تحديات وفرص: التقارب التركي مع النظام السوري

د.وليد ربيع

 

في مؤتمر صحفي له، صرح لافروف بأن التحضير لاجتماع وزيري الخارجية السوري والتركي يجري التحضير له بوساطة روسية، وأن تركيا تؤيد تطبيع العلاقات مع النظام السوري، مشيرًا إلى أن أنقرة طلبت مساعدة موسكو في ذلك، إلا أن النظام السوري يبدو “غير مستعجل” في الحوار مع تركيا، وأن قبوله الانخراط باللقاءات الثلاثية هو بفعل الضغوطات الروسية، ولكن في مقابل التجاوب الجزئي لهذه الضغوطات لتطوير مسار الحوار مع تركيا، يريد النظام السوري أن تكون نتيجةُ أي مصالحة انسحابًا تركيًا من الأراضي السورية.

اندلاع الخلاف التركي السوري

جاءت الأزمة في سوري لتعيد حسابات تركيا التي وُضِعت أمام حسابات مختلفة، نظرًا لأهمية سوريا بالنسبة لها بسبب الجوار الجغرافي المباشر لها بحدود تمتد إلى ما يقرب من 900 كم وتشكل البوابة والمنفذ الوحيد لتركيا إلى العالم العربي، وكذلك تشابه البنية المذهبية والاجتماعية والإثنية بين البلدين، إضافة لتخوف تركيا من سعي أكراد سوريا إلى الاستقلال وتأسيس إقليم حكم ذاتي على غرار إقليم كردستان العراق، وتخوفها من أن تنعكس تداعيات هذه الأزمة سلبًا على الوضع الداخلي، وكذلك تخوفها من تدفق أعداد هائلة من اللاجئين السوريين إلى الأراضي التركية.

لقد أنهت الأزمة السورية حالة التحالف التركي-السوري على إثر موقف تركيا المؤيد للاحتجاجات الشعبية، وارتبط بهذا الواقع سياسات متبادلة عبرت عن عمق الخلاف بين الجانبين، كانت أكثر حضورًا على الحدود، سواء على مستوى هجرة اللاجئين السوريين لتركيا وما يرتبط بذلك من تداعيات أمنية واقتصادية خطيرة، أو على مستوى احتضان تركيا قوى المعارضة السياسية وعناصر وقادة الجيش السوري المنشقين عن النظام. كما قامت سوريا من جهتها بالانسحاب من المدن الكردية السورية على الحدود، وترك أمر حماية تلك المناطق لعناصر من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري الذي يعد حليف حزب العمال الكردستاني التركي المعارض، مما يعني أن دمشق تضغط على أنقرة عبر استخدام الورقة الكردية التي تمثل هاجسًا أمنيًا مؤثرًا.

لذا، باتت تركيا تتخوف من أي فراغ متوقع في السلطة السورية، وترغب في وجود حكومة يتم تشكيلها من المعارضة السياسية التي تحتضنها كأحد الحلول لمواجهة العديد من السيناريوهات التي تراها تركيا مقلقة لأمنها واستقرارها، ومنها اتجاه أكراد سوريا إلى تبني خيار الفيدرالية أو الانفصال التام عن سوريا، أو على أقل تقدير خشية تركيا من أن يعاود حزب العمال الكردستاني ضرباته للداخل التركي، الأمر الذي سينال من استقرارها في المرحلة الحالية.

بسبب الأزمة السورية أخذت تظهر تحالفات جديدة تتألف من معسكرين، الأول: هو معسكر التغيير ويدعمه إقليميًا كل من تركيا ودول الخليج والأردن، ومن ورائهم جميعًا يقف الغرب بجناحيه الأوروبي والأمريكي، والمعسكر الثاني حليف النظام السوري، يدعمه إقليميًا إيران والعراق وحزب الله اللبناني، ويقف وراء هذا المحور دوليًا روسيا والصين.

حشدت تركيا فصائل سورية معارضة للقتال إلى جانبها في عملياتها العسكرية في شمال شرقي سوريا، أطلقت عليهم تسمية “الجيش الوطني السوري”.

بوادر التقارب التركي السوري

لم تخلُ الفترة الماضية من ظهور مؤشرات نحو حدوث تغير ملحوظ في المواقف التركية من دمشق، بعد نحو عقد كامل من القطيعة والتأزم الحاد في العلاقات التركية السورية بعد اندلاع الحرب الداخلية في سوريا في عام 2011. التحول المعلن في مواقف أنقرة حيال دمشق جاء في 11 أغسطس 2022 على لسان وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، حيث قال: “علينا أن نصالح المعارضة والنظام في سوريا بطريقة ما وإلا فلن يكون هناك سلام دائم، يجب أن تكون هناك إدارة قوية لمنع انقسام سوريا”.

وفي السياق ذاته، نفى كبير مستشاري الرئيس التركي النور شفيق، وجود تقارب بين بلاده وسوريا، ولكنه أقر بوجود وقائع جديدة يجب أخذها في الاعتبار والتعايش معها، إلا أن هذا الرأي قد لا يعكس بالضرورة الموقف التركي الرسمي المستجد من سوريا.

بعدها بنحو أسبوع في 19 أغسطس قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إنه “لا يمكنه استبعاد الحوار والدبلوماسية مع سوريا في المطلق”، وليضيف ردًا على سؤال عن إمكانية إجراء محادثات مع دمشق، إن “الدبلوماسية بين الدول لا يمكن قطعها بالكامل”، وأضاف أن بلاده لا تهدف لهزيمة الرئيس السوري بشار الأسد، إذ قال: “يتعين الإقدام على خطوات متقدمة مع سوريا من أجل إفساد مخططات ضد المنطقة”، مضيفًا أن بلاده “ليست لديها أطماع في سوريا، وهي تولي الأهمية لوحدة أراضيها، وعلى النظام إدراك ذلك”.

وفي منتصف شهر سبتمبر 2022، كشفت وكالة “رويترز” استنادًا لأربعة مصادر في دمشق وأنقرة أن رئيس جهاز المخابرات التركية هاكان فيدان، ورئيس جهاز الأمن الوطني السوري علي مملوك، التقيا في العاصمة السورية دمشق في أواخر شهر أغسطس الماضي، والتي هي حسب تلك المصادر تمهيد لعقد اجتماعات على مستوى وزيري خارجية البلدين في مرحلة لاحقة.

كما كان يلوح في الأفق طرح ملف تطبيع العلاقات التركية السورية كجزء من السعي العربي العام لإيجاد حل للأزمة السورية بعد أكثر من عقد على اندلاعها، وهو مسعى كان من المقرر أن يكون محورًا رئيسيًا على أجندة مباحثات القمة العربية التي انعقدت في الجزائر أواخر العام الماضي 2022 وجاءت مخيبة للأمل، حيث لم يسفر هذا المسعى عن شيء.

وفي أول تعليق له على التقارب بين بلاده وتركيا، قال الرئيس السوري إن اللقاءات مع الجارة اللدود يجب أن تؤدي إلى “إنهاء الاحتلال”. فيما تحدث وزير الخارجية التركي عن لقاء مطلع فبراير مع نظيره السوري.

إيران في المعادلة التركية السورية

أفرزت الاحتجاجات الشعبية في سوريا حالةً من التنافر بين تركيا وإيران، الدولتين الإقليميتين المختلفتين مذهبيًا، لكل منهما تصوره الاستراتيجي لمجاله الحيوي أو منطقة نفوذه التي تتعدى حدود الدولة، لكن لا يمكن أن يسمى هذا التعارض استقطابًا مذهبيًا، فلم يكن دافع تركيا في دعم الاحتجاجات الشعبية في سوريا مذهبيًا، لكن الاستقطاب ذا الطابع المذهبي كان بين إيران والسعودية التي اتخذت موقفًا داعمًا للاحتجاجات الشعبية، وكان موقفها هذا مدفوعًا أساسًا بمنطق وقف تمدد إيران في منطقة الخليج والمشرق العربي.

تفاوتت التفسيرات والتحليلات بخصوص موقف إيران من التقارب بين تركيا والنظام السوري، وعدم رضاها عن هذا المسار بسبب عدم مشاركتها في رعايته.

في البداية، طرح الكثير من وسائل الإعلام فكرة عرقلة إيران لهذه المصالحة، إلا أن بعضها رأى أن إيران طرف فاعل في الحوار بين البلدين، وأنها لن تقف يومًا ضد هذا التحرك لإنهاء جزء من أزمات النظام السوري الذي ترعاه.

وعلى مسار التقارب المرتقب، اتخذت إيران خطوات استباقية للمصالحة التركية السورية المحتملة بتقارب أكبر مع دمشق، حيث حمل الرئيس السوري بشار الأسد وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان دعوة إلى نظيره إبراهيم رئيسي من أجل زيارة دمشق، ويعتقد أن طهران تسعى لتقريب وجهات النظر بين النظامين السوري والتركي، مع حرصها على عدم الإضرار بمصالحها.

هناك مصالح مشتركة لدى إيران وتركيا مع وجود مصالح متضاربة مثل تبني إيران سياسة دعم المقاومة ضد إسرائيل، وتلتقي إيران وتركيا في عدة ملفات، من بينها الملف السوري، وحل الأزمة السورية والتخلص من الأعباء التي يتكبدها كل الأطراف، على الرغم من أن كلًا منهما كانت تقف على طرف نقيض من الأزمة السورية، وقد انخرطتا في مسار أستانة التفاوضي بين دمشق والمعارضة السورية، بصفتهما دولتين ضامنتين للاتفاقيات التي تم التوصل إليها، ومنها اتفاق خفض التصعيد، لكنهما تلتقيان أكثر في الملف الكردي، حيث تقصف كل منهما جماعات كردية مسلحة في شمال العراق، فتركيا التي تحتفظ بوجود عسكري في العراق تشن هجمات مستمرة على معاقل حزب العمال الكردستاني، بينما تستهدف طهران منظمات إيرانية كردية مسلحة.

ووفق موقع “ميديل إيست” فإن طهران تتوجس من أنّ المصالحة التركية السورية قد تنتزع في المستقبل من حصتها التجارية، ومن عقود إعادة الإعمار والاستثمارات في قطاع الطاقة، وتحاول العمل قبل إعادة تطبيع تركيا علاقاتها مع دمشق على تأمين نفوذها ومصالحها، رغم أنها باركت خطوات التقارب بين البلدين.

وسبق للمتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني أن تحدث عن زيارة رئيسي لدمشق، وأكد في لقاء صحفي أنّه “يجري التخطيط لزيارة الرئيس الإيراني إلى سوريا وتركيا بعد تلقيه دعوة من كلا البلدين”.

ويعتقد مراقبون أنّ زيارة رئيسي المحتملة إلى دمشق قد تكون بسبب القلق الإيراني من مسار العلاقات السياسية بين تركيا والنظام السوري، خاصة في ظل وجود ضغوطات روسية تمارس على دمشق لا تناسب المصالح الإيرانية.

ولا يستبعد البعض أن يكون الدافع لزيارة رئيسي الهواجس الكبيرة الإيرانية من التحركات الإقليمية والدولية التي قد تحد من النفوذ الإيراني جنوب سوريا، خاصة بعدما وقّعت الإدارة الأمريكية مؤخرًا على مشروع محاربة النظام السوري كمصدر للمخدرات.

هذا، وتجري إيران وتركيا ترتيبات لوضع جديد سيتشكل على وقع التقارب التركي السوري، واحتمال توصل الطرفين إلى تسوية تنهي أعوامًا من العداء والقطيعة، بينما تسعى كل منهما لتأمين مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية في الساحة السورية، في حال توصلت أنقرة ودمشق إلى مصالحة برعاية روسية.

إسرائيل في المعادلة التركية السورية

انعكست حسابات العلاقة الروسية الإسرائيلية سلبًا على سوريا، الأمر الذي أتاح الفرص أمام الجيش الإسرائيلي لضرب مواقع الجيش السوري وحلفائه، شرط التنسيق المسبّق بدقائق مع موسكو لتخفيف عدد ضحايا الاعتداءات، في مقابل امتناع الجيش السوري وحلفائه عن الرد بالمثل على هذه الهجمات، الأمر الذي أفقد سوريا قدرة الرد على الانتهاكات الاسرائيلية.

قد تكون منطلقات السياسة الروسية متباينة عن متطلبات الردع السوري واحتياجاته، فهي تستند إلى تصور شامل لكل منطقة غربي آسيا، وتتعاطى مع الأزمة السورية كجزء من نطاق أكبر، يمتد من آسيا الوسطى، مرورًا بإيران وتركيا، وصولًا إلى دول الخليج والبحر الأحمر، ومنها إلى شمالي أفريقيا، وهذا يفترض أن يكون المشهد الميداني في سوريا مرتبطًا بالحالة الكلية العالمية.

وعلى الرغم من كل نتائج الحضور الإسرائيلي السلبي على السياسات الروسية العامة، وخصوصًا بعد وضوح التدخل الإسرائيلي غير المباشر في الحرب الأوكرانية، فإن من المبكر جدًا التنبؤ بتغيير السياسات الروسية نحو “إسرائيل”، بما يتعلق بسوريا بصورة خاصة، حتى بعد العودة إلى الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة، فما زالت العوامل التي حكمت الموقف الروسي تجاه “إسرائيل” باقية، ولا يمكن لموسكو أن تغير محاولاتها الجمع بين المتناقضات، ما دام التيار الليبرالي الاقتصادي اليهودي الموالي لـ”إسرائيل”، هو صاحب الدور الأساسي اقتصاديًا في روسيا، في ظل الحرب الأوكرانية وما ترتب عليها من عقوبات اقتصادية، الأمر الذي يدفع إلى تأجيل النظر في العلاقة الإسرائيلية السورية لحين انتهاء الحرب في أوكرانيا، التي ستستمر تداعياتها أعوامًا حتى لو حُسمت لمصلحة موسكو خلال فترة قصيرة.

ختامًا، ستظل إيران حاضرة في القرار السوري بشأن التقارب مع تركيا حتى وإن بدت منشغلة بقمع الاحتجاجات الداخلية في الوقت الراهن. إيران تعزز موقف دمشق وتقف أمام أي تحرك تركي عسكري داخل الأراضي السورية. والتباحث الإيراني التركي يضع إيران ضمن أطراف المعادلة بعد فشل تركيا في إسقاط النظام السوري المدعوم من روسيا وإيران طوال سنوات الصراع.

لا تزال قرارات التقارب السورية في يد النظام السوري رغم محاولات ما يظهره البعض من أنه لا قرار لسوريا في الوجود الروسي الإيراني، وهذا ما دفع أنقرة لشق مسار مباشر للتقارب مع الرئيس السوري.

إن هناك استعجالًا تركيا نحو المصالحة، بسبب الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية التي ستعقد في منتصف هذا العام، فضلًا عن وجود رفض أمريكي وأوروبي لهذا التقارب، باعتبار أن هذه الأمور تجعل الضغط على تركيا، عكس سوريا، وإن كانت سوريا بحاجة للمصالحة مع تركيا”، وهذا ما يجعل إيران قادرة على فرض شروطها في سوريا.

قد تتغير سياسة موسكو تجاه إسرائيل، مع العودة إلى الاتفاق النووي، ورفع العقوبات عن إيران، على نحو يجعلها في وضع أفضل لتكون قادرة على ردع إسرائيل.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/32888/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M