتسليمهم إلى باكو. وذلك على الرغم من أن الرواية الرسمية الإيرانية ادّعت بأن هذه المجموعة لم تلعب أي دور في حادث الهجوم على السفارة الأذربيجانية؛ إذ قيل إن الفاعل كان فردًا مستقلاً بأهداف شخصية وعائلية. وبالفعل، تم استدعاء هذين الشخصين، واحتجازهما مؤقتًا، وهو ما أثار موجة شديدة من الاحتجاجات داخل التيارات السياسية المؤيدة للثورة، وجبهة المقاومة. حيثُ “اتهم الجميع طهران بخيانة أنصارها”، وتمّ إطلاق سراحهما بعد احتجاجات استمرت لعدة أيام.

 

وتجدر الإشارة إلى أن رئيس جمهور أذربيجان طلب شخصيًّا في عام 2018 من الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، إلقاء القبض على عشرين شخصًا من المعارضين لباكو، خاصة الشخصين اللذين يقيمان في إيران، وتسليمهم لباكو. وتكرّر هذا الطلب دائمًا خلال الزيارات التي قامت بها السلطات الأمنية الأذربيجانية إلى طهران.

 

واتخذت طهران إجراءات لتهدئة التوتر بينها وبين أذربيجان. وشارك وزير الخارجية الإيراني، أمير عبداللهيان، في اجتماع وزراء خارجية دول عدم الانحياز في باكو 13 يوليو الجاري. وصدرت في طهران توجيهات صريحة بمعاقبة مرتكبي الهجوم على سفارة أذربيجان، وطلب الجانب الإيراني إعادة فتحها، وتخفيف التوترات، خاصة اللفظية في وسائل الإعلام، إلا أن الرئيس الأذربيجاني علييف لم يقدم إجابة واضحة، متهمًا طهران من جديد بالضلوع في حادثة الهجوم على السفارة.

 

وجاء سفر عبداللهيان إلى باكو في ظل حملة إعلامية من وسائل الإعلام الحكومية في أذربيجان ضد إيران، استهدفت شخصيات مثل عبداللهيان، وإبراهيم رئيسي بتجريد ساخر في برامجها. حتى أن بعض الجهات في إيران نصحت وزارة الخارجية بعدم إرسال دبلوماسيين على مستوى السفير في هذا الحدث. وعلى الرغم من ذلك، وبفضل ضغط السفير الإيراني في أذربيجان الذي يدعم علييف، شارك عبدالهيان في الحدث، وتضمّنت الأسئلة المطروحة خلال المؤتمر الصحفي مع وسائل الإعلام الأذربيجانية طابعًا مُسيئًا لوزير الخارجية الإيراني. وفي نفس اليوم، في 13 يوليو، أعلنت القناة الأولى والتلفزيون الحكومي الأذربيجاني (AZTV)  في نشرة الأخبار بالشكل التالي: “عاجل! إيران تدرك خطأها، وزير الخارجية الإيراني يصل إلى باكو للاعتذار.”

 

وبعد أسبوع من زيارة عبدالهيان، دُعي وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت لزيارة رسمية إلى باكو في 22 يوليو. وأجرى محادثات مع الرئيس علييف وكبار المسؤولين الأذربيجانيين. وطُرحت قضية الاغتيالات التي يُزعم أن إيران تورطت فيها. وأعلن وزير الخارجية الإسرائيلي نقلًا عن مسؤولين أذربيجانيين عن إفشال خطة إيرانية للهجوم على سفارة إسرائيل في أذربيجان في 19 يوليو. وانتشرت تقارير عن اختطاف باحث (روسي-إسرائيلي) من قبل مجموعات مرتبطة بطهران في العراق، وأخبار أخرى عن محاولات إيران لشن هجمات على مراكز دبلوماسية إسرائيلية في جورجيا ودول أخرى، بالإضافة إلى تقرير وزير الدفاع الأذربيجاني لنظيره الإسرائيلي حول الوضع الحدودي بين سيفنيك، وإيران. وتُعتبر كل هذه الأحداث دليلًا على عدم نجاح زيارة عبدالهيان، وعجزه عن تحقيق سياسة جديدة تجاه باكو.

 

دعم أذربيجان للمعارضين الإيرانيين: سفر زوجة الشاه السابق إلى باكو

في الوقت الذي كانت فيه طهران تدّعي نجاحها في تقليل التوتر مع أذربيجان، خاصّة في وسائل الإعلام، قادت حكومة أذربيجان حملة إعلامية مضادة لإيران. وبدت هذه الحملة أكثر حدة حين عقدت القيادة الأذربيجانية اجتماعات مع بعض أطياف المعارضة المناوئة للنظام الإيراني، تضمنت لقاء رضا بهلوي، حفيد شاه إيران، مع الرئيس علييف في ألمانيا. وتلا ذلك رحلةً لأرملة الشاه رضا بهلوي إلى باكو، وظهورها وهي تسبح في بحر قزوين، وتسجل رسالة مصورة للإيرانيين، تقول فيها: “أنا الآن في أقرب منطقة إليكم”. وجاءت هذه الأحداث في ظل محاولات رضا بهلوي قيادة جزء من المعارضة ضد النظام في إيران، والتي لم تحقق النجاح المرجو خلال الفترة الأخيرة، خاصة في مشروع التعبئة الخارجية ضد طهران الذي فشل بعد حادثة مقتل الفتاة مهسا اميني على يد شرطة الآداب في إيران”.

 

وهناك عدة نقاط تُعتبر مهمة، فيما يتعلق بطبيعة رحلة عائلة بهلوي إلى باكو: أولاً، يأتي هذا السفر بعد زيارة العائلة إلى إسرائيل، وباستخدام رحلة جوية مباشرة من تل أبيب إلى باكو، حيثُ كانت هناك رسالة واضحة من إسرائيل إلى طهران. وثانيًا، تم تأمين فريق حماية لعائلة بهلوي من قبل إسرائيل. وثالثًا، قامت حكومة أذربيجان بجعل هذا السفر علنيًّا، وتغطيته إعلاميًّا، لتوضح بشكل صريح لطهران أنها ليست لديها أية خطوط حمراء في مواجهة إيران.

 

إعادة تعريف المزاعم الإسرائيليّة حول تطويق إيران جيوسياسيًّا واقتصاديًّا

في ظل التحولات الأخيرة في جنوب القوقاز، جرى في طهران إعادة النظر في الرؤية الإيرانية للهيكل السياسي الذي يحكم التغيرات في المنطقة. ووفقًا للرؤية الجديدة فإن أي نوع من التعاون الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي بين أذربيجان وأرمينيا سوف يكون بالتأكيد على حساب المصالح الوطنية الإيرانية. خاصةً في ظلّ نموذج عمل الحكومة التركية الذي يسعى إلى تطبيع مسار النقل، والتواصل بين نخشوان وأذربيجان، والذي سيؤدي بالتأكيد إلى تعزيز استراتيجيات الهيمنة الجيوسياسية والاقتصادية لتركيا، وتعزيز نفوذ حلف الناتو على مقربة من الحدود الإيرانية. وعلى المستوى الاقتصادي، ومع زيادة نفوذ تركيا في المنطقة، ستفقد إيران إيرادات هامة، نتيجة إغلاق مسار الشاحنات عبر أذربيجان، ووصول النفط، والغاز الأذربيجاني بسهولة إلى تركيا، وتراجع الحاجة التركية إلى مصادر الطاقة الإيرانية.

 

وبالنظر إلى تنامي شعبية تركيا في المحافظات الإيرانية ذات الأغلبية الأذرية، وتوسيع الأنشطة التجارية، والثقافية، والهوياتية التركية في تلك المحافظات فإن النظام الإيراني قد يواجه تحديات في الحفاظ على سلطته، في ما لا يقل عن أربع محافظات إيرانية. كما سيواجه توترات أمنية في شمال غرب، ووسط إيران.   وبالنظر إلى هذه المخاطر، صرّح القائد الأعلى الإيراني بأن مسألة الحدود مع أرمينيا هي “خط أحمر” بالنسبة إيران. لكنّ الجهاز الدبلوماسي الإيراني لم يتمكن خلال السنتين الأخيرتين من تحقيق نجاح عملي في هذا الصدد. بل على العكس من ذلك، تزايدت الضغوط على طهران خلال الفترة الرئاسية الجديدة لأردوغان.

 

ويشير الرأي السائد في طهران أنه يمكنها أن تلعب دورًا أكثر فعالية في تطورات القوقاز الحالية. وأن تستفيد في الوقت نفسه من إمكانياتها في أرمينيا وأذربيجان عبر تعزيز البنية التحتية للنقل، وبناء الجسور، والسكك الحديدية في أرمينيا، وتطوير برامج النقل، ووسائل الإعلام مع أذربيجان. وسيتعين على طهران أيضًا توسيع أمنها واستخباراتها في جميع القطاعات المتصلة. وترى طهران أن الحدّ من تأثير روسيا وتركيا يخدم مصلحتها، وهي تسعى في نفس الوقت إلى توجيه الضغط الروسي على باكو ويريفان لجهة خفض التدخل الغربي، والذي يعني تعزيز مكانة طهران الخاصة في هذه المنطقة. وبعد مرور عامين من التخطيط، وخاصة بعد عقد اجتماع “مجموعة 3+3” في إيران، ترى طهران أنها تمكّنت من تحقيق التطورات التالية:

  1. قامت إيران بتصميم استراتيجية جديدة في منطقة القوقاز الجنوبي، وتعتقد بأن الأطراف الأخرى تعترف بهذه الاستراتيجية.
  2. بالنظر للتغيير الجوهري في السياسة الخارجية لأرمينيا، وتحوُّل الرئيس باشينيان نحو الغرب، قررت طهران العمل على تعزيز موقفها في يريفان. وجرى تنظيم جدول زمني لزيارة وزير النقل والتطوير الحضري الإيراني إلى أرمينيا قمة “مجموعة 3+3” بهدف إيصال رسالة إلى تركيا، وروسيا، وأذربيجان، تعلن فيها طهران عن خطة منفصلة، ومستقلة للوجود الاقتصادي، والأمني في أرمينيا.
  3. تمخض اجتماع “مجموعة 3+3” الأخير في طهران عن بيان واضح، فيما لم تتمكن النسخة السابقة من اجتماعات المجموعة، والتي انعقدت في موسكو من إصدار أيّ بيان ختامي بسبب الخلافات. ومن وجهة نظر طهران، تمثل هذه الخطوة نجاحًا كبيرًا. كما تعتقد طهران أنها نجحت في منع حدوث أزمة حدودية جديدة، من خلال تحقيق النتائج بمقترحات توسيع الطرق، وربط أذربيجان بنخشوان عبر إيران، من خلال إنشاء جسر عبر نهر “آراس”. وتهدف طهران إلى تعزيز قدرات الأمن الإيرانية من خلال بناء جسر فوق نهر “آراس”.
  4. تعتقد طهران أن مقترحاتها الجديدة ستقلص دور روسيا في إدارة الممرّ الذي تم الاتفاق عليه سابقًا بين روسيا، وأرمينيا، وأذربيجان، والذي سيؤدي إلى تخفيض دور الرقابة الأمنية الروسية على هذا الممرّ.
  5. تدعي طهران أن مسؤولين أذربيجانيين أكدوا في عدة جلسات مشتركة، استعدادهم لإعادة فتح سفارتهم في طهران، وهي خطوة تُعتبر تقدمًا مقارنةً بالوضع قبل ستة أشهر، لكنّها ما زالت تتطلب بعض الشروط والمطالب. وعلى سبيل المثال، طالب الأذربيجانيون بتنفيذ حكم قضائي ضدّ الشخص الذي هاجم السفارة، فيما تحاول طهران منع استخدام هذا الحادث في الدعاية الإعلامية كانتصار لأذربيجان في الساحة العامة.

 

الخلاصة والاستنتاجات

بذلت طهران طوال العاميين الماضيين جهودًا مكثفة للضغط على أذربيجان من خلال أرمينيا؛ إذ قامت بإنشاء قنصلية إيرانية في كابان لتعزيز التركيز الأمني والسياسي، وإرسال رسائل واضحة إلى تركيا. كما أشركت طهران أرمينيا في مشاريع مشتركة، وقدمت تسهيلات لها في تنفيذ البنى التحتيّة، حيثُ تسعى طهران جاهدة لإكمال الطريق البري إلى البحر الأسود. لكن الرئيس الأرميني باشينيان لم يظهر سياسة ثابتة تجاه طهران. وخلال الأشهر الأخيرة، زادت زيارات مسؤولين أمنيين وسياسيين واقتصاديين ودبلوماسيين من أرمينيا إلى تركيا، وفرنسا، والولايات المتحدة، وغيرها. وكانت الاجتماعات الطويلة بين أمين مجلس الأمن القومي الأرمني؛ أرمين غريغوريان، ومسؤولين أمنيين أمريكيين في يوليو محل اهتمام مسؤولي الأمن الإيرانيين. ويعود هذا الاهتمام إلى قلق طهران إزاء تطبيق توافق غير معلن بين تركيا، والولايات المتحدة، وفرنسا، وأذربيجان، وأرمينيا، وإسرائيل.

 

وتشعر طهران اليوم بتهديدات خطيرة على حدودها الشمالية، ومع ذلك، لم تتمكن حتى الآن، من تفعيل الدبلوماسية لفرض الضغوط على أذربيجان، وأرمينيا. لذا، تُعتبر نتائج عن الاجتماعات الأخيرة التي كان عنوانها “أولوية السلام، التعاون، والتقدم في القوقاز الجنوبي” إنجازات على الورق فقط، دون وجود أي تأثير فعلي، أو نتائج ملموسة على أرض الواقع.

 

وتخطط السلطات في طهران للاستفادة من تصريحات الرئيس أردوغان الأخيرة التي دعا فيها روسيا إلى التخلي عن كاراباخ بحلول عام 2025. وتطالب إيران بالتعاون مع روسيا في أقاليم القوقاز الشمالية والجنوبية. وتحاول بعض المؤسسات الأمنية الإيرانية إعداد جدول زمني لتنظيم مناورات واسعة النطاق على الحدود الشمالية الغربية. لكن يعتقد البعض أن هذا المشروع، قد لا يكون له تأثير كامل على التغييرات التي تجري في المنطقة.

 

ويفرضُ الوضع الراهن في إيران ضغوطًا كبيرة على الحكومة لدرجة أنّ أيّ تغيير كبير في الديناميكية الجيوسياسية في منطقة القوقاز، قد يؤدي إلى مشاكل هوياتية، وسياسية، وأمنيّة كبيرة داخل إيران. ولذا، تركز طهران بشكل كبير على مشروع طريق العبور فوق نهر “آراس” داخل إيران. وتم التوصل إلى اتفاقات شفهية مع حكومة أذربيجان، كمحاولة لتعزيز موقفها في هذا السياق، وتجنب المشاكل المحتملة.

 

وتبدو سياسة طهران تجاه القوقاز الجنوبي متأرجحة بين الإفراط، والتفريط، والانفعال؛ وذلك نتيجة لتنافس فئتين متطرفتين داخل النظام الإيراني؛ إحداها تدعم أذربيجان وتعارض أرمينيا، والأخرى تدعم أرمينيا وتعارض أذربيجان. ويعمل هؤلاء تحت حماية السفارات، والمراكز ذات الصلة، بكلٍّ من: باكو، ويريفان، والمملكة المتحدة، وأطراف أخرى. وينخرطون في جدال، وخطابات مثيرة ضد بعضهم البعض، وهذا الصراع يظهر أيضًا في سياسة الإعلام الإيراني تجاه القوقاز الجنوبي، كانعكاس للصراع الداخلي بين هذه الجماعات.

 

ومع تطورات غزة واتهامات تل أبيب لطهران بالتورط في عمليات حماس ضد إسرائيل، من الممكن أن يؤدي ذلك إلى تصاعد المواجهة بين البلدين بعد انتهاء أزمة غزة؛ إذ من المؤكد أن تلعب تل أبيب لعبة جديدة ضد مصالح إيران في هذه المنطقة، بعد أن تهدأ أزمة غزة. وتشعر طهران بالقلق الآن، وهي تعمل على وضع خطة للتصدي والتحضير لأي تداعيات محتملة في هذه المنطقة.

 

وتحتاج طهران إلى الخروج من الجو المشحون بالعواطف، والاشتباكات السياسية بين الأطراف الداخلية المؤيدة والمعارضة التي تطرح آراء متحيزة لصالح أو ضد (أرمينيا، وأذربيجان، وتركيا). ووضع خريطة طريق واقعية تعتمد على التعاون الجماعي، وتعزيز البنية التحتية من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي العميق. وتشير الظروف الحالية إلى أن أذربيجان تسعى لتعزيز علاقاتها مع إسرائيل بغية تعزيز مصالحها الخاصة.

 

وعلى الرغم من طلب القائد الأعلى الإيراني؛ علي خامنئي من الدول الإسلامية وقف صادرات النفط، والغاز إلى إسرائيل خلال أحداث غزة الأخيرة، إلا أن أذربيجان لم تستجب لهذا الطلب، وهي بالتأكيد لا تعتزم ذلك في المدى القريب. إذ تضع أذربيجان مصالحها الاقتصادية في المقام الأول، وتعتبر نفسها كمورِّد رئيسي لإسرائيل، وهذا يؤكد أهمية أن تعتمد طهران منهجًا أكثر انفتاحًا اقتصاديًا تجاه هذه المنطقة، بدلاً من الرؤية الأيديولوجية.

 

وفي المجال الأمني، تعتمد طهران إلى حدٍّ كبير على إجراء المناورات العسكرية، لإظهار السلطة والردع. لكن يبدو أن الظروف تغيرت قليلًا، وأدّت إلى توسيع هذا النهج، ليصبح أيضًا عادةً مشتركةً لباكو وأنقرة؛ حيث تم تنظيم برامج مناورات تدريبية مشتركة، ومحددة سنويًا بين البلدين خلال عام 2023، مثل مناورات: “حيدر علييف”، و”كمال أتاتورك؛ ممّا يشير إلى تعميق التعاون في هذا المجال.

 

صورة العنوان: وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان (في الوسط) يتحدث خلال اجتماع مع نظرائه الروسي والأذربيجاني والأرميني والتركي لمناقشة قضايا منطقة جنوب القوقاز في طهران في 23 أكتوبر 2023. (وكالة فرانس برس)

 

إخلاء المسؤولية: تُعبِّر وجهات النظر عن آراء مُعدِّيها و/أو استشهاداتهم المرجعية، ولا تعكس بالضرورة توجهات يتبنَّاها مركز الإمارات للسياسات. ولا يتحمَّل المركز أي مسؤولية عن محتوى الجهات أو المواقع الإلكترونية أو المَراجِع المُحال إليها ضمن هذه المقالة، والتي قد يَرِدُ ذكرها عَرَضَاً، أو في صورة مُحددة، أو الإشارة/الاستناد إليها لدواعي الاقتباس أو الاستشهاد أو التوثيق العلمي. ومع بذلنا الجهد لتحرِّي الدقة أثناء مراجعة المحتوى وتحريره، إلا أننا غير مسؤولين عن حدوث أي أخطاء فيه، أو عن أي إجراءات قد تُتَّخذ استناداً إلى هذا المحتوى.

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/bin-alifarat-waltfarit-walanfaal-alastratijiah-aliiraneiah-aljadidah-fi-muntqah-jnob-aliqoqaz-

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M