تحدٍ حاسم: أوروبا وأكبر أزمة طاقة منذ عقود

تحققت مخاوف القارة العجوز من استخدام روسيا ملف الغاز كورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي وكرد على العقوبات المفروضة عليها من الجانب الغربي، حيث أعلنت روسيا عن وقف إمدادات الغاز الطبيعي عبر خط “نورد ستريم 1” لأجل لم تحدده بعد تحت ذريعة مواصلة الإصلاحات والصيانة في الخط، وهي المرة الثانية التي تغلق فيها روسيا خط أنابيب “نورد ستريم 1” هذا الصيف، إلا أن هذه المرة بعد أن أعلنت أن أعمال الصيانة ستستمر لمدة ثلاثة أيام قامت بالتصريح بوقف إمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا عبر الخط، وفي وقت لاحق أعلنت روسيا أن العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها هي سبب عرقلة قدرتها عن الانتهاء من أعمال الصيانة تلك، وهو الأمر الذي دفع الاتحاد الأوروبي لتخفيض الطلب على الغاز بشكل عام والبحث عن بدائل لسد احتياجاتها.

تدفقات الغاز الطبيعي لأوروبا

بشكل عام، تصل تدفقات الغاز الطبيعي لأوروبا عبر خطوط الأنابيب من روسيا والنرويج والمملكة المتحدة وشمال إفريقيا ومنطقة بحر قزوين، وفيما يتعلق بخطوط الأنابيب الروسية فإنها تصل إلى أوروبا عبر ألمانيا (نورد ستريم 1) وبولندا (يامال) وأوكرانيا وتركيا، أما الغاز النرويجي فيدخل لأوروبا عبر ألمانيا وهولندا وبلجيكا والمملكة المتحدة والدنمارك، وعند اكتمال أنبوب البلطيق في نهاية هذا العام (إلى بولندا)، ويدخل الغاز من شمال إفريقيا وأذربيجان عبر إسبانيا وإيطاليا وتركيا واليونان، كما تتلقى تركيا الغاز من إيران.

وبحسب صندوق النقد الدولي تمثل خطوط الأنابيب الروسية 42% ومحطات استيراد الغاز الطبيعي المسال بنسبة 28% أخرى من طاقة الاستيراد، وفي المقابل تمثل خطوط الأنابيب غير الروسية حاليًا 30% من إجمالي طاقة استيراد الغاز، هذا وقد بلغ استخدام سعة خطوط الأنابيب 81% من النرويج و50-60% من البلدان الأخرى غير الروسية في عام 2021، نظرًا لأن خطوط الأنابيب عادةً لا تعمل بسعة 100% للعام بأكمله بسبب إغلاق الصيانة.

أزمة الطاقة في أوروبا

قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية كانت أوروبا تتحدث عن معاناتها من فقر الطاقة، ففي عام 2020، لم يتمكن حوالي 36 مليون أوروبي (8% من السكان) من الحفاظ على تدفئة منازلهم بشكل كافٍ، ويرجع ذلك إلى الدخل المنخفض، والإنفاق المرتفع على الطاقة، وضعف كفاءة الطاقة في المباني، فضلًا عن تقلب أسعار أسواق الطاقة بحسب البرلمان الأوروبي. وعلاوة على ذلك، كان لدى حوالي 6% من سكان الاتحاد الأوروبي متأخرات على فواتير الخدمات، وحوالي 13% يعيشون في مساكن بها تسرب أو رطوبة أو تعفن في عام 2019 (آخر سنة متاحة للبيانات)، وفي عام 2018، أنفقت أفقر الأسر الأوروبية (أي فئة 10% من الدخل الأدنى) 8.3% من إنفاقها على الطاقة.

ومنذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية كانت أوروبا تشعر بتهديد دائم من قيام روسيا بوقف إمدادات الغاز الطبيعي كرد على العقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة وأوروبا، وبشكل خاص لاعتمادها على الغاز الروسي إذ تستورد أوروبا أكثر من ثلث صادرات روسيا من الغاز الطبيعي في ظل محدودية بدائل تعوض ذلك النقص في الغاز الروسي.

وانخفضت الصادرات الروسية إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 60% تقريبًا مقارنة بشهر يونيو 2021، واعتبارًا من أوائل يوليو، توقف الغاز الروسي أو انخفض بشكل كبير بدءًا من بولندا ثم هولندا وألمانيا والنمسا وإيطاليا، ودول أخرى، ومؤخرًا اعلنت روسيا بشكل صريح وقف إمدادات الغاز عبر “نورد ستريم 1” إلى أجل غير مسمى، كما قلصت التدفقات عبر خطوط الأنابيب الأخرى، وبالتالي أجبرت أزمة الطاقة المرتبطة بالحرب الروسية على أوكرانيا، إلى جانب أسعار الطاقة التي كانت ترتفع بالفعل منذ عدة أشهر، المستهلكين على دفع المزيد مقابل الوقود والتدفئة والكهرباء وفقًا لوكالة الطاقة الدولية.

وتُظهر أحدث الأرقام الاتجاه التصاعدي لفاتورة الطاقة، إذ ارتفع متوسط القيمة الشهرية للواردات من منتجات الطاقة من 22.3 مليار يورو شهريًا في عام 2017 إلى 25.8 مليار يورو شهريًا في عام 2021، هذا وقد سيطر النفط الخام إلى حد كبير على واردات الاتحاد الأوروبي من منتجات الطاقة في عام 2021 بحصة 62%، يليه الغاز الطبيعي في الحالة الغازية بنسبة 25%، ويمكن متابعة تطور قيمة واردات الطاقة من خلال الشكل التالي:

وفي عام 2021، ظلت روسيا أكبر مورد للغاز الطبيعي والبترول إلى الاتحاد الأوروبي، بحسب الإحصائيات الصادرة عن المفوضية الأوروبية.

أهم الموردين الرئيسيين للغاز الطبيعي لأوروبا

تأتي روسيا والنرويج والجزائر وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في مقدمة الدول الموردة للغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي، ويمكن التعرف على الموردين الرئيسيين للغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي من خلال الشكل التالي:

كما هو موضح في الشكل كانت روسيا أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي، في عامي 2020 و2021، وتأتي النرويج بعد روسيا من حيث صادراتها من الغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي، وبلغت الحصة العالمية لجميع الدول الأخرى المصدرة للغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي 24.7% في عام 2020 و27.5% في عام 2021 من حيث القيمة التجارية.

وتعمل النرويج على تخفيف التأثير المؤلم الناتج عن وقف روسيا لتدفقات غازها عبر “نورد ستريم 1″، ويمثل الغاز النرويجي الآن المصدر الرئيسي للغاز لأوروبا، حيث تعمل على زيادة الإنتاج لمساعدة الاتحاد الأوروبي في تحقيق هدفه المتمثل في إنهاء الاعتماد على الوقود الأحفوري الروسي بحلول عام 2027.

فبحسب تقرير صادر عن المفوضية الأوروبية بلغت حصة واردات الغاز لأوروبا عبر خطوط الأنابيب من النرويج 22% في الربع الأول من عام 2022، بانخفاض طفيف عن الربع السابق والربع الأول من عام 2021 (24%)، حيث كانت الزيادة في الواردات من النرويج أقل من الزيادة الإجمالية في واردات الغاز في الاتحاد الأوروبي، إلا أنه لا يمكن لواردات الغاز التنافسية من النرويج إلا بجزء صغير أن تحل محل التدفقات الروسية.

وأعلنت الولايات المتحدة عن استطاعتها توريد 15 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال إلى الاتحاد الأوروبي هذا العام، إلا أن مصانع الغاز الطبيعي المسال الأمريكية تنتج بكامل طاقتها، كما سيؤدي الانفجار في محطة تصدير الغاز الطبيعي المسال الرئيسية في تكساس إلى إبقائها معطلة حتى أواخر نوفمبر، وفي وقت سابق من هذا العام، وقعت إيطاليا اتفاقية مع الجزائر لتسعة مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي لتقليل اعتمادها على موسكو لواردات الطاقة.

الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي

انخفض الطلب الأوروبي على الغاز بما يقارب 5% في الربع الثالث من عام 2021 وسط ارتفاع الأسعار بعد النمو القوي في النصف الأول من عام 2021 (ارتفاعًا بنسبة 13% على أساس سنوي)، مما أدى إلى التحول من الغاز إلى الفحم في قطاع الطاقة، وعلى الرغم من ارتفاع أسعار الغاز القياسية، ظل الطلب الأوروبي على الغاز مرنًا في الربع الرابع، حيث تشير البيانات الأولية إلى أن استهلاك الغاز ظل ثابتًا مقارنة بالعام 2020، وعلى مدار عام 2021 بأكمله، زاد استهلاك الغاز الأوروبي بنحو 5.5% (أو 30 مليار متر مكعب).

هذا وارتفع الطلب على الغاز لإنتاج الطاقة بما يقارب 5% على أساس سنوي في الربع الرابع من عام 2021، وإن كان يظهر اختلافات إقليمية معينة في مقدار الطلب على الغاز الطبيعي، ففي شمال غرب أوروبا، دعمت أسعار الغاز القياسية المرتفعة التحول من الغاز إلى الفحم، وزادت محطات الطاقة التي تعمل بالفحم إنتاجها بنسبة 20% على أساس سنوي، وفي المقابل، أدى الانخفاض الحاد في توليد الطاقة المائية في أسواق جنوب أوروبا (انخفض بنسبة 30% على أساس سنوي) إلى زيادة حرق الغاز في قطاع الطاقة، مما عوض جزئيًا عن الانخفاض في شمال غرب أوروبا.

وارتفع توليد الطاقة التي تعمل بالغاز بأكثر من 25% على أساس سنوي في إسبانيا وإيطاليا (حيث تم استنفاد معظم إمكانات التحويل من الغاز إلى الفحم). واستمر ارتفاعه في تركيا أيضًا (ارتفاعًا بنسبة 12% على أساس سنوي)، مع احتفاظ الغاز الطبيعي بقدرته التنافسية السعرية مقابل الفحم الصلب المستورد.

وانخفض الطلب على الغاز الطبيعي في الصناعة بنحو 5% على أساس سنوي في الربع الرابع من عام 2021، وأدى الارتفاع القياسي في أسعار الغاز إلى تقليص الإنتاج في العديد من المصانع الكبرى، وكانت الصناعات كثيفة الاستخدام للغاز، بما في ذلك إنتاج الأمونيا والأسمدة، هي الأكثر تضررًا، وانخفض الطلب على الغاز في القطاع الصناعي بأكثر من 10% على أساس سنوي في بلجيكا، و10% في فرنسا و1% في إسبانيا خلال الربع الرابع، بحسب التقرير الصادر عن الوكالة الدولية للطاقة.

ومن المتوقع أن ينخفض الطلب على الغاز في أوروبا بنسبة تزيد عن 4% في عام 2022، وسيعزى ذلك جزئيًا إلى انخفاض استخدام الغاز الطبيعي في توليد الطاقة والذي انخفض بنسبة 6% مقارنة بعام 2021، كما ورد في أحدث تقرير لوكالة الطاقة الدولية عن سوق الكهرباء فإنه من المتوقع أن يتراجع استخدام الغاز الطبيعي في توليد الطاقة في ظل التوسع القوي في مصادر الطاقة المتجددة، بينما تستمر أسعار الغاز المرتفعة في التأثير على قدرتها التنافسية في مواجهة توليد الطاقة بالفحم.

وساعد تراجع الطلب على الغاز الطبيعي بسبب ارتفاع الأسعار واستيراد الغاز الطبيعي المسال في تمكين أوروبا من ملء 83% من مخزونها لفصل الشتاء، واستمرت مستويات التخزين في الارتفاع حتى بعد قطع نورد ستريم 1، مما زاد الآمال في أن تتمكن أوروبا على المدى القصير من الصمود في وجه العاصفة.

وأخيرًا، نلاحظ أن أوروبا دخلت في أكبر أزمة طاقة لها منذ عقود، وحتى قبل الحرب الروسية الأوكرانية كانت إمدادات الغاز الطبيعي من روسيا متقلبة وغير متوقعة، والآن توقفت هذه الإمدادات بشكل كامل، وتسعى روسيا للضغط على أوروبا لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الغرب، وسيؤدي الوقف المفاجئ في إمدادات الغاز من روسيا إلى توجه أوروبا لتقنين الغاز في أوائل عام 2023، مع تقليل استهلاك الغاز الإجمالي للمنازل والشركات بشكل خاص، مما يؤدي إلى دخول منطقة اليورو في ركود، ومع ذلك قد يساعد تعاون دول الاتحاد الأوروبي إلى حد كبير في زيادة الإنتاج المحلي من الغاز الطبيعي، والتحول من استخدام الغاز لاستخدام النفط في توليد الطاقة والتوسع في الطاقة المتجددة والطاقة النووية وفي استخدام الفحم، في التخفيف من الآثار السلبية بشكل عام الناتجة عن وقف الغاز الروسي.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/21115/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M