تأملات قرآنية من الآية الحادية والعشرين من سورة سبأ

بهاء النجار

 

وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

* ملاحظة : التأملات الآتية تشترك أحياناً مع الآية العشرين { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) } لتداخل المعنى بين الآيتين الكريمتين .

التأمل الأول :
ما دام إبليس ليس له سلطان علينا فلا نلومنّ إلا أنفسنا ، لأنه دعانا الى ظنون فاتبعناه ، ولم يجبرنا على إتباعه ، بل اتبعناه بملئ إرادتنا ، ومن يرى أن لإبليس سلطاناً على الناس فلأن الناس سلّطوه عليهم بإتباعهم إياه ، فيطيعونه في ما يعلمون أنه منه حتى أصبحت أوامره معجونة بأنفسهم لا يميزون بينها وبين الحق ، فيظنون أن ما يأمرهم هو الحق .
فالمؤمنون يؤمنون بالآخرة إيماناً عملياً جعلهم مستثنين من إتباع إبليس ، لأن إيمانهم هذا دفعهم لتربية أنفسهم على طاعة الحق ورفض أي ظن يدعوهم إليه إبليس ما داموا يعلمون أن هذه الدعوة إبليسية .

التأمل الثاني :
إن إبليس وأعوانه يحاولون التسلط على المؤمنين عبر بث ظنونهم ، ولكن سلطانهم على من هو في شك عملي بالآخرة فضلاً عن الشك النظري ، فيتبعهم ويسمح لسلطانهم بالتوسع والسيطرة عليه وعلى من يؤثر عليه ، فنجد سلاطين ( كما نراهم اليوم ) يخدعون الناس بعنوانين جذابة كحقوق الإنسان والديمقراطية وحرية التعبير ومناهضة العنف الأسري وغير ذلك ليتسلطوا على الناس فيتبعهم الناس بإرادتهم إلا المؤمنون الذين يترجمون إيمانهم بالآخرة الى سلوك فلا يُخدَعون بهذه الدعوات لأنها أوهام وظنون .
وهناك سلاطين من نوع آخر يحاولون التسلط بالقوة من دون استخدام الإقناع والخداع ، فسلطان هؤلاء إجباري .

التأمل الثالث :
ليس بالضرورة أن تكون السلطنة والتسلط عن طريق الحكم السياسي ، وما الحكم السياسي إلا شكل من أشكال السلطنة والتسلط على الناس ، بل أحياناً تُسخَّر السياسة للسماح المتسلطين (من باقي الأشكال) بالتسلط على الناس ، وأحياناً يكون الساسة المتسلطون هم أدوات بأيدي المتسلطين من الأبالسة ، فكل أسلوب إبليسي يمكن أن يكون أداة للتسلط ، فالمصارف الربوية مثلاً أُستُخدِمَت للتسلط ، مواقع التواصل الاجتماعي أُستُخدِمَت للتسلط ، التكنلوجيا أُستُخدِمَت للتسلط ، الحفلات الماجنة ومحلات الخمور والمخدرات أُستُخدِمَت للتسلط ، وغيرها كثير لا مجال لحصرها ، ونجى من هذا التسلط المؤمنون بالآخرة .

التأمل الرابع :
هناك عدة معايير قرآنية يبينها لنا القرآن الكريم تنفعنا عملياً في معرفة مستوانا الإيماني والتكاملي ، فقد يظن البعض ( وهذا الظن بدعمٍ إبليسي ) أنه مؤمن بالآخرة إيماناً كافياً ، بينما لو عرض نفسه على المعايير القرآنية لوجد الأمر مختلفاً وراجع نفسه وصحح ظنّه وتصوره ، ومن هذه المعايير أن المؤمن بالآخرة لا يجعل لإبليس سلطاناً عليه كما أراد الله تعالى أن لا يكون له علينا سلطاناً ، وكلما زاد الإيمان بالآخرة قلّ الإتباع لإبليس ، فإذا زاد الإتباع لإبليس قلّ الإيمان بالآخرة ، فإتباع إبليس يجعل له سلطاناً على متبعيه ، وهذا مخالف للإيمان بالآخرة ، بل قد يُحسَب على الشاكين بالآخرة من الناحية العملية حتى وإن كان نظرياً أنه مؤمن بها .

التأمل الخامس :
عندما تنطلق مرحلة الإيمان بالآخرة يعرض إبليس ظنّه على الإنسان ، فإن كان شاكّاً بالآخرة ( شكّاً عملياً ) فسيصدّق ظنَّ إبليس ويتّبعه حتى لو كان مؤمناً إيماناً نظرياً بالآخرة ، وإن أعرض ورفض ظنَّ إبليس فسيصدّق إيمانه بالآخرة عملياً بدل أن يصدّق ظنَّ إبليس .
ووفق ذلك فإن الإنسان يمرّ بعدة مراحل إيمانية : الشك النظري ، يليه الشك العملي ( الذي يعتبر تطبيقاً للإيمان النظري ) ، ثم تأتي المرحلة الأهم وهي الإيمان العملي .

التأمل السادس :
إن سلب سلطنة إبليس على البشر كي لا يكون الإنسان مجبراً على فعلٍ فتنتفي الحاجة للحساب في الآخرة ، ويُترَك مُخيّراً يحكمه الإيمان بالآخرة وما فيها من حساب ، فمن لم يتبع إبليس ويصدّق ظنه كان مؤمناً ، والعكس صحيح أيضاً ، أما من كان في شكٍ من الآخرة وضعف يقينه وإيمانه بها فسوف يتّبع إبليس ويصدّق ظنه ، والعكس صحيح أيضاً .
عندها سنعلم جميعاً وسنميّز المؤمن من الشاكّ ، ولو كان مجبراً لضاع علينا من هو المؤمن الحقيقي من غيره ، ولتذرّع المسيئون بهذا الإجبار ليبرروا إساءتهم .

التأمل السابع :
إن الحفظ يتناسب ويعتمد على العلم ، فمن يريد أن يحفظ نفسه من الأذى والاعتداء لا بد أن يعلم مصادر هذا الأذى والاعتداء ، وكلما زادت نسبة العلم زادت القدرة على الحفظ ، وبالتالي من يكون على كل شيء حفيظاً لا بد أن يكون بكل شيء عليماً ، لذا فرب العالمين يعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو في شك منها ، فلا ينقص إتباع الشاكِّ بالآخرة لإبليس في علمه شيئاً ولا يزيد المؤمن بها شيئاً الى علمه ، ولكن من الضروري أن يعلم الخلق ذلك كي تُلقى الحجة عليهم جميعاً .

التأمل الثامن :
إن العلاقة بين العلم والحفظ أكدتها آية الكرسي العظيمة ، إذ بيّنت أننا كبشر ( بل والمخلوقات عموماً ) لا نستطيع حفظ أنفسنا وأموالنا وأوطاننا لأننا لا نحيط بشيء من علمه سبحانه الذي يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا فلا يؤوده حفظ السموات والأرض التي تضم هذه المخلوقات بسبب ذلك العلم الحافظ ولأسباب أخرى ليست محل بحثنا .
ووفق ذلك يمكن أن نأخذ درساً أمنياً ، وهو أن العلم سبب مهم في حفظ بلداننا ، هذا العلم الذي يتطلب بحوثاً ودراسات تشمل الجانب الأمني والعسكري والتقني والاجتماعي وغير ذلك .

التأمل التاسع :
عندما نستطلع مشاعر كثير من البشر حول بعض القضايا المهمة فإننا سنجد هناك تفاعلاً مع هذه القضايا وكأنه لا وجود للآخرة ، إذ يتعاملون معها بنظرة دنيوية بحتة ، وبالتالي نرى هذه المشاعر مؤيدة لمن يحل هذه القضايا بأسلوب دنيوي حتى لو كان بعيداً عن الآخرة .
فمثلاً تطوير الواقع الاقتصادي وحل مشكلة الفقر يكون طريقين ، الطريق الأول صعب فتكون نتائجه قليلة وذلك لأنه يعتمد على الحلول التي لا تتقاطع مع الآخرة أو يكون لها نتائج وخيمة في الآخرة ، وهذا ما يفضّله ويؤيده المؤمنون ، والطريق الثاني سهل ويأتي بثمار كثيرة وكبيرة ولكن له عواقب وخيمة في الآخرة كاختيار الطرق الربوية أو التجارة المحرمة كتجارة الخمور والفسوق والانحراف ، وهذا ما يتفاعل معه الشاكّون بالآخرة ومنهم للأسف كثير من المسلمين .

* مشاركتها ثواب لنا ولكم

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M