يمر الاقتصاد المصري بمرحلة حرجة منذ بداية أزمة كورونا عام 2020 وما تبعها من إجراءات احترازية ترتب عليها: توقف حركة التجارة العالمية وعجلة الإنتاج، واضطراب سلاسل الإمدادات والتوريد، وتراجع النشاط الاقتصادي بشكل عام. ولكن مع عودة الحياة إلى طبيعتها مرة أخرى بحلول عام 2021، وانحسار موجات انتشار وباء كورونا، وانتشار عمليات التلقيح على نطاق واسع؛ عاد الطلب إلى مستوياته المسجلة قبل الجائحة، مع عدم قدرة العرض على الارتفاع بنفس الوتيرة، وهو ما نتج عنه ارتفاع شديد في أسعار المواد الخام والسلع الأساسية وتكلفة الشحن والنقل.
ولهذا، شهد العام الماضي ما يُعرف بـ”الدورة الفائقة”، والتي أثرت بدورها على الاقتصاد المحلي. وتفاقمت حدة تلك الأزمات مع تصاعد التوترات الجيوسياسية بين روسيا وأوكرانيا والتي ترتب عليها اندلاع الحرب بين البلدين، مما صب مزيدًا من الوقود على الموجة التضخمية التي شهدها العالم أجمعه.
وبطبيعة الحال، دفعت المتغيرات السابقة الاقتصادات الكبرى إلى تبني سياسات تقييدية، والتوجه نحو التشديد النقدي، حيث اتخذ الاحتياطي الفيدرالي قرارات برفع سعر الفائدة، آخرها في 15 يونيو الجاري بنسبة 0.75% وقبلها في 4 مايو الماضي بنسبة 0.5%، وقبله بنسبة 0.25% في مارس الماضي.
ويمثل قرار البنوك المركزية الكبرى برفع أسعار الفائدة مخاطرة بالنسبة للأسواق الأخرى لاسيما الناشئة بسبب احتمالية تقويض جاذبية أدوات الدين المحلية التي تطرحها الدول؛ إذ يهرع المستثمرون إلى الاقتصادات المتقدمة مع بدء رفعها لأسعار الفائدة، مما يؤدي إلى نزوح استثمارات الأجانب من الأسواق النامية والصاعدة.
وفي هذا الشأن، يستعرض هذا التقرير تأثير الحرب الروسية- الأوكرانية على معدلات التضخم والبطالة ومستوى الاحتياطي النقدي وأسعار الفائدة في مصر.
- معدل التضخم:
شهد المستوى العام للأسعار في إجمالي أنحاء الجمهورية ارتفاعًا شديدًا خلال الشهور الماضية؛ انطلاقًا من مبدأ “التضخم المستورد” الذي ينشأ بسبب اعتماد الدولة على السلع والخدمات المستوردة من الخارج، ونظرًا إلى اعتماد مصر على الخارج في تأمين احتياجاتها من الغذاء والطاقة اللذين شهدت أسعارهما قفزات مستمرة وملموسة منذ بدء الحرب الروسية- الأوكرانية.
وبناء على ما سبق، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين لإجمالي الجمهورية بلغ نحو 130.2 نقطة خلال شهر مايو الماضي، مسجلًا ارتفاعًا قدره نحو 0.9% على أساس شهري أي مقارنة بشهر أبريل 2022، كما يوضح الشكل أدناه:
تتبين من الرسم السابق نتيجتان أساسيتان: الأولى– ارتفاع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين بشكل مطلق ومستمر منذ نهاية عام 2021 وحتى شهر مايو المنصرم، الثانية– تباطؤ وتيرة نمو الرقم القياسي لأسعار المستهلكين شهريًا حيث سجلت نحو 0.9% فقط خلال الشهر الماضي مقارنة بالوتيرة المسجلة خلال أبريل عند 3.7%.
ويرجع هذا المستوى من التضخم إلى ارتفاع المجموعات الأساسية من السلع والخدمات على أساس سنوي (شهر مايو 2022 مقارنة بشهر مايو 2021)، وأساس شهري (شهر مايو 2022 مقارنة بشهر أبريل 2022)، كما يُبين الرسمان التاليان:
يتبين من الرسمين السابقين أن أسعار المطاعم والفنادق شهدت أعلى وتيرة ارتفاع شهري خلال مايو الماضي عند 3.2% يليها بند السكن والمياه والكهرباء عند 2.6%. وأن بند الثقافة والترفيه سجل أعلى ارتفاع سنوي خلال نفس الشهر عند 30.3% يليه الطعام والمشروبات عند حوالي 27.9%.
- معدل البطالة:
تراجع معدل البطالة في مصر خلال الربع الأول من 2022 إلى 7.2% على أساس سنوي، مقابل 7.4% خلال الربع الأول من العام الماضي، وذلك بانخفاض قدره 0.2% عن كل من الربع السابق والربع المماثل من العام الماضي، كما يُبين الشكل الآتي:
وذكر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقدير حجـــم قـــــوة العمل عند 29.895 مليون فرد مقابل 29.653 مليون فرد خلال الربع السابق بنسبة ارتفاع مقدارها 0.8%، وقد بلغت قوة العمل في الحضر نحو 13.170 مليون فرد، فيما بلغت في الريف حوالي 16.725 مليون فرد.
وعلى مستوى النوع، فقد بلغ حجم قوة العمل للذكور نحو 24.670 مليون فرد، فيما سجلت للإناث حوالي 5.225 مليون فرد. ويرجع سبب الارتفاع الي زيادة أعداد المشتغلين بمقدار 297 ألف مشتغل خلال الربع الحالي عن الربع السابق، وانخفاض المتعطلين بمقدار 55 ألف متعطل مما أدى إلى زيادة قوة العمل بمقدار 242 ألف فرد.
- مستوى الاحتياطي النقدي:
تأثر الاحتياطي النقدي بالضغوطات المفروضة عليه من قبل تزايد فاتورة الواردات، وتراجع الإيرادات السياحية، وزيادة المديونية الخارجية وخدمة الدين نظرًا إلى ارتفاع أسعار الفائدة، فضلًا عن نزوح الاستثمارات الأجنبية من السوق المصرية. ولهذا، بلغ رصيد احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي المصري بحلول نهاية شهر مايو 2022 نحو 35.495 مليار دولار مقابل حوالي 37.123 مليار دولار في نهاية شهر أبريل 2022 بانخفاض قدره حوالي 1.63 مليار دولار، كما يُبين الرسم الآتي:
وجاء هذا الانخفاض على خلفية الدور المنوط بالبنك المركزي لسداد المدفوعات المرتبطة بالمديونية الخارجية المستحقة خلال نفس الشهر والتي قدرت بنحو ملياري دولار، منها استحقاق كوبونات لسداد سندات حكومية صادرة عن وزارة المالية، بالإضافة إلى مستحقات لصندوق النقد الدولي والتزامات أخرى. وفي هذا السياق، يعد صافي رصيد الاحتياطي النقدي كافيًا ليغطي نحو خمسة أشهر من الواردات السلعية.
وبناء على ذلك، تراجع سعر الصرف المحلي ليسجل نحو 18.75 جنيه أمام الدولار بحلول الرابع عشر من يونيو الجاري، مقارنة مع حوالي 15.7 جنيه مقابل الدولار الواحد في العشرين من مارس، وهو ما يبينه الرسم الآتي:
- أسعار الفائدة:
يتخذ البنك المركزي قرارات السياسة النقدية عادةً بناء على العديد من العوامل، أبرزها معدل النمو والتضخم والاستثمارات الأجنبية في أذون الخزانة. فإذا أراد جذب المزيد من الاستثمارات غير المباشرة أو السيطرة على معدلات التضخم المرتفعة فمن المرجح أن يرفع معدل الفائدة. أما إذا كان يسعى إلى رفع معدل النمو فإنه سيلجأ إلى خفضها من أجل تشجيع المستثمرين على الاقتراض، وإطلاق المزيد من المشروعات مما سيؤدي إلى خلق فرص عمل جديدة وزيادة معدلات التشغيل وتعزيز النمو الاقتصادي في نهاية المطاف. ومنذ بداية العام الجاري انتهج المركزي المصري سياسة نقدية تشددية يوضحها الجدول الآتي:
واتخذ البنك المركزي هذا القرار حتى يحقق هدفين في آن واحد: أولهما، السيطرة على معدلات التضخم المرتفعة عن طريق تشجيع المواطنين على إيداع أموالهم بالبنوك، وهو ما يعني تراجع السيولة في أيديهم وتراجع مستوى الإنفاق الذي سيصب في النهاية في تباطؤ معدلات التضخم. وثانيهما، الحفاظ على استقرار قيمة الجنيه وجذب الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة (Hot money) التي سترغب في النزوح من السوق المحلية مع رفع الفائدة الأمريكية، الأمر الذي يمثل مخاطرة بالنسبة للسوق المصرية بسبب احتمالية تقويض جاذبية أدوات الدين المحلية التي تطرحها الدولة.
.
رابط المصدر: