تأملات قرآنية من الآية السادسة من سورة سبأ

بهاء النجار

وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)

التأمل الأول :
علينا أن نمتلك رؤيتين ، رؤية مادية نتعامل بها مع المحيط المادي وقوانينه التي أوجدها الله تعالى ، ورؤية معنوية تتعامل بها مع العالم المعنوي الذي أوجده الله سبحانه أيضاً ، فوفق قوانين هذا العالم يستطيع الإنسان أن يرى ما أنزله تعالى الى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بقلبه ، وأن يرى ذلك على أنه الحق ، فلا يقدّم شيئاً عليه ويفضّل أمراً من دونه ، باعتباره يهدي الى صراط الله العزيز الحميد ، ففيه العزة والحمد والثناء .
ولكي نمتلك هاتين الرؤيتين لا بد من علم مختص بهذا الشأن ، وهو ما نجده في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة من السُنّة المطهرة .

التأمل الثاني :
التراث الإسلامي مليء بالشواهد التي تنفع المهتمين بالتنمية البشرية ، لذا يرى المتتبع لمدربي التنمية البشرية استشهادهم بشواهد وحوادث تأريخية إسلامية ، لأن الإسلام جاء لهداية البشرية الى الطريق الذي يضمن العزة والحمد والثناء والمكانة الرفيعة ، وتنميتهم روحياً ومعنوياً وجسدياً .
والتنمية البشرية علمٌ يحاول أن يساعد الإنسان في رؤية كثير من الحقائق التي لا يراها بدون هذا العلم ، فالعقل الباطن والثقة بالنفس والطاقة الإيجابية وغيرها كلها أمور أوجدها الله تعالى ليكون الإنسان عزيزاً حميداً .

التأمل الثالث :
هناك قاعدة قرآنية يمكن أن نستنبطها من الآية الكريمة ، وهي أن ما أُنزِلَ على النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله هو الحق ولا حق غيره ، بمعنى أنه الحق المطلق ، ومن يرى هذه الحقيقة فهو ممن أوتي العلم ولو بشكل عام ، بعبارة أخرى هو من العلماء وإن كان ظاهره أو وفق مقاييس عرفية دنيوية يعدّ جاهلاً ، كما يمكن أن نصل الى حقيقة معاكسة وهي أن من لا يرى ما أُنزِلَ على النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله هو الحق المطلق فهو غير عالم وإن كان ظاهره أو وفق مقاييس عرفية دنيوية يعدّ عالماً ، أو لنقل هو جاهل ، وهناك شواهد قرآنية تؤيد ذلك .

التأمل الرابع :
العلم ليس صنفاً واحداً وإنما عدة أصناف ، وكلٌ يرى صنفاً معيناً هو الأفضل فيهتم به ويعطيه كل وقته وجهده ، وإذا استنطقنا القرآن ليعرّف لنا العلم لنعرض باقي أصناف العلوم عليه كي نعرف أيها تنطبق عليه أو أقرب إليه على الأقل ، فسيبيّن لنا أن العلم هو الذي إذا أتى إنساناً جعله يرى ما أنزله الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وآله بأنه الحق ويهدي الى صراط العزيز الحميد .
أما غيره من العلوم فليس من الصحيح إلغاؤها لأنها بأي شكل من الأشكال هي جهود بشرية محترمة ، بل إذا سُخِّرت هذه العلوم لدعم وإسناد العلم الذي عرّفه القرآن الكريم فستكون من العلوم المهمة التي ينبغي استحصالها ، ما عدا ذلك تكون غير مهمة .

التأمل الخامس :
من علامات ما أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله أنه حقٌ ( وليس باطلاً ) ، فربُّ العزة لا ينزل باطلاً ، فما اتُفِقَ على أنه باطل أو ما اقتنعنا بأنه باطل فهو خارج الشريعة الإسلامية ، وما أنزله الله جل وعلا من حق لا يعلمه إلا من أوتي العلم الحق ، أما من لم يؤتَ ذلك العلم فيختلفون في مصاديق الحق ، كما نختلف اليوم .
والعلامة الثانية أنه يهدي الى صراط العزيز الحميد ، أي لا يهدي الى الذلّة والتنكيل ، ومعرفة هذه العلامة تتطلب تعريف العزة من قبل من أوتوا العلم كي لا تختلط علينا الأمور فنفهم العزة ذلاً والذلة عزاً .

التأمل السادس :
ما أُنزِلَ الى الرسول صلى الله عليه وآله حقٌ ويهدي الى ما فيه العزة والرفعة ، فالمؤمن برسالة الإسلام ويراها حقاً مطلقاً لا بد أن يهتدي الى الطريق والوسيلة التي تجعله عزيزاً ، ولكن قد يتوهم البعض فيظن أن كل عزة ورفعة ناتجة عن طريق حق ، وهذا غير صحيح ، لأن هناك عزة ورفعة ظاهرية وقتية دنيوية ، أما العزة والرفعة الحقيقية فتكون دائمية ، ولا يهتدي إليها إلا من أوتي العلم الحقيقي ويرى الإسلام شريعة حقة بكل تفاصيلها من دون استثناء ، لذا من الضروري أن نتمسك بمن أوتي العلم الحقيقي لنهتدي الى طريق العزة والرفعة .

التأمل السابع :
عندما يسألك غريبٌ في منطقتك عن مكان معين فإنك تحاول أن ترشده الى الطريق الذي يؤدي إلى ذلك المكان ، وليس من المنطقي أن ترشده مباشرة الى المكان الذي سألك عنه ، لأنه لو كان يعرف موقعه لما سألك ، لذلك تكون الهداية الحقة بإرشاد قليل المعرفة الى الطريق الذي يؤدي الى العزيز الحميد جل وعلا ، لأن هذا الطريق سيوصل سالكه الى غايته ، أما الهداية الى العزيز الحميد سبحانه وتعالى مباشرة فلا تعتبر هداية بل هو إضلال لأنه غير متاح للجميع إلا من أوتي العِلم الحق وهم الأنبياء وأوصياؤهم ، لأن الآخرين غرباء في ساحة المعرفة الإلهية ويحتاجون الى من يدلّهم الى الطريق المؤدي الى معزِّهم جل شأنه .

التأمل الثامن :
نظرية ( الغاية تبرر الوسيلة ) نظرية بائسة تعكس فشل مؤسسها ومن يؤمن بها ويبني حياتها على أساسها ، لأن هؤلاء لا يستطيعون تحقيق غاية نبيلة بوسيلة نبيلة فيلجأون الى أية وسيلة لتحقيق تلك الغاية ، هذا فضلاً عن الغايات غير النبيلة .
بينما الفكر الإسلامي يشترط أن تحقق الغاية النبيلة بوسيلة نبيلة أيضاً ، ومن هنا نفهم أن من أوتي العلم الحق يرى أن الرسالة الإسلامية تهدي الى الصراط الحميد المحمود الذي يحقق العزة ، أما الصراط غير الحميد وغير المحمود فإن شريعة الإسلام لا تهدي إليه حتى لو أدى الى العزة .

التأمل التاسع :
يومياً يدعو المسلمُ ربَّه تعالى على الأقل عشر مرات في صلواته الخمس ويطلب منه الهداية الى الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من غير المغضوب عليهم ولا من الضالين ، ومن يؤتى العلم يرى أن هذا الصراط المستقيم هو طريق الأولياء من الأنبياء والأوصياء الذين لم يكونوا يوماً مغضوباً عليهم أو ضالين لأنهم معصومون من ذلك ، هذا الصراط المستقيم هو الطريق المحمود للعزة المحمودة ، ولا عزة حقيقية بدونه .
هذا العلم وهذه الرؤية يمكن أن يتحققا بعبادة الله جل وعلا عبادةً حقيقيةً والاستعانة به للوصول الى ذلك ، ومن لم يؤتَ علمٌ يمكنه من رؤية هذا الصراط فهذا يعني أن هناك خللاً في عبادته واستعانته .

التأمل العاشر :
إن العزة الحقيقية تتحقق عندما يكون الإنسان من غير المغضوب عليهم ولا من الضالين ، ومن وصل الى هذا المستوى فهو بالتأكيد عالماً ، ومن يهتدي إلى صراطه ونهجه يكون عزيزاً وعالماً أيضاً ، وسورة الفاتحة – التي من المفترض أنها معجونة بدم ولحم كل مسلم – تعطينا الآلية التي تجعلنا علماء فنرى الرسالة الإسلامية حقاً وأنها تهدي الى طريق العزة فنكون أعزاء .
وبما أن مقدمة الهداية الى الصراط المستقيم تعتمد اعتماداً أساسياً على عبادة الله تعالى عبادة تشمل كل طاعة ولا تتوقف عند المعنى الخاص للعبادة ، وعلى الاستعانة به جل وعلا ، فإن العزة الحقيقية تتجسد في طاعة الله سبحانه (عبادته) والاستعانة به .

التأمل الحادي عشر :
الحمد لا يكون إلا للحميد ، ورب العالمين لا بد أن يكون عزيزاً ، لذا فإن الحمد لله رب العالمين يؤهل الحامد ليعبده تعالى ويستعين به ، فيهديه الصراط المستقيم على مستوى ما أوتي من علم استحصله بعبادته وطاعته له سبحانه ، صراط العزة المحمود ، صراط العزة المحمودة ، صراط من أنعم الله عليه برؤية الحق الذي أُنزِلَ على صدر محمد صلى الله عليه وآله رؤية تمنعهم وتحجزهم عن فعل كل ما يجعلهم من المغضوب عليهم أو من الضالين .

التأمل الثاني عشر :
يظن الكثيرون ممن يغفل عن ذكر الله والالتفات الى ألطافه أن الحصول على العلم هو جهد شخصي بحت ولا يلتفت الى البُعد الغيبي ، كقارون الذي يقول ( إنما أوتيته على علم عندي ) ، ولو فرضنا أن ما يؤتى من علمٍ هو جهد شخصي بحت فإن ثماره لا تلبي طموح المؤمنين لأنه لا يهدي الى صراط العزيز الحميد ، أما من يتيقن أن العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء فإنه يسير بجهده الشخصي بعد طرق الباب الغيبي ليتمكن من رؤية الحق الذي أُنزِل على قلب الخاتم صلى الله عليه وآله ويهديه الى صراط العزيز الحميد .

التأمل الثالث عشر :
نصيحة الى كل طلبة العلوم بشتى أصنافها وخصوصاً طلبة العلوم الطبيعية والتطبيقية ومنهم طلبتنا الأعزاء في المدارس أن يضعوا في حساباتهم أن العلم الذي يطلبونه لا يأتي كما يشاءون إلا أن يؤتيهم الله تعالى هذا العلم ، ومن أسباب إيتاء العلم لطالبه أن يجدّ ويجتهد في طلبه للعلم ، ولكن هذا ليس السبب الوحيد ، فلا بد أن يوفّق الله تعالى الطالب لحمل ذلك العلم ، فقد لا تكون من مصلحة الإنسان أن يحصل على صنف معين من العلوم فيتدخل الباري عز وجل ليوجهه الى العلم الذي ينفعه في معرفة الحق ويهتدي به الى صراط العزيز الحميد ، وهنا على الطالب أن يرضا بما كتبه الله جل وعلا .

* مشاركتها ثواب لنا ولكم

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M