“أوهام الغزو”.. لماذا تخاذلت الصين عن إخضاع تايوان في اللحظات الأخيرة؟

 نرمين سعيد

 

“ليس في العالم سوى صين واحدة” هكذا جاء أول رد فعل للخارجية الصينية على زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى الجزيرة التي تعتبرها الصين جزءًا لا يتجزأ منها، وعلى الرغم من أن بكين كانت قد ملأت الدنيا ضجيجًا وانخرطت في حلقات متعددة من توعد الولايات المتحدة إذا ما أقدمت بيلوسي على إتمام الزيارة التي كانت متوقعة، إلا أنه يمكننا القول إن رد الفعل الصيني حتى الآن لم يتجاوز التوعد إلى ما هو أكثر من ذلك. صحيح أن الصين أطلقت مناورات بحرية أحاطت بالجزيرة كما قالت وزارة الدفاع التايوانية إن 21 طائرة صينية اخترقت مجالها الجوي، إلا أن هذه الإجراءات كانت تتخذها بكين من قبل ولم يزد عليها سوى بعض العقوبات الاقتصادية، حتى أن رد الفعل الصيني حتى الآن شكل حالة من الصدمة واضعًا الصين في موقف حرج.

ولتفسير الموقف الصيني من زيارة بيلوسي إلى الجزيرة التايوانية، ينبغي لنا بداية فهم الواقع الجيوسياسي والاقتصادي للدول الأطراف في الأزمة أو التي من المرشح أن تصبح طرفًا فيها كالتالي:

أولاً: الموقف الصيني: 

أطلقت بكين حزمة من التحذيرات قبل زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي للجزيرة التايوانية، والتي تضمنت أن الجيش الصيني لن يقف مكتوف الأيدي إذا ما تمت الزيارة بالفعل، ولكن ما حدث أن الزيارة بدأت وانتهت دون أن يكون هناك ردع صيني، فلم تشن بكين عملية عسكرية ولا تعرضت حتى لطائرة نانسي بيلوسي، وكل ما قامت به يأتي في إطار التحركات الاعتيادية للصين في منطقة مضيق تايوان، ويمكن تفسير ذلك بشكل مبدئي بأن الصين غير مستعدة الآن لشن عملية عسكرية تخضع فيها تايبيه بالقوة، ومن ثم فإن تحرك الولايات المتحدة لم يشكل الدافع المخيف لبكين للإقدام على هذه الخطوة.

ومن المؤكد أن زيارة مسؤول أمريكي بحجم بيلوسي إلى تايبيه تحمل معاني كثيرة يمكن أن تؤثر على الوضع في الجزيرة، إلا أن الصين تفضل أن تكون رد فعل في هذا السياق دون أن تقدم على أخذ الفعل لعدد من الأسباب:

1- الأوضاع الاقتصادية المتردية:

  • تعاني الصين من مشكلة ضخمة في الكهرباء، مما دفع الحكومة لوضع قيود على عدد من المدن للحد من استهلاك الكهرباء، ومثال على القيود المفروضة في الصين، أشارت وسائل إعلام إلى أن عشرين مقاطعة صينية فرضت بالفعل قيودًا على استهلاك الكهرباء وتشمل المؤسسات الصناعية والمباني السكنية، ولتوضيح الأثر الاقتصادي للأزمة فقد طالت القيود ثلاثة مقاطعات مهمة من الناحية الاقتصادية، وهي جيانجسو وتشيجيان وجوانغدونغ، والتي تمثل ما يصل إلى ثلث الناتج المحلي الإجمالي للصين، كما طالت الإغلاقات معامل تنتج قطعًا للشركتين الأمريكيتين “أبل” و”تسلا”؛ ولذلك يتخوف خبراء من أن يؤثر انقطاع التيار الكهربائي على إمدادات أشباه الموصلات العالمية، إذا امتد انقطاع التيار الكهربائي إلى فصل الشتاء.
  •  انعكس ذلك على تصنيف الاقتصاد الصيني عالميًا، حيث خفضت مؤسسة “نومورا” توقعاتها لنمو الاقتصاد الصيني في الشهور الثلاثة الأخيرة من هذا العام إلى 3% بدلا 4.4%. ويمكن تفسير نقص الطاقة الكهربائية في الصين بالارتفاعات القياسية لأسعار الغاز والفحم على خلفية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا منذ فبراير الماضي، كما أن الصين تهدف إلى خفض الانبعاثات الكربونية مما يضع قيودًا على إنتاج الفحم. ومما زاد الطين بلة الإغلاقات المفروضة على نطاق واسع لمكافحة وباء كوفيد-19، والتي أدت إلى وقف الإنتاج الصناعي وتعطل سلاسل التوريد ضمن سياسة ” صفر كوفيد”.
  • انعكس الانهيار المعلن لأكبر شركة للعقارات “فايفر جراند” في الصين على الاقتصاد الصيني بشكل دراماتيكي، إذ لم تصمد أمام ديونها التي قدرت بحوالي 300 مليار دولار وهي نموذج للعديد من الشركات العقارية التي تعمل بذات الأساليب القائمة على الدين، مما سيترك آثارًا على متانة القطاع المصرفي هناك.

2- عدم الجاهزية:

  • لعل البعض يعتقد أن بكين قد يتم استفزازها عن طريق زيارة سياسية رفيعة المستوى إلى تايوان لأخذ رد فعل عسكري، ولكن التنين الصيني لا يجري توجيهه أو تحريكه بهذه السطحية، بعبارة أخرى فإن الطرح هنا لم يعد هل ستخضع الصين تايوان بالقوة؟ ولكن الطرح هو متى وكيف؟ فالحكومة المركزية في الصين تتعامل مع تايوان على أنها مسألة وقت، وتعترف بعدم جهوزيتها في الوقت الحالي لإخضاع تايبيه بالقوة.
  •  مبدئيًا، لا يعد الأسطول البحري الصيني أقوى الأساطيل البحرية في العالم؛ وعلى الرغم من أن هذا الأسطول يضم أكبر عدد من السفن الحربية والغواصات، إلا إنه بالنظر إلى تسليحه فإنه يحتل المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية، ولما كان الذي يفصل بين الصين وتايوان هو مانع مائي يصل طوله لحوالي 140 كلم فإن بكين لن تتحرك قبل أن تكون متأكدة من أنها ستنجز هذه المهمة المستحيلة بكفاءة تنتهي بضم تايوان بالقوة.  خصوصًا أن مجهودات الصين لتطوير أسطولها لتنفيذ عملية الغزو تقابل بجهود مماثلة من الولايات المتحدة، حيث تسعى الأخيرة لتعزيز وضعها في المحيطين الهندي والهادئ.

3- انتخابات الحزب الشيوعي الصيني: 

  • قبيل انتخابات الحزب الشيوعي الصيني وهو حدث جلل، يواجه الرئيس الصيني العديد من التحديات التي ليس من ضمنها اتخاذ سياسيات خارجية أكثر تشددًا، مع الوضع بالحسبان هنا أن الانتخابات الصينية لا تعول كثيرًا على القضايا القومية والشعبية في تحديد نتائجها خصوصًا ما إذا كانت البلاد تعاني من وضع اقتصادي خانق يشبه بأزمة الرهون العقارية في 2008. ومع انحياز الصين لروسيا في الحرب ضد أوكرانيا فإن هناك تخوفات من تردي الأوضاع الاقتصادية بشكل أكبر. ولذلك فإن الرئيس الصيني قد يحافظ على سياسات معتدلة خارجيًا حتى تمر الانتخابات بسلام فيعود للثأر والتحرك بطريقة أكثر راديكالية.
  • لا ينبغي فهم أن الانتخابات الصينية أنتجت سياسات خارجية صينية أكثر اعتدالًا ناحية تايوان فقط، ولكن الواقع أن الرئيس الصيني قرر تحييد التوترات الخارجية مع جميع الأطراف وعدم تصعيدها، والعمل من منطلق تعميق التحالفات وليس تضخيم العداوات، وعلى سبيل المثال، فإنه منذ عام 2020 أجرت الصين والهند 16 جولة من المحادثات بشأن نزاعهما الحدودي. ورغم أن المحادثات لم تسفر عن تقدُّم جوهري يذكر حتى الآن، سعت الصين بشغف لتحسين العلاقات الدبلوماسية مع الهند في أعقاب العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا.

4- التحالفات الأمريكية في المحيط الهادئ:

  • من الأمور الأخرى التي شكلت عامل ردع لبكين وجعلت رد فعلها أكثر هدوءًا على زيارة بيلوسي لتايوان، الوجود الأمريكي الأمني في منطقة المحيط الهادئ والتحالفات التي تقيمها واشنطن في المنطقة، مما يعني أن الصين لو تحركت عسكريًا ضد تايوان فإنها لن تكون في مواجهة الولايات المتحدة فقط، وإنما ستكون في مواجهة حلفائها في أوكوس والعيون الخمسة وكواد وهي تحالفات ذات طابع أمني بدرجة كبيرة إضافة بالطبع للاتفاق الأمني مع الفلبين والعلاقات القوية مع تايلاند. كما تمتلك الولايات المتحدة شراكات استراتيجية متفاوتة مع الهند وسنغافورة وإندونيسيا وماليزيا ومنغوليا وفيتنام.

5- التحركات العسكرية والعقوبات الاقتصادية: 

  • على الرغم من أن بكين لم تشن عملية عسكرية ضد تايوان، إلا أن التحركات العسكرية التي قامت بها شكلت ما يمكن أن يطلق عليه حصار للجزيرة التايوانية، حيث قال التلفزيون الصيني، إن جيش التحرير الشعبي، سيجري مناورات عسكرية وأنشطة تدريبية مهمة بما في ذلك التدريبات بالذخيرة الحية في ست مناطق محيطة بجزيرة تايوان من الخميس إلى الأحد. ونشرت وكالة الأنباء الصينية الرسمية “شينخوا” صورة للمواقع المحتملة للتدريبات العسكرية التي يجريها الجيش الصيني بالقرب من تايوان، بالتزامن مع زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى الجزيرة.
  • وتظهر الصورة التي نشرتها الوكالة، تمركز الجيش الصيني حول تايوان من جميع الاتجاهات، وهو ما ينذر بخضوع الجزيرة تحت الحصار عند بدء انطلاق المناورات.
  •  على جانب آخر، اتخذت بكين ردود فعل على الصعيد الاقتصادي علها تشكل عامل ردع للانفصاليين في تايوان حيث شملت العقوبات الاقتصادية التي أعلنتها الصين أمس الأربعاء، تعليق استيراد بعض أنواع الفاكهة والأسماك من تايوان وتصدير الرمال الطبيعية إلى الجزيرة، كما أعلنت وزارة التجارة من جانبها، “تعليق تصدير الرمال الطبيعية إلى تايوان” اعتبارًا من الأربعاء، دون إبداء أي تفسير، حيث إن الرمل الطبيعي عادة ما يستخدم في صناعة البيتون والأسفلت، وتعتمد تايوان بشكل كبير على الصين في توريدها.

ثانيًا: موقف الولايات المتحدة وتايوان: 

  1. بالون الاختبار:
  • استطاعت واشنطن بذكاء أن توظف زيارة نانسي بيلوسي لجزيرة تايوان كاختبار لنطاق رد الفعل الصيني، فمن ناحية روجت الرئاسة الأمريكية إلى أن الزيارة ليست بالمرضي عنها تمامًا من الناحية الرسمية وأتبعت ذلك بمكالمة طويلة من الرئيس الأمريكي للرئيس الصيني، إلا ان ذلك لم يكن أكثر من مناورة؛ فجو بايدن ديمقراطي مثل بيلوسي ويصعب أن يكون الحزب الديمقراطي يتصرف بما يخالف إرادة الرئيس الأمريكي، من ناحية أخرى لم يتم الإعلان الرسمي عن الزيارة أو تحديد وقتها، وهي مناورة أخرى جعلت العالم يترقب هل تفعلها واشنطن أم لا وأعاد حالة من الزخم والاهتمام الكبير بتحركات السياسة الخارجية الأمريكية، وبطبيعة الحال لم تكن واشنطن لتقدم على خطوة مثل زيارة رئيسة مجلس النواب إلا لو كانت واثقة بنسبة كبيرة أن بكين ليست جاهزة للغزو.
  1. الانتخابات النصفية للكونجرس:
  • لم يعد خافيًا أن توقيت زيارة بيلوسي لتايوان لم يكن وليد اللحظة، وإنما كان مخططًا ومحددًا منذ فترة طويلة استباقًا لموعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، التي تبدو فيها حظوظ الديمقراطيين ضعيفة، لذا فهي تعمل بشكل فعال على استطلاع أصوات الحزب الديمقراطي من خلال زيارة تايوان. ومن هنا فإذا فقد الحزب الديمقراطي أغلبيته في مجلس النواب، فلن تحتفظ “بيلوسي” بمنصبها كرئيسة المجلس وقد تخضع أيضًا للمساءلة من قبل الحزب وتضر بسمعتها. ومن ثم فقد هدفت الزيارة إلى إعادة اكتساب الشعبية المفقودة للديمقراطيين، ولا شك في أن واشنطن ظهرت بمظهر الدولة القوية التي تقول فتفعل دون أن تلفت لتهديدات دولة بحجم الصين.
  • ولكن في نفس الوقت، فإن الزيارة التي قامت بها بيلوسي إلى تايوان ألقت بالكرة مباشرة في ملعب واشنطن، وتشكل الزيارة بشكل مبدئي عامل مشجع للانفصاليين في تايوان لإعلان الاستقلال عن الصين، لكن الدعم السياسي الذي حظيت به تايوان على خلفية الزيارة غير كافي للانفصاليين لإعلان الاستقلال؛ وينقص هنا الدعم العسكري والاقتصادي الذي يبدو بعيد المنال، خصوصًا بعد مراقبة تحركات الولايات المتحدة في الأزمة الأوكرانية وقبلها الانسحاب من أفغانستان، والتي بعثت برسالة مفادها أن واشنطن لن ترسل جيشها لأي مكان.

ثالثًا: الموقف الروسي: 

  1. حدود الدعم:
  • يتم التعويل على الموقف الروسي من الأزمة التايوانية باعتباره حاسمًا، وذلك كما تم النظر تمامًا للموقف الصيني في وقت اشتعال الأزمة الروسية – الأوكرانية؛ وعلى الرغم من الدعم الذي قدمته موسكو للصين، والذي انعكس في تصريحات الكرملين والخارجية الروسية التي أدانت زيارة بيلوسي لتايوان ووصفتها بالاستفزازية، إلا أن علامة الاستفهام هنا يتم وضعها حول حدود الدعم الذي يمكن أن تقدمه موسكو لبكين في حال اضطرت الأخيرة لشن عملية عسكرية.
  • التصريحات الروسية على خلفية الزيارة، كانت أكثر وضوحًا وأكثر سرعة من التصريحات الصينية إبان الأزمة الأوكرانية، حيث أصرت فيها بكين على الحفاظ على نوع من الحياد التكتيكي حتى لا تكون عرضة لعقوبات اقتصادية تنهك اقتصادها المنهك بالأساس، فقد أبدت بكين تفهمًا لمتطلبات روسيا على صعيد الأمن الاستراتيجي، ودعت الغرب إلى الحوار مع موسكو في هذا الشأن، لكنها تجنبت إعطاء إشارات مباشرة إلى دعم العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
  • تمتلك الصين وروسيا تعاون عسكري على مستوى رفيع ينعكس في دعم موسكو لبكين لامتلاك التقنيات العسكرية الروسية المتطورة، من الغواصات والمدمرات، وتكنولوجيا الأسلحة، التي استفادت منها الصين في تطوير طائراتها ومطاراتها، وقواتها البحرية، وقدراتها الحربية والعسكرية، ودفاعها الجوي. ولكن على أي حال، فإن هذا هو الحد الفاصل للدعم العسكري الذي يمكن أن تقدمه موسكو لبكين إذا ما سارت الأمور للأسوأ، لأن موسكو بالأساس منشغلة بتحركات مضنية لجيشها في أوكرانيا وسوريا ومن البديهي أنها لن تورط نفسها في المزيد.

ختامًا، تبقى عملية تايوان  تحديًا كبيرًا لجيش التحرير الشعبي لسنوات مقبلة قد تمتد حسب التقديرات لعام 2027، وهو ما يمكن فهمه بسهولة من العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا والتي تظهر في كل المقارنات إذا ما شئنا الحديث عن الحالة الصينية – التايوانية، فالبرغم من أن موسكو تمتلك جيشًا قويًا يتمتع بخبرات في الحركة الخارجية في الكثير من الجبهات، وأن ظروف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أقل تعقيدًا بكثير من عملية غزو بكين لتايبيه، فإن الجيش الروسي لم ينجح حتى الآن في حسم الأمور، وهو ما يضاف لما تقدم من أسباب تجعل الصين تتريث في أخذ خطوة مماثلة في الوقت الحالي.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/72011/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M