تبايُن يعكس الإرث التاريخي: مقاربة الاتحاد الأوروبي لمستقبل غزة ما بعد الحرب

  • في الوقت الذي سارعت كافة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى شجب هجوم “حماس” ودعم حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، إلا أن الإرث التاريخي والرأي العام شكلت عوامل دفعت إلى الاختلاف، ابتداءً من دعم إسرائيل دون قيد أو شرط وانتهاءً بانتقاد إسرائيل بسبب حملتها العسكرية في غزة، ودعم القضية الفلسطينية.
  • الأمر الحقيقي الوحيد الذي يتفق عليه الأوروبيون بسهولة يَتَمَثَّلُ في أن عودة التوتر في إسرائيل وفلسطين يتعارض مع المصالح الأوروبية الاستراتيجية.
  • يُكرّر الاتحاد الأوروبي التأكيد على الحاجة إلى بذل جهود ملموسة وجماعية مع الشركاء الإقليميين والدوليين لوقف دورة العنف الحالية في غزة، وتعزيز خفض التصعيد وضمان الإفراج غير المشروط عن الرهائن، فضلاً عن زيادة المُساعدات الإنسانية لغزة. 

 

 

يسعى الاتحاد الأوروبي جاهداً – منذ هجوم حركة “حماس” في 7 أكتوبر 2023 على إسرائيل، والهجوم العسكري الإسرائيلي الشامل في قطاع غزة – لخوض المعضلات الجيوسياسية والإنسانية للتوصل إلى مقاربة موحدة. وتعين على الاتحاد الأوروبي “السير بحذر” وذلك بإدانة “حماس” باستخدام “أشد العبارات الممكنة”، والتأكيد على “حق” إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في الوقت الذي تحث فيه تل أبيب على احترام القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي.

 

واتضحت صعوبة التوصل إلى موقف مشترك حول المسألة الإسرائيلية-الفلسطينية نهاية أكتوبر 2023 خلال أول اجتماع لقادة الاتحاد الأوروبي لبحث الحرب في غزة. وأظهر النقاش المستقطب في المجلس الأوروبي – المؤسسة المخصصة لتحديد الاتجاه والأولويات السياسية الكلية للاتحاد الأوروبي – المواقف المتباينة لدول الاتحاد.

 

واتفقت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي نهاية المطاف في البيان الختامي المشترك – بعد تردد بعض الدول بالدعوة إلى وقف رسمي لإطلاق النار خشية التعدي على قدرة إسرائيل بالدفاع عن نفسها ومنح “حماس” فرصة إعادة التسلح – على حل وسط يدعو إلى “ممرات وهدنة إنسانية“. وشعرت كافة العواصم الأوروبية بالارتياح خلال هدنة الأسبوع في نوفمبر الماضي، ما يشير إلى أن الأمر الحقيقي الوحيد الذي يتفق عليه الأوروبيون بسهولة يَتَمَثَّلُ في أن عودة التوتر في إسرائيل وفلسطين يتعارض مع المصالح الأوروبية الاستراتيجية. وأكد منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل “أن الطريقة التي تمارس فيها إسرائيل حق الدفاع عن النفس أمر مهم” وذلك بعد ارتفاع عدد القتلى في صفوف الفلسطينيين بشكل كبير وحجم الدمار المتصاعد والازمة الإنسانية الكارثية في قطاع غزة. كما استنكر بوريل تزايد العنف في الضفة الغربية. وأكد بوريل ضرورة استئناف الهدن الإنسانية وجعلها مستدامة وبعيدة الأمد في الوقت الذي يجري فيه الانخراط مع الشركاء الإقليميين بما في ذلك السلطة الفلسطينية لوضع مقاربة مشتركة لإقامة سلام دائم استناداً إلى حل الدولتين.

 

الانقسامات الأوروبية حول الحرب في غزة

ساهمت الأحداث المأساوية في 7 أكتوبر 2023 وما تلاها من تصاعد أعمال العنف والموت في إظهار مدى الاختلاف في مواقف دول الاتحاد الأوروبي حول المسألة الإسرائيلية-الفلسطينية. وفي الوقت الذي سارعت فيه كافة الدول الأعضاء إلى شجب هجوم “حماس” ودعم حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، غير أن الإرث التاريخي والرأي العام شكلت عوامل دفعت إلى الاختلاف ابتداء من دعم إسرائيل دون قيد أو شرط وانتهاء بانتقاد إسرائيل بسبب حملتها العسكرية في غزة، ودعم القضية الفلسطينية. لذلك هناك حاجة إلى إلقاء نظرة دقيقة على السياسة الداخلية لدول الاتحاد للحصول على فهم شامل للأساس المنطقي خلف مقاربة دول الاتحاد الأوروبي المتباينة لمثل هذه المسألة الحساسة.

 

وتأتي ايرلندا في المرتبة الأولى ضمن الدول الأوروبية التي تبدي مشاعر قوية تجاه الفلسطينيين، حيث طوّر المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية الايرلندية تعاطفاً قوياً إزاء نضال الفلسطينيين من أجل حق تقرير المصير وإقامة دولتهم؛ نظراً لتاريخ ايرلندا مع الاستعمار. وأصبحت دبلن منذ ثمانينيات القرن الماضي أول دولة في الاتحاد الأوروبي تدعم إقامة الدولة الفلسطينية. ومنذ اندلاع الحرب في غزة خرجت مظاهرات حاشدة مؤيدة للفلسطينيين في أنحاء ايرلندا لشجب الهجمات الإسرائيلية على القطاع، كما حاولت أحزاب المعارضة دون نجاح تحويل إسرائيل إلى محكمة الجنايات الدولية وطرد السفير الإسرائيلي من ايرلندا. وقال رئيس وزراء ايرلندا ليو فارادكار بعد انتقاده رئيسة المفوضية الأوروبية اورسولا فون دير لاين لـ “افتقارها للتوازن” في بعض تصريحاتها حول الحرب بين إسرائيل و”حماس” إن الاتحاد الأوروبي لا يُشَكِّل تمثيلاً دقيقاً لموقف ايرلندا. كما يشترك في هذا الموقف رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانتشيز،  حيث دعت كلٌّ من دبلن ومدريد إلى وقف إطلاق النار بدلاً من الهدنة.

 

وعلى غرار ايرلندا فإن دعم إسبانيا للفلسطينيين متجذر في السياسة الداخلية الإسبانية. كما ينبع موقف مدريد المؤيد للفلسطينيين بشكل جزئي من المخاطرة الكبيرة التي قامت بها الدولة الإسبانية مؤخراً والمتمثلة بضم دعاة الاستقلال في إقليم كاتالونيا والقوميين في إقليم الباسك إلى الحكومة الجديدة. ويلقى نضال الفلسطينيين أصداء في أوساط الناخبين من هاتين الأقليتين في إسبانيا اللتين سعتا – ولو بشكل مختلف – للحصول على الاستقلال عن مدريد. لذلك فإن مسألة تفضيل طموحات الفلسطينيين والانخراط مع الشركاء الأوروبيين للاعتراف بالدولة الفلسطينية أصبحت في المقدمة في أوساط الائتلاف الحكومي اليساري الجديد بزعامة الاشتراكي سانتشيز. وأعلن سانتشيز خلال تصريحاته للصحافة عند معبر رفح عن نية بلاده الاعتراف بالدولة الفلسطينية بشكل أحادي في حال عدم قيام الاتحاد الأوروبي بالخطوة الأولى، وعبر عن شجبه للقتل العشوائي للمدنيين الفلسطينيين ووصفه بأنه “مرفوض تماماً“.

 

كما تبنى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بشكل تدريجي موقفاً أكثر انتقاداً لإسرائيل، حيث دعا خلال مؤتمر دولي انعقد في قصر الإليزيه نوفمبر الماضي إلى وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، مؤكداً أهمية التوصل إلى وقف لإطلاق النار. ويتعارض هذا الموقف تماماً مع مقاربة باريس السابقة للصراع، حيث عبر ماكرون خلال الشهر الأول للحرب بين إسرائيل و”حماس” عن دعمه وتضامنه الكامل مع تل أبيب، والذي يُعتبر ابتعاداً عن موقف فرنسا التقليدي  المؤيد للعرب. وتظاهر مؤيدون لفلسطين في دول مثل تونس ولبنان خارج السفارتين الفرنسية في كل من تونس وبيروت لشجب دعم باريس (والغرب) لإسرائيل. وذهب الرئيس الفرنسي خلال زيارته إلى إسرائيل إلى حد اقتراح إحياء تحالف محاربة “داعش” – والذي تم تشكيله عام 2014 – لمحاربة “حماس”. وأثار اقتراح ماكرون هذا وموقفه المبكر تجاه حرب إسرائيل في غزة انتقادات من الدبلوماسيين العاملين في إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوزارة الخارجية الفرنسية. وتُعَدُّ المخاوف المتزايدة إزاء صورة فرنسا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أحد الأسباب الرئيسة وراء التحوُّل في باريس لتبني موقف أكثر صرامة تجاه إسرائيل. وتجدر الإشارة إلى وجود نحو 6 مليون مسلم في فرنسا ينحدر معظمهم من شمال أفريقيا، لذلك تحظى القضية الفلسطينية بتعاطف في صفوف المسلمين الفرنسيين الذين يرون انعكاساً لصراعهم ومعاناتهم في النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين.

 

وتُعَدُّ النمسا وألمانيا من بين دول الاتحاد الأوروبي التي تبنت موقفاً مركزياً يدعم إسرائيل بشكل غير مشروط، حيث تُشَكِّلَ الذاكرة الجمعية لفظائع النازيين وحرق اليهود الأوروبيين خلال الحرب العالمية الثانية ركيزة جوهرية لهوية ألمانيا السياسية ما بعد الحرب العالمية والتي يلخصها شعار “لن يحدث مرة أخرى أبداً”، والذي تتعامل معه ألمانيا على أنه التزام ألماني لحماية اليهود والدولة اليهودية. ونأت كلٌّ من برلين وفيينا بنفسها عن الدعوات إلى وقف لإطلاق النار على مستوى الاتحاد الأوروبي والساحة الدولية – لصالح الدعوة إلى هدنة إنسانية – بسبب المخاوف من أن وقف إطلاق النار سيصب في مصلحة “حماس”.

 

وكان المستشار الألماني أولاف شولتز أول زعيم غربي يزور إسرائيل في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر 2023، حيث أكَّدَ لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن “المسؤولية التي نتحملها نتيجة المحرقة تجعل من واجبنا دعم وجود وأمن دولة إسرائيل”. ومع أن مشاعر معاداة السامية ليست ظاهرة جديدة، خاصة في النمسا، غير أن الطبقة الحاكمة في ألمانيا والنمسا شعرت بالقلق إزاء التصاعد الكبير في هجمات معاداة السامية منذ اندلاع الحرب في غزة، بما في ذلك الأفعال المتطرفة مثل حرق القسم اليهودي في مقبرة فيينا المركزية وإلقاء قنبلة حارقة على معبد يهودي في برلين. ورداً على ذلك عمدت السلطات النمساوية إلى رفع مستوى الإنذار الإرهابي في البلاد إلى “مرتفع” منذ منتصف أكتوبر الماضي.

 

وهذه المخاوف ليست معزولة بحد ذاتها؛ ففي الواقع، رفعت العديد من الحكومات الأوروبية، بما في ذلك فرنسا وبلجيكا، مستويات التأهّب الأمني لديها، خشية أن الصراع الدائر بين إسرائيل وحماس يُمكن أن يزيد من تأجيج المشاعر المُعادية للساميّة وتُصبح أرضاً خصبة للتطرّف والهجمات الإرهابية. وفي هذا الصدد، كان للدعاية الإسرائيلية في مُقارنتها بين هجمات حماس والأساليب التي تعتمدها الجماعات الجهادية تأثير ملحوظ على دول أوروبا الغربية. إن طعن مدرس في بلدة أراس في شمال فرنسا على يد رجل مسلم يهتف “الله أكبر”، أو الهجوم بالسكين والمطرقة الذي نفّذه مواطن فرنسي اعتنق الإسلام الراديكالي مؤخراً بالقرب من برج إيفل، قد صدم فرنسا؛ إذ لا تزال الهجمات الإرهابية في عامي 2015 و2016 حاضرة في ذاكرة الفرنسيين.

 

لكن التحذيرات من احتمال عودة العنف المُتطرّف تُغذّي الحركات الشعبوية اليمينية المُتطرّفة الأوروبية ودعاية الحكومات ذات الميول اليمينية التي تساوي بين خطر الإرهاب والإسلام. وبشكل عام، خرجت مسيرات مؤيّدة لفلسطين في العديد من العواصم الأوروبية، بما في ذلك روما ولندن وباريس وبرلين. وتُهدّد هذه المَسيرات، التي تقودها أحزاب يسارية، بتسييس القضية الفلسطينية في الرأي العام الأوروبي الذي لا يزال يتّجه بشكل عام نحو أحزاب اليمين، كما اتضح ذلك من خلال الفوز الانتخابي الذي حقّقه اليمين المُعادي للأجانب في هولندا في 22 نوفمبر 2023 مع انتصار حزب الحرية المُناهض للمُسلمين بقيادة خيرت فيلدرز.

 

الانتقادات العربية للموقف الأوروبي

بعد أكثر من شهرين من حرب غزة، يُكافح الاتحاد الأوروبي، المُشتبك في السياسة الداخلية والأولويات الوطنية والاهتمامات المحلية، لإيجاد موقف موحّد بشأن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وقد واجهت الطريقة التي تعاملت بها مؤسّسات الاتحاد الأوروبي حتى الآن مع الحرب في غزة الكثير من الانتقادات، بخاصةٍ في العالم العربي، حيث تُشدّد الدول العربية على الحاجة المُلحّة لوقف الحرب. كما ندّدت هذه الدول مراراً وتكراراً بالمعايير المُزدوجة واللامبالاة الغربية والنفاق تجاه الفلسطينيين. وقد أدّى التناقض بين استجابة الاتحاد الأوروبي للحرب الأوكرانية ورد فعله على المأساة التي تتكشّف في غزة إلى رفض العواصم العربية بشكل قاطع للافتراض القائل بأن السياسة الخارجية الأوروبية مدفوعة بشكل أساسي بحقوق الإنسان والقيم الأخلاقية.

 

فعندما غزت روسيا أوكرانيا، طلب الاتحاد الأوروبي من الدول العربية تبنّي موقف قوي ضد موسكو، مُستندةً بذلك إلى المبادئ الأخلاقية. ومع ذلك، أُصيب الاتحاد الأوروبي بخيبة أمل عندما قرّرت غالبية الدول العربية تبنّي موقف مُحايد بشأن القضية الأوكرانية، ورفضت فرض عقوبات على موسكو أو حتى عزل الزعيم الروسي فلاديمير بوتين سياسياً. ومع ذلك، مع القصف العشوائي لغزة والهجوم البري الإسرائيلي الموسّع على القطاع، فإن رد فعل الاتحاد الأوروبي المُختلف عن رد فعله إزاء الصراع الروسي-الأوكراني قد أضرّ بشدّة بسمعته كبوصلة أخلاقية. فلم تعد الخيارات السياسية المدفوعة بالقيم والمبادئ الأخلاقية قابلة للتحقيق.  وقد يبدأ الاتحاد الأوروبي قريباً في قبول حقيقة أن سمعته قد تغيّرت في أعين دول الجنوب العالمي.

 

المُقاربة الأوروبية إزاء مُستقبل غزة والقضية الفلسطينية

مع ذلك، لم يتخلّ قادة الاتحاد الأوروبي عن فكرة إنشاء دولة للفلسطينيين، حيث صرّح المُمثّل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بمُناسبة الاجتماع الوزاري للاتحاد من أجل المتوسط (U4M) الذي عُقد في برشلونة في نوفمبر الماضي “أن قيام دولة فلسطينية في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية هو الضمان الأفضل والوحيد على المدى الطويل لأمن إسرائيل”.  وأكّد بوريل استعداد الاتحاد الأوروبي للعمل المُشترك مع الشركاء العرب من أجل وضع خطة واقعية لمرحلة ما بعد الصراع. ومن وجهة نظر الاتحاد الأوروبي، ثمة حاجة أولاً إلى مُشاركة قوية من جانب الدول العربية في إعادة البناء الاقتصادي والسياسي لغزة كوسيلة لحشد الدعم الشعبي بعيداً عن حماس واستعادة السلطة الفلسطينية كبديل موثوق لأي سيناريو سياسي ما بعد الحرب. وفي هذا الصدد، أعلنت بروكسل، بوصفها أكبر مانح للفلسطينيين، أنها ستُضاعف مُساعداتها الإنسانية لغزة أربع مرات وبما يصل إلى أكثر من 100 مليون يورو.

 

وبهدف رسم رؤية سياسية مُشتركة تُعالج الدوافع الرئيسة للصراع، حدّد الاتحاد الأوروبي خطوطاً حمراً مُحدّدة تتضمّن منع عودة حماس إلى غزة كقوة سياسية وعسكرية؛ ومُعارضة أي محاولة لتقطيع أوصال أراضي غزة وإعادة استيطان إسرائيل للقطاع والتهجير القسري للشعب الفلسطيني؛ ووقف الاستيطان غير القانوني للضفة الغربية، وهو مصدر رئيس للتوتّر وإحدى العقبات التي تحول دون حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وعلى الرغم من التزام بروكسل بأن تكون أكثر انخراطاً في المنطقة، فقد أقرّ الاتحاد الأوروبي بأنه سيتعيّن على الجيران العرب – وبخاصةٍ أولئك الذين لديهم علاقات جيّدة مع كل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية – تحمُّل مسؤولية قيادة الجهود بهذا الخصوص.

 

وفي ضوء ذلك، فإن رفض إسرائيل السماح للسلطة الفلسطينية بالسيطرة على غزة بمُجرّد نجاحها في إخراج حماس من القطاع يُعتبر أحد العقبات الرئيسة في تنفيذ أي اتفاق في غزة في مرحلة ما بعد الحرب، وتنفيذ حل الدولتين.

 

وفي مواجهة سياسة إسرائيل طويلة الأمد المُتمثّلة في إدامة الفصل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بين غزة والضفة الغربية، ينبغي على الاتحاد الأوروبي تعزيز الجهود الدبلوماسية المُشتركة مع الولايات المتحدة – أقرب حليف لتل أبيب؛ وبالتالي، اللاعب الأكثر نفوذاً في التغلّب على المأزق الحالي. ويجب على بروكسل وواشنطن العمل معاً لتحدي رواية إسرائيل بأنه يمكن الوصول إلى احتياجات البلاد الأمنية واستقرارها من دون وضع سيناريو واقعي لغزة بعد الحرب وإنشاء دولة فلسطينية. وينبغي عليها أيضاً الاستفادة من مخاوف المسؤولين الإسرائيليين المُتزايدة من “التورّط إلى أجل غير مسمى” في غزة. وفي مقال رأي نُشر في صحيفة واشنطن بوست قال الرئيس الأمريكي جو بايدن بهذا الخصوص: “بينما نسعى جاهدين من أجل السلام، يجب إعادة توحيد غزة والضفة الغربية في نهاية المطاف تحت هيكل حكم واحد في ظل سلطة فلسطينية نشطة، بينما نعمل جميعاً نحو تحقيق حل الدولتين”. وفي هذا الصدد، فإن طلب اتخاذ تدابير أمنية مؤقّتة في أعقاب الحرب مُباشرةً، بما في ذلك احتمال مشاركة قوات حفظ سلام دولية، لا معنى له إن لم يقترن بمسار سياسي نشط ومُستدام للقيادة الفلسطينية.

 

في أوائل عام 2023، أطلق الاتحاد الأوروبي ما يُسمّى بعملية “جهد يوم السلام” مع السعودية وجامعة الدول العربية ومصر والأردن، مع أول اجتماع وزاري إلى جانب انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2023. وسعى هذا الجهد إلى إنتاج “حُزمة دعم السلام” التي من شأنها أن تزيد من عوائد السلام للفلسطينيين والإسرائيليين، بناءً على مُبادرة السلام العربية (API) مع إنتاج فوائد إضافية عند توقيع اتفاق شامل. وتضمّنت هذه الفوائد مُقترحات للتعاون الاقتصادي، بما في ذلك في مجالات التجارة والاستثمار والابتكار والبنية التحتيّة للنقل والموارد الطبيعية، فضلاً عن تغيّر المناخ والبيئة إلى جانب برامج مُجتمعية وإنسانية وثقافية. ولا يزال بإمكان الاتحاد الأوروبي العمل على إطار عمل مُماثل، وتحفيز السلام، لكن انقلبت المعايير بسبب التصعيد الأخير في إسرائيل وفلسطين.

 

وعلى نطاق أوسع، فإن الأوروبيين مُتّحدون أيضاً في قلقهم من التداعيات والتصعيد الإقليمي المُحتمل، حيث يراقبون بقلق عشرات الهجمات على القوات الأمريكية في العراق وسوريا، ويشعرون بالقلق إزاء احتمال خروج الأحداث عن السيطرة، بخاصةٍ خلال عام الانتخابات في الولايات المتحدة. وهم قلقون أيضاً بشأن الهجمات المُتبادلة بين إسرائيل وحزب الله، والتأثير المُحتمل لذلك على وجود القوات الدولية في لبنان، بما في ذلك الوحدة الإيطالية التي تقود بعثة الأمم المتحدة المؤقّتة في لبنان (اليونيفيل). وهم قلقون بشدّة بشأن تهديد الحوثيين للأمن البحري في البحر الأحمر، حيث تمر مُعظم التجارة المُتّجهة إلى أو القادمة من أوروبا، بما في ذلك تجارة الطاقة. وحتى على هذه الجبهة، فإن الأوروبيين مُستعدّون للاستماع إلى الشركاء الإقليميين الذين يشاركونهم هذه المخاوف ويدعمون سياسات التهدئة في المنطقة.

 

الاستنتاجات 

إن المأساة الإنسانية المُستمرّة في غزة جعلت من المُلح والضروري حل القضية الإسرائيلية-الفلسطينية. ويُكرّر الاتحاد الأوروبي التأكيد على الحاجة إلى بذل جهود ملموسة وجماعية مع الشركاء الإقليميين والدوليين لوقف دورة العنف الحالية في غزة، وتعزيز خفض التصعيد وضمان الإفراج غير المشروط عن الرهائن، فضلاً عن زيادة المُساعدات الإنسانية لغزة. إن تقديم المُساعدة الإنسانية الفوريّة والمُستمرّة للسكان المدنييّن في القطاع يُعدّ ضرورة قصوى. ومع ذلك، من المُهم بنفس القدر تهيئة أفق سياسي واضح للمنطقة، وتعزيز الحوار بين الأطراف المعنية، فضلاً عن دعم الجهود الرامية إلى معُالجة الأسباب الجذرية للصراع. وفي هذا الصدد، أكّدت المؤسّسات الأوروبية عزمها على تقديم الدعم للدبلوماسية العربية والعمل مع تلك الدول في المنطقة، بما في ذلك دول الخليج العربي، التي لها مصلحة واهتمام في حل القضية الفلسطينية. لقد تأخّر الأوروبيون تماماً في خلق مساحة لشركائهم العرب للاضطلاع بالدور القيادي في صياغة وضمان حل شامل ودائم لهذا النزاع.

 

في ظل غياب أفق سياسي لحل الدولتين، يشعر الاتحاد الأوروبي بقلق بالغ إزاء التهديد الذي يلُوح في الأفق باندلاع نزاع إقليمي وآثاره بعيدة المدى على الأمن والاستقرار في منطقة البحر الأبيض المتوسط الأوسع – بما في ذلك خطر الإرهاب وتحدّي الهجرة غير النظامية. وبالمثل، فإن منع أي تصعيد يؤدّي إلى حرب إقليمية يُصنّف كأولوية رئيسة لدول الخليج العربي. فدول الخليج تُدرك أن مصالحها الجيو-اقتصادية وكذلك خطط النمو الاقتصادي يُمكن أن تتضرّر بشدة في حال تحقّق السيناريو الأسوأ والمُتمثّل في اندلاع صراع إقليمي أوسع. وتنبع المخاوف الكبيرة من التهديد المُباشر للتجارة الدوليّة والأمن البحري في مضيق هرمز وباب المندب في البحر الأحمر، إلى جانب خطر حقيقي من عودة ظهور الميليشيات المدعومة من إيران، وعمليات الجماعات المُتطرّفة بشكل رئيس في العراق وسوريا؛ لذلك، فإن الحد من زعزعة استقرار البيئة الإقليمية يتطلّب من الشركاء الأوروبيين والعرب، وبخاصةٍ دول الخليج، أن يكونوا أكثر نشاطاً، وأن يبحثوا أيضاً عن طرق للتواصل مع إيران وحلفائها للدعوة إلى وقف التصعيد.

 

وبالتالي تُصبح المحافل مُتعدّدة الأطراف والمُنظّمات الدولية مثل الأمم المتحدة ساحات مُهمّة تسمح لبروكسل والعواصم العربية بتعزيز التعاون وإيجاد نهج موحّد. وتلعب دولة الإمارات دوراً مُهمّاً في هذا الصدد، مُستفيدةً من دورها الحالي باعتبارها الدولة العربية التي تشغل مقعداً غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فبعد استناد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة – للفت انتباه مجلس الأمن إلى الكارثة الإنسانية التي تلُوح في الأفق في غزة – قدّمت دولة الإمارات مشروع قرار جديد إلى المجلس يدعو إلى اعتماد قرار عاجل لوقف إطلاق النار في غزة لـ”دواع إنسانية. وهو ما لم يتمكن مجلس الأمن الدولي من اعتماده، بسبب استخدام الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض (الفيتو) بشأن المشروع الذي أيده 13 عضوا- من أعضاء المجلس الخمسة عشر- مع امتناع المملكة المتحدة عن التصويت.

 

وعلى كل حال، من الضروري أن يدعم الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن التابعون للاتحاد الأوروبي بشكل مُشترك اقتراحات دولة الإمارات وغوتيريش لمنع الانهيار الكامل للوضع الانساني في غزة. وينبغي على الاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي التركيز على التوصّل إلى وقف فوري لإطلاق النار، والاستجابة المُشتركة للاحتياجات الإنسانية المُتزايدة للشعب الفلسطيني المُحاصر في القطاع. إن فرص الاستقرار على المدى الطويل لن تتحقّق أبداً دون مواجهة مُسبقة للواقع على الأرض. ويجب على الاتحاد الأوروبي وشركائه في الخليج العربي العمل معاً من أجل إعادة الإعمار بعد الحرب في غزة، والأهم من ذلك، إعادة إضفاء الشرعية على السلطة الفلسطينية، ومنحها الدعم المالي والسياسي للمضي قُدماً في الإصلاحات المطلوبة وتحويل هيكلها الحكومي إلى بديل عملي للنظام السياسي الفلسطيني بعد الحرب.

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/tbai-n-yaks-alirth-altarikhi-muqarabah-alathad-alaoarobi-lamstuqbl-ghzah-ma-bad-alharab

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M