بين طهران والرياض: حلحلة وحلول أم إدارة للتنافس والصراع

فاطمة الصمادي

 

إن كان التطور الذي حدث في العلاقات بين إيران والسعودية صفقة، فهو يتعلق بدولتين إقليميتين متنافستين، ويطال بصورة أساسية الجوار الخليجي وملف نفوذ كليهما في أكثر من مكان. وإذا نجحت هذه الصفقة فستكون واحدة من الصفقات الكبيرة الناجحة بالنسبة إلى الصين، وذلك لأسباب كثيرة. أما النجاح والفشل فهو مرتبط باللاعبين الأساسيين وقدرتهما على إجادة اللعب في ملعب مليء بألغام التنافس والصراع. إن تحقيق نجاح، ولو متوسط المستوى، في حلحلة ملفات الخلاف بين إيران والسعودية سيمكّن الصين من تحقيق قفزة دبلوماسية غير مسبوقة في سياستها الخارجية ما سيجعلها أكثر جرأة في المستقبل في ملفات أخرى.

أما إذ عاد الصراع ليحكم العلاقة، ولذلك سوابق وأسبقيات، فإنه سيعود بصورة أكبر، وستدرك الصين حينها أنها أفرطت في التفاؤل، وعرّضت تقاليدها في السياسة الخارجية لمقامرة، وأنها فشلت في أن تكون ضامنا حقيقيا للاتفاق.

صحيح أن ما حدث في بكين كان استكمالا لمحادثات جرت في عمان وكذلك في بغداد بين عامي 2021 و2022 بوساطة رئيس الحكومة العراقية السابق مصطفى الكاظمي. لكن لا يمكن اختزال الدور الصيني في مجرد قطف الثمار، وهو ما يعتقده علي هاشم في مقالة تحليلية نشرها على موقع “جاده ايران”. فهو يرى أن الصين أخذت على عاتقها كسر ما تبقى من عوائق أمام سياستها الخارجية. وهي تسعة لأن تكون وسيطا لا ينتهي دوره مع إعلان الاتفاق، إذ كان لا بد من ضامن يصونه مع بروز عوائق مستقبلية. هنا دخلت بكين بوزنها كشريك اقتصادي وعسكري للجارتين اللدودتين، لتحقق أول إنجازاتها الدبلوماسية في منطقة لطالما عُرفت بحجم التأثير الأميركي فيها، وتزاحم نفوذا أميركيا يتجاوز عمره ستين عاما.

بالنظر إلى المصالح الاقتصادية، تشكل الدولتان المتنافستان المصدر الأساسي للطاقة بالنسبة إلى الصين، فضلا عن مشاريع اقتصادية أخرى كبيرة. فقد وقّعت إيران مع الصين اتفاقية استراتيجية تصل إلى 25 عاما، واتفقت مع السعودية على مشاريع اقتصادية تتجاوز قيمتها 50 مليار دولار.

تشكل الصين بالنسبة إلى إيران الشريك الاقتصادي الأول، فيما تحتل السعودية مرتبة الشريك الاقتصادي للصين في المنطقة بتبادل تجاري يتجاوز  الـ87 مليار دولار سنويا. وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين إيران والصين خلال العام 2022، مع أخذ العقوبات بعين الاعتبار، ما يصل إلى 14 مليار دولار.  وإن كان هذا الرقم يقل كثيرا عن حجم التبادل في سنوات ماضية، منها 2017 على سبيل المثال حين وصل إلى 33 مليار دولار. وفي العام 2014، كانت الشريك التجاري الأول للصين في المنطقة، بتبادل تجاري وصل إلى 51 مليار دولار. لكن المهم في معادلة اليوم أن الصين كانت هي الوجهة الأساسية في بيع النفط الإيراني وتحييد تأثير العقوبات بصورة أفشلت الهدف الأميركي بأن تصل مبيعات إيران إلى صفر برميل. بالمقابل، دعمت الصين عضوية إيران الكاملة في منظمة شانغهاي للتعاون، وهي عضوية تعد بالكثير بالنسبة إلى إيران اقتصاديا وعسكريا وأمنيا.

أما فيما يخص طرفي المعادلة والعلاقة بينهما، فحتى اليوم لا يستطيع البعض تصور هذه العلاقة دون تأثير اللاعب الأميركي، وهو لاعب شديد التأثير سياسيا واقتصاديا وعسكريا. فقد كانت الجمهورية الإسلامية، ومازالت تعتقد أن الحلول لمشكلات المنطقة يجب أن تتم بعيدا عن التدخل الأميركي. وكان ذلك عنوانا رئيسيا عندما أعلن إبراهيم رئيسي عن “أولوية الجوار” في سياسته الخارجية. و بعد انتخابه، أكد رئيس في اتصال مع أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أن “الأمن الجماعي” يشكل الجزء الأساس من “عقيدة السياسة الخارجية الإقليمية” لإدارته.  على اعتبار أن “عقيدة الأمن الجماعي” يمكنها أن تجلب “السلام والاستقرار” للمنطقة و”الهدوء والرخاء” لشعوبها.

فتحقيق الأمن الجماعي، من وجهة نظر إبراهيم رئيسي “رهن بخفض تدخل القوى الأجنبية في علاقات إيران وجيرانها إلى الصفر”. وهذا الموقف ليس خاصا برئيسي دون غيره، بل هو من ثوابت السياسة الخارجية الإيرانية. وقد سبق لروحاني أن دعا إلى أن تتولى دول الخليج أمنها بنفسها دون “تدخل أجنبي”. هذه السياسة تجعلنا نتساءل عن إمكانية تحقيق ذلك في منطقة تحتل المركز الثاني من حيث تعداد الوجود العسكري الأميركي بعد الأراضي الأمريكية وترتبط حكوماتها بعلاقات قوية مع واشنطن، فيما تشهد العلاقات بين طهران وواشنطن أزمة مستمرة. يرتبط ذلك بصورة جوهرية بالهدف الإيراني المعلن، وهو اخراج القوات الأميركية من المنطقة عقب اغتيال قاسم سليماني مطلع العام 2020.

من الواضح أن العربية السعودية تجري إعادة تقييم شاملة لرهاناتها الخارجية، ويبدو أن التقييم السعودي خرج بنتائج سلبية تتعلق بالدور الأميركي بعد أن كان ينظر إلى واشنطن بوصفها حليفا يمكن الاعتماد عليه. ولكن هذا الرهان واجه خيبات كبيرة، وهو ما أشار اليه عبد العزيز بن صقر في مداخلته خلال منتدى الجزيرة الرابع عشر.

وقد يؤشّر هذا التقييم السعودي إلى تغيير في سياسة المملكة الخارجية، وربما يكون من تجلياته تعزيز العلاقة مع الصين والدفع بها إلى مستويات غير مسبوقة، وكذلك السعي لانتهاج سياسة متوازنة مع روسيا رغم الضغوط الغربية.

إن نجاح الاتفاق الإيراني السعودي رهن بكيفية إدارة ملفات العلاقة بين إيران والسعودية، وهي ملفات لا يجادل عاقل في تعقيدها وتشعبها. كما أنه اختبار لقدرة الصين على أن تكون ضامنا لاتفاق بين دولتين شهدت العلاقات بينهما من التنافس والصراع أكثر مما شهدته من الاستقرار والتفاهم. يجدر بالذكر أن دولا خليجية، في مقدمتها السعودية، بدت غير راضية عن اتفاقية الـ25 عاما بين الصين وإيران، التي أبدت بدورها غضبا شديدا إزاء توقيع الرئيس الصيني علي البيان الختامي للقمة المشتركة التي جمعته بقادة دول مجلس التعاون. فقد أكد البيان “مشاركة دول المنطقة في معالجة أزمة الملف النووي الإيراني، والأنشطة الإقليمية المزعزعة للاستقرار، والتصدي لدعم الجماعات الإرهابية والطائفية والتنظيمات المسلحة غير الشرعية، ومنع انتشار الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة”. كما أكد على دعم “الجهود السلمية كافة، بما فيها مبادرة ومساعي دولة الإمارات العربية المتحدة للتوصل إلى حل سلمي لقضية الجزر الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى…”.

ولعل السؤال يتعلق بقدرة الصين على الوقوف على مسافة واحدة بين أطراف المعادلة إذا أرادت أن تكسب سياسيا، وما إذا كان القرار سيُتخذ بناء على الكفة الأرجح في معادلة المال والتجارة.

ما بين النجاح والفشل

  • إن أبرز ملمح للاتفاق الإيراني السعودي هو أنه يأتي بعيدا عن التدخل الأميركي، وجاء من بوابة أكبر منافس لها وهو الصين.
  • لا يمكن لهذا الاتفاق أن ينهي حالة التنافس بين البلدين لكنه قد يفلح في إدارتها بأقل الخسائر للجانبين.
  • من عوامل نجاح الاتفاق أن يتم الإقرار بأن عودة الأمن والسلام إلى سوريا والعراق واليمن ينبغي أن يكون عملًا جماعيًّا ضمن آليات جديدة يكون لإيران فيها دور أساسي.
  • من المرجح أن تكون اليمن هي مدخل اختبار نجاح أو فشل هذا الاتفاق. فإيران تريد مساحة أكبر للدور السياسي لأنصار الله في مستقبل اليمن وحكومته إذا ما جرى التوصل إلى حل سياسي. لذلك، فإن الحل السياسي المنشود في اليمن تشترط فيه إيران جلوس اللاعب الحوثي عضوًا أساسيًّا وليس “محاربًا بالوكالة”. فالاستراتيجية الإيرانية تجاه اليمن تقوم على شقين: الأول، تقديم نفسها دولةً قادرةً على لعب دور بنَّاء ومؤثر في صياغة حل سياسي في اليمن. والثاني، دعم وحماية حلفائها وتمكينهم بشتى الوسائل للحيلولة دون إقصائهم من الساحة السياسية بالقوة.
  • في المقابل، تحتاج إيران إلى تقديم ما يثبت حسن نواياها وجديتها في طرح “أولوية الجوار”. وتحتاج السعودية إلى تقديم ضمانات بعدم استهداف إيران ضمن مشاريع معادية مع اسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.
  • هذا الاتفاق لن يجعل إيران تتنازل عن نفوذها الإقليمي، بل سوف تسعى إلى توظيف هذه المحادثات لتعزيز مواقع حلفائها، وقد يكون القبول بالنظام السوري وإعادة العلاقات معه أبرز ملامح هذا التوجه.
  • سيكون على السعودية أن توقف دعمها لمحطات فضائية ممولة من قبلها كان لها دور تحريضي في المظاهرات التي حدثت في إيران في الأشهر الماضية، وهو ما بدأ يحدث فعلا.
  • إن الانسحاب الأميركي المتدرج من المنطقة قد أحدث ارتباكًا لدى حلفاء واشنطن الذين ربطوا أمنهم، على مدى عقود، بالعلاقة معها، ما جعلهم اليوم أمام تحدي إعادة تعريف علاقاتهم الإقليمية بناء على هذه التطورات. ومع ذلك، ستبقى أزمة العلاقات الإيرانية – الأميركية وتطوراتها مؤثرة على طبيعة علاقات إيران والسعودية، سواء جرت العودة إلى المحادثات النووية وإحياء الاتفاق النووي أو تعثرت تلك المحادثات وأفضت إلى تصعيد بين الجانبين.
  • قد يقود نجاح الاتفاق الإيراني السعودي إلى مراجعة مسار التطبيع والحد من الحضور المتزايد لإسرائيل في منطقة الخليج، وهو الحضور الذي ترى فيه إيران تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
  • قد يكون ربط الاتفاق بمصالح اقتصادية للبلدين مدخلا لإنجاح عودة العلاقات الإيرانية السعودية.
  • ليس مؤكدا أن تقود عودة العلاقات الدبلوماسية إلى إيجاد حلول لكل ملفات الخلاف، وقد لا يتعدى إنجاز هذا الاتفاق مساحة “السلام البارد” بين البلدين. لكن الخطير سيكون في حال فشل الاتفاق، لأن الفشل سيقود إلى مستويات من التوتر تتجاوز التنافس نحو الصراع.

.

رابط المصدر:

https://studies.aljazeera.net/ar/article/5570

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M