تحليل تكتيكي للمشهد العسكري في غزة

تمر العمليات العسكرية في قطاع غزة بشهرها الثاني على التوالي من الاشتباكات العنيفة التي تدرجت من المستوطنات الإسرائيلية في غلاف القطاع، إلى أن انتقلت إلى داخل القطاع في الوقت الحالي. المعارك من بدايتها إلى الآن يغلب عليها الطابع غير النظامي كشكل عام تدرج من “العمليات الانغماسية” في بدايتها إلى “حروب الشوارع” بمفهومها الحديث.

خطط الجيش الإسرائيلي الدفاعية لم تُجْدِ نفعًا في منع مقاتلي حركة حماس من اختراق السياج العازل في بداية المعركة على الرغم من كل الدروس المستفادة السابقة لوحدات الجيش الإسرائيلي في المعارك السابقة، وحتى التدريبات على حروب المدن من قبل الوحدات البرية الإسرائيلية لم تساعد على تقليل من الخسائر بالرغم من تطوير القدرات التكنولوجية لها.

اعتمدت “كتائب القسام” (الجناح العسكري لحركة حماس) على استراتيجية محددة غرضها تشتيت وسائل الرصد الإسرائيلية المختلفة، وكسر دائرة اتخاذ القرار، ومن ثم تشتيت الوحدات الإسرائيلية ميدانيًا وعزلها. لتنفيذ هذه الاستراتيجية فقد تم تنفيذ هجوم ابتدائي متعدد الجهات وبمختلف الوسائل البحرية والجوية والبرية، ومن ثم تنفيذ هجمات لإحباط الدعم الإسرائيلي القادم من خلف الخطوط الأمامية.

* الغارة البحرية بواسطة الزوارق السريعة على قاعدة “زييكم” البحرية شمالي القطاع.

* التشويش الإلكتروني على رادارات واتصالات وإشارات الأقمار الصناعية الإسرائيلية.

* الهجوم الصاروخي بواسطة 3 أنواع من الصواريخ “أرض/ أرض – بعيدة المدى” مختلفين في زاوية الإطلاق والمدى لمحاولة مغالطة وإرباك منظومة “القبة الحديدية”.

* الاختراق الجوي بواسطة وحدات الطيران الشراعي المزود بموتور، وتطير عادة ما بين 3 أمتار إلى 5 كم وبسرعة ما بين “24-50” كم/ ساعة، وبالتزام الطيران على ارتفاع منخفض وبسرعة أقل من 100 كم/ ساعة يصبح من الصعب اكتشافه بواسطة الرادارات، ومع بصمة حرارية قليلة من الصعب اكتشافه. وهدفهم هو عزل القوات الموجودة على خط المواجهة من خلال مهاجمتها من الخلف مع مهاجمة تمركزت القيادة والسيطرة.

* الهجوم الأساسي تمّ من خلال أفراد في حجم فرقة عسكرية كاملة مقسمة إلى مجموعات صغيرة سريعة الحركة، ولديها قدرة على المناورة بواسطة الدراجات النارية وعربات النقل الصغيرة و”اللودرات”. ووفقًا لـ”إيتان شامير” مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة “بار إلان” الإسرائيلية في حديثه بتاريخ الرابع من نوفمبر 2023 مع موقع The New Statement بأن السياج العازل مصمم لصد هجمات متعددة الاتجاهات بحد أقصى خمسين فردًا، فذلك كان أقصى تقدير للمخططين، ولكن الهجوم تم بواسطة 1500 في وقت واحد، ولم تكن المناطيد الاستطلاعية موجودة ذلك اليوم بسبب دواعي صيانة كاميراتها والذي كان من المفترض الانتهاء منه بعد العيد، ولم يتواجد على الأقل نصف أو ثلثا الجنود بسبب الإجازات وحتى القوات الجوية لم يكن هناك سواء طائريتين هليكوبتر فقط من طراز “أباتشي” جاهزتين للعمليات.

كان لصدمة هجوم حماس الابتدائي تأثير سلبي على الجنود الإسرائيليين الموجودين في مواقعهم الدفاعية على خط المواجهة، فلم يتمسكوا بمواقعهم وانسحبوا بشكل عشوائي، وهو مثال حي للعقيدة العسكرية الإسرائيلية التي تفرض حتمية المعركة في ظل وجود تفوق تقني واستخباراتي وجوي ولكن حتى مع وجود كل هذه العوامل فلا بديل عن التمسك الفعلي بالأرض من قبل الجنود.

بالنسبة للجيش الإسرائيلي فلم يملك سوى الانخراط في معركة تلاحمية دون أي تمهيد استخباراتي أو معلوماتي عن مسرح العمليات لعدم القدرة على قصف مستوطناته بواسطة الطيران الحربي، لذا فقد تمثلت الخطة الدفاعية في 5 خطوات تكتيكية:

 الخطوة الأولى هي الدفع السريع للهليكوبتر الهجومي الذي كان هدفه يتمثل في إحباط تدفق العناصر الانغماسية وبالأخص على سيارات النقل، ولكن فوجئ بانطلاق الصواريخ المضادة للطائرات الكتفية من الأرض ليحاول الابتعاد واستخدام أسلوب القنص الانتقائي بواسطة الصواريخ الموجهة من مديات آمنة، ومحاولة تأمين مناطق إنزال للقوات الخاصة.

الخطوة الثانية تمثلت في الإنزال الجوي السريع لوحدات القوات الخاصة مثل “شالداج” و”يمام” بواسطة طائرات الهليكوبتر النقل الثقيل التي تمت مهاجمتها بسبب سوء التأمين من قبل الطيران الهليكوبتر الهجومي والقوات التي تم إنزالها وكان يتم محاصرتها بسبب عددها القليل.

الخطوة الثالثة تمثلت في اشتراك القوات المتخصصة في حروب الإرهاب، والتي كانت تأتي بواسطة السيارات، وكانت أيضًا تتعرض سياراتها لكمائن محكمة من قبل المدافعين.

الخطوة الرابعة تمثلت في خروج طائرات الاستطلاع دون طيار وطائرات الاستطلاع الإلكتروني لاكتشاف مواقع غرف عمليات حركة حماس وقادتها الميدانيين وتجمعات المقاتلين ومخازن الصواريخ في قطاع غزة، ومن ثم خروج المقاتلات لقصفها لمحاولة عرقلة العملية الهجومية.

الخطوة الخامسة تمثلت في وصول وحدات الجيش، وبالأخص ألوية المشاة بواسطة المدرعات المدولبة السريعة مثل لواء “نحال” ومن بعدها ألوية المدرعات والدبابات التي كان يتم مهاجمتها بواسطة المسيرات من حركة حماس بنوعيها “الانتحاري” و”الهجومي” المتحور من الأنواع المدنية الاعتيادية.

من خلال الخبرات السابقة لمعارك المدن فبلا شك العمليات العسكرية ضد قوات غير نظامية تتطلب طريقة ذكية ومرنة للتعامل معها مع معدات مخصصة لذلك الغرض تحديدًا، ولكن الأهم يتطلب تدريبات محددة للفرد المقاتل التي تؤهله نفسيًا وبدنيًا لمحاربة عدو خفيف العتاد، ويمتلك قدرة كبيرة على المناورة في مسرح العمليات، وتجهيز وحدات من القوات الخاصة المتخصصة في حروب المدن تكون عادة خفيفة التسليح مع وسائل النقل السريعة لتمهد الميدان للقوات الثقيلة من الجيش التي تتحرك من الخلف، ويفضل دائمًا المدرعات في هذه المعارك بجانب قوات المشاة جنبًا إلى جنب.

وبالنظر إلى النموذج الإسرائيلي فقد بدأت القوات الإسرائيلية عملية الاجتياح لقطاع غزة بتاريخ 27 أكتوبر، وقد تمت هذه العملية بعدما تم استكمال قوات الاحتياط وبهدف استراتيجي محدد معلن هو محاصرة وعصر حركة حماس للقضاء عليها وليتم التمهيد من خلال:

* مجهود استطلاعي مكثف من كافة الوسائل الإسرائيلية وحتى من الحلفاء، وبالأخص طائرات الاستطلاع الأمريكية والبريطانية المختلفة لتكوين فكرة كاملة عن الوضع الميداني.

* تنفيذ إغارات بالقوات البرية للتوغل والانسحاب قبل بدء الهجوم الرئيسي.

* التمهيد النيراني بواسطة المدفعية الأرضية والبحرية مع الاستمرار في عملية اكتشاف مواقع غرف العمليات لحركة حماس والقادة الميدانيين، واستهدافهم من خلال قصف مكثف قد يصل لمهاجمة 200-400 هدف في ليلة واحدة.

* التقدم على 3 محاور مختلفة الاتجاهات من الشمال وشرق ووسط قطاع غزة.

* التشويش الكامل على الاتصالات مع قطع خدمات الإنترنت.

* تحديد أماكن التمركزات الدفاعية المضادة للدبابات ومحاولة تدميرها لتمهيد وتأمين مسار للقوات البرية المرافقة.

تمثّلت القوة الأساسية لمهمة الاجتياح في ألوية المدرعات والمظلات بتغطية من الطيران الهجومي وتغطية خطوطهم الخلفية بواسطة ألوية المشاة من الخلف. وعادةً كل لواء مدرع إسرائيلي يتكون من 3 كتائب مدرعات، وفصيل إشارة، وكتيبة مهندسين، وكل كتيبة تحتوي على “سرية دعم”، ويشمل القيادة والخدمات بجانب “سريتي دبابات” و”سرية مدرعات دعم” وسرية “دبابات” احتياط.

وتمّ التوغل بواسطة نسختين محددتين من دبابات الميركافا وهما “ميركافا-4” المحدثة تحت اسم “روعاش” و”ميركافا-5″ تحت اسم “باراك” ويتم اعتبارها النسخ الأحدث المزودة بنظام “تروفي” للرصد بزاوية 360 درجة والقتل الصعب للتهديدات بجانب منظومة “أفق” المخصصة للاتصالات مع باقي المنظومات الجوية والبرية.

ولدى سلاح المدرعات عدد 2 تشكيل تكتيكي للمناورة القتالية:

الأول يدعم القوة النيرانية الموجهة بقوة سرية كاملة.

الثاني يدعم المناورة بشكل كبير بواسطة نصف سرية، وهو ما يتم استخدامه بالفعل داخل القطاع.

ويتمثل التكتيك المستخدم من قبل الطيران الهليكوبتر الهجومي من طراز “أباتشي” والتي تعمل بأسلوب القنص الانتقائي بواسطة صواريخ “هيل فاير” و”أسبايك” من مدى بعيد بالربط مع المسيرات الاستطلاعية من طراز “إيتان تي بي” و”سيرشر” من قاعدة “حتزور” التي تمرر الأهداف بشكل مستمر للخلف لطائرات الاستطلاع، ومن ثم يبدأ الاستهداف، وهو مشابه كثيرًا للأسلوب الأمريكي الذي يتم استخدامه في الطيران الملحق بالوحدات البرية.

أما التكتيكات القتالية لحركة حماس في معارك داخل القطاع فقد تبنّت أسلوب “حروب العصابات”، والاعتماد الكامل على الإنفاق للمناورة بسهولة في مسرح العمليات مع فتحات مموهة جيدًا للهجوم والانسحاب السريع لتحقيق بعد الأهداف الهامة:

1- مفاجأة القوات الإسرائيلية البرية من الخلف وإمكانية تطويقها وعزلها.

2- الاقتراب بقدر الإمكان من القوات الإسرائيلية لحرمانهم من الدعم النيراني من وسائل الدعم الجوي أو المدفعي.

3- الحصول على أفضل فرصة لإطلاق القذائف غير الموجهة مع نسبة إصابة عالية، حيث إن هذه الأسلحة لا يمكن اكتشافها بسهولة وفي المقابل لا تضمن إصابة كبيرة.

وقد استغلت حركة حماس فشل القوات الإسرائيلية المتوغلة في العمل بمنطق “مناورة الأسلحة المشتركة” التي تطلب تكاملًا ما بين قوات المشاة والمدرعات، وهو ما تجلى في فرص اقتراب مقاتلي حماس من الآليات والمركبات الإسرائيلية بسهولة دون أي عملية اعتراض من جنود المشاة الإسرائيليين، وليتمكن مقاتلو حماس من إطلاق قذائفهم أو حتى تثبيت شحنات متفجرة على بدن المركبات والانسحاب السريع لداخل الإنفاق بسهولة، أو أيضًا التمكن من إطلاق قذائف من عيار كبير مخصصة لاختراق الدروع مصنعة محليًا “ياسين -105”.

ليست فقط الأنفاق هي نقطة تفوق لصالح حركة حماس، ولكن أيضًا قدرة تمويهية وإخفاء المدفعية الصاروخية والهاون والمسيرات من خلال الشقوق والفتحات الأرضية لتقديم الدعم النيراني للعناصر القتالية المشتبكة مع القوات الإسرائيلية أو حتى إحباط الدعم الإسرائيلي القادم من الخلف بواسطة المدفعية الصاروخية التي تقدم كثافة نيرانية كبيرة، ومن الصعب اعتراض صواريخها بجانب أيضًا قذائف الهاون صغيرة الحجم، ويتم إطلاقها بشكل متتابع. كما تقدم أيضًا المسيرات الانتحارية ذات الحجم الصغير من طراز “شهاب” و”زواري” حلولًا تكتيكية لاستهداف المدرعات أو وحدات القيادة إذا ما تم اعتراض اتصالاتها وتحديد مواقعها بوساطة وسائل الحرب الإلكترونية، وفي الأخير استغلال مسيرات رباعية المراوح للتسلل غير مكتشفة خلف الخطوط الإسرائيلية لمهاجمة تجمعات الجنود بواسطة قنابل الإسقاط الحر.

ختامًا، أثبتتمعارك قطاع غزة أن الجيش الإسرائيلي يستخدم القوة الهجومية الغاشمة فقط دون مراعاة للخسائر من الجانبين لتحقيق نجاح ميداني يتساوى مع الإخفاق الكبير في العملية الدفاعية، مع الاستمرار في عملية استنزاف ذخائره وقواته البرية في اعتماد كبير على الدعم الأمريكي المقدم. أما بالنسبة لحركة حماس فيعتمد نجاحها في معارك القطاع على عملية استدامة الدعم للتسليح، وتعويض الخسائر المادية والبشرية بمرور الوقت، مع ضغط القوات الإسرائيلية شمالًا وجنوبًا، وتضييق الخناق، مع عدم انخراط المليشيات الداعمة من الدول المجاورة بالشكل القوي في العمليات العسكرية والتي من شأنها أن تخفف الضغط على حركة حماس.

المصدر :https://ecss.com.eg/38339/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M