تحول مرتقب: لماذا قد تشهد العلاقات الإيرانية التركية توترًا في المستقبل القريب؟

علي عاطف

 

على الرغم من تجاذبات العلاقات الإيرانية التركية منذ تأسيس النظام الجديد في طهران عام 1979، إلا أنها قد شهدت حالة من التقارب الملحوظ خلال السنوات الأخيرة. وكان لهذا التحول أسبابه التي كان من بينها طبيعة موقف حكومتي البلدين حيال سياسات الإدارة الأمريكية خلال عهد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، وحاجة الاقتصاد التركي إلى إيران، علاوة على الهدوء النسبي الذي شهدته سوريا بعد الإعلان عن هزيمة تنظيم “داعش” الإرهابي فيه عام 2019، والذي ساعد بوجه عام على خفض مستوى التوتر بين طهران وأنقرة بسبب تضارب موقف البلدين إزاء طريقة التعامل مع حكومة الرئيس بشّار الأسد في بداية الأزمة عام 2011 والسنوات القليلة التي تلتها.

لقد وصل مستوى التنسيق بين البلدين آنذاك إلى الحد الذي أعلن في ظله الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال عهد إدارة ترامب عن عدم التزام أنقرة بالعقوبات المفروضة على طهران. لكن، ومع التحولات الحادثة في المشهد الداخلي التركي، وبالتزامن مع تحولات أخرى في المشهد الإقليمي، يمكن القول إن العلاقات الإيرانية التركية قد تشهد في المستقبل القريب تصاعدًا في مستوى التوترات قد بدأت بالفعل بعض مؤشراته تظهر إلى العلن. وعليه، سوف نتطرق فيما يلي إلى أهم العوامل التي قد تقود علاقات طهران وأنقرة إلى حالة من التصعيد المتبادل خلال الأيام المقبلة.

تدهور الاقتصاد التركي وأثره على العلاقات مع إيران

لقد شجّع النمو الاقتصادي خلال بدايات العقد الماضي الرئيسَ التركي، رجب طيب أردوغان، على اتخاذ قراراتٍ وسياسات تصعيدية مع الدول المحيطة ببلاده أو القريبة منها في منطقة الشرق الأوسط. فنجده في تلك الآونة قد دخل في خلافات خطيرة عدة داخل الإقليم مع دول مثل سوريا وإيران والعراق، تزامنًا مع انخراطه في صراعات عسكرية موازية.

أما مع بدء العد التنازلي لدورة الاقتصاد التركي منذ عام 2018، شرع أردوغان رويدًا رويدًا في محاولة تغيير هيكل سياسات حزبه الخارجية، بداية من انحسار ملحوظ في مستوى التدخل العسكري الخارجي، وصولًا إلى إجراء تغييراتٍ جوهرية في العلاقات مع بعض دول الإقليم. ففي العام المُشار إليه، فقدت العملة التركية (الليرة) 40% من قيمتها أمام الدولار الأمريكي، ليستمر الأمر على هذا المنوال، إلى أن تفقد 55% من قيمتها مرة أخرى مع نهاية عام 2021. وحتى مطلع شهر يونيو 2022، وصلت خسائر الليرة التركية إلى 22% مع الاستمرار في خفض أسعار الفائدة.

ولقد صاحب هذا الانهيارَ في العملة التركية ارتفاعٌ في معدل التضخم العام وصل في شهر مايو 2022 إلى أعلى مستوٍ له في 24 عامًا حين بلغ 73.5% بعد أن كان 69.97% فقط في شهر أبريل من العام نفسه، ليعيد بذلك ذكرى تسعينيات القرن الماضي وعام 2001 داخل تركيا.

وعلى أي حال، فقد قادت هذه التطورات الجديدة الخاصة بالاقتصاد إلى إجراء أردوغان تغييراتٍ أخرى رئيسة في سياسة بلاده الخارجية مؤخرًا، تتمحور حول التباعد مع إيران والتقارب مع دول أخرى في المنطقة ليست جميعها على وفاق مع إيران. ولا تستطيع تركيا بالأساس موازنة علاقاتها مع كلا هذين الطرفين.

ويُعد هذا التغيير بالأساس مسعىً تركيًا للخروج من الوضع الاقتصادي السيء في الوقت الحال؛ إذ لا تستطيع أنقرة الآن اتباع نفس تلك السياسات الاقتصادية التي كانت تعلن من خلالها، على سبيل المثال، نيتها عدم التقيد بالعقوبات الخارجية ضد إيران، وكذلك لا يتحمل الاقتصاد التركي أيضًا المزيد من المشكلات الإضافية. ومن زاوية أخرى، لا تجعل المتغيرات الدولية والإقليمية الجارية في الوقت الراهن أيضًا إيران في حاجة إلى تركيا من أجل الالتفاف على العقوبات النفطية ضدها.

الاتفاق النووي ومستقبل العلاقات الإيرانية التركية في الإقليم

انطلاقًا مما سبق، نجد أن المحادثات النووية الجارية في العاصمة النمساوية فيينا منذ شهر أبريل 2021 بين إيران والقوى الكبرى تُعد مؤشرًا مهمًا آخر على احتمالية تصاعد التوتر بين إيران وتركيا مستقبلًا، وذلك لعاملين اثنين:

الأول-العامل الاقتصادي: 

فالتوصل إلى اتفاق نووي يعني حدوث انفراجة اقتصادية داخل إيران تتضمن تسهيل عمليات بيع النفط خارجيًا، أي أن طهران لن تكون في حاجة إلى تركيا من أجل تهريب النفط أو حتى الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الدولية؛ لأن الأخيرة ذاتها من المقرر، طبقًا للاتفاق النووي المستقبلي، أن يتم تخفيف بعضها أو حذف البعض الآخر.

ومن ناحية أخرى، فإن الأزمة الروسية الأوكرانية قد تلعب دور المُساهِم هنا؛ لأنها قد تؤدي خلال الأشهر المقبلة، خاصة في حالة التوصل إلى اتفاق نووي، إلى الموافقة، سواء بشكل رسمي أو حتى ضمني، على زيادة إنتاج النفط الإيراني وبيعه في السوق العالمية والأوروبية التي ينقصها الآن النفط القادم من روسيا بعد فرض عقوبات عليه. أي أن هذا يعني تحولًا في الأدوار؛ إذ ستسعى تركيا هنا إلى التقارب مع إيران وليس العكس.

الثاني-العامل العسكري: 

قد تلجأ إيران إلى توظيف الأموال التي قد تحصل عليها بعد دخول الاتفاق النووي الجديد المتوقع حيز التنفيذ في تعزيز دفاعات جيشها، وقبل ذلك في شراء المزيد من الأسلحة المتطورة لوضعها تحت تصرف الحرس الثوري. وليس هذا فقط، بل إن الترجيح يذهبُ إلى أن طهران سوف تزوّد وكلاءها في منطقة الشرق الأوسط على وجه التحديد بالأموال والأسلحة، ما يعني إجمالًا فصلًا جديدًا من فصول التموضع الإيراني في الإقليم.

وعلى الرغم من أن مستوى التحركات العسكرية التركية في الإقليم قد تراجع بعض الشيء مقارنة بما كان عليه قبل سنوات معدودة، إلا أن ذلك لا يعني توقف هذا الجانب من السياسة الخارجية التركية عن التحرك؛ إذ لا تزال أنقرة تحتفظ بحضور داخل الأراضي السورية، علاوة على قيامها من آن إلى آخر بضربات جوية ضد الأكراد في العراق.

وبناءً على ما تقدم، يتضح أن الخلافات التركية الإيرانية فيما يتعلق بالمعادلات الأمنية والعسكرية داخل الشرق الأوسط لن تستمر فقط، بل إنها قد تتفاقم، وتحديدًا فيما يخص الملف السوري خلال المرحلة المقبلة مع انسحاب القوات الروسية من بعض مواقعها وانشغال موسكو بحربها مع أوكرانيا.

لذا، لم يكن بالأمر الغريب تصريحُ وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، يوم 27 يونيو 2022 خلال زيارته إلى أنقرة ولقائه بنظيره مولود تشاووش أوغلو بأن بلاده “تتفهم ضرورة تنفيذ تركيا عملية عسكرية جديدة ضد المقاتلين الأكراد شمالي سوريا”، على حد تعبيره. فنجد أن ما يبدو مؤخرًا من تصاعد للنفوذ الإيراني في سوريا قد دفع عبد اللهيان إلى إطلاق هذه التصريحات، بل إن زيارة الوزير الإيراني تُعد ذاتها مؤشرًا على اضطراب العلاقات التركية الإيرانية مؤخرًا وليس العكس.

وعليه، يمكننا تفسير كلمة “تتفهم” التي ذكرها وزير الخارجية الإيراني بأنها تجيء في سياق اتفاق في وجهات النظر التركية الإيرنية حول سياساتهما تجاه الأكراد “تحديدًا” وليس اتفاق وجهات نظر شاملًا. إذ، لربما اختلف تصريح عبد اللهيان إذا ما كان من المقرر أن تستهدف العملية التركية منطقة أخرى في سوريا.

وبوجه عام، فمثلما كان الأمر عليه خلال العامين اللذين أعقبا دخول الاتفاق النووي لعام 2015 حيز التنفيذ في العام التالي 2016 من حيث تصاعد التوترات الإيرانية التركية في الإقليم، فإن منحنى العلاقات المنظور بينهما مرشح مرة أخرى لأن يشهد توتراتٍ جديدة، وإن كان من المتوقع أن تكون أقل كثافة مقارنة بما كانت عليه خلال النصف الأول من العقد الماضي.

نمو العلاقات التركية الإسرائيلية

خلال الأشهر الأخيرة، شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية نموًا ملحوظًا عبّرت عنه زيارة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوج، إلى أنقرة في شهر مارس الماضي. فقد أشارت تقارير عديدة إلى تزايد مستوى التعاون الأمني والعسكري بين الطرفين، بالإضافة إلى التبادل التجاري الذي قالت إحصاءات تركية رسمية إنه ارتفع ليصل إلى 4.7 مليار دولار عام 2020، ذلك العام الذي انتشرت فيه جائحة كورونا. وتخطط تركيا وإسرائيل إلى إعادة التمثيل الدبلوماسي بينهما إلى ما كان عليه قبل مايو 2018 إثر عملية طرد السفراء.

وإذا تأملنا المشهد جيدًا، سوف نجد أن فترة الازدهار الأخيرة في العلاقات الإيرانية التركية قد تزامنت مع تدهورها على الجانب الآخر مع إسرائيل خلال الفترة نفسها التي تلت التاريخ الأخير المذكور (مايو 2018). ويُحسب هذا على أنه مؤشر عام للعلاقات بين تركيا وإيران التي لا تتمتع علاقاتها مع إسرائيل بأي استقرار منذ عقود؛ أي أن مستوى تحسن العلاقات بين إيران وتركيا يسير بشكل عكسي مع نظيره بين إسرائيل وتركيا.

ولقد بدت هذه المعادلة واضحة للغاية خلال شهر يونيو 2022 حينما أعلنت الاستخبارات التركية بالتعاون مع نظيرتها الإسرائيلية عن إحباط مخطط لعملاء إيرانيين كانوا قد قرروا استهداف سياح إسرائيليين داخل الأراضي التركية، فيما وُصف بأنه دليل على حجم التبادل الأمني بين تركيا وإسرائيل، والذي عدّته بعض الأوساط الإيرانية على أنه “موجه ضد إيران”.

أزمة “قره باغ” والتصعيد المتجدد

أثبت تجدد الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا في عام 2020 حول إقليم “ناجورنو قره باغ” أن العلاقات الإيرانية التركية معرضة للتصعيد في أي وقت؛ في ظل اختلاف توجه الجانبين إزاء تلك الأزمة التي لم تنتهِ حتى الآن. حيث تدعم أنقرة باكو، بينما ترى إيران مصالحها في تقديم الدعم ليريفان.

ومع “استمرار” هذه الأزمة وتعرضها للانفجار المتجدد في أي وقت، فإن هذا الملف سوف يظل يشكل عقبة أمام طهران وأنقرة في سبيل إذابة الجليد بينهما، ما يعني إمكانية دخول العلاقات الإيرانية التركية حالة من التصعيد لاحقًا تعتمد على مستوى تفاقم الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا، وهو ما لا يُسْتبعَدُ معه وصولُ الخلاف التركي الإيراني بشأن هذا الملف إلى مواجهة غير مباشرة لاحقًا في إقليم “قرة باغ”.

التحركات الإيرانية الأخيرة في آسيا الوسطى

تسعى إيران خلال الفترة الأخيرة، ومنذ تولي حكومة المحافظين الجديدة بزعامة الرئيس إبراهيم رئيسي في أغسطس 2021، إلى تعزيز دورها في منطقة آسيا الوسطى عن طريق التوسع في عقد اتفاقيات متعددة مع جميع دول تلك المنطقة. فقد توصلت إيران إلى اتفاقيات اقتصادية وعسكرية مع هذه الدول خلال الأشهر القليلة الماضية، لعل من أبرزها إقامتها مصنعًا لإنتاج الطائرات المسيّرة في طاجيكستان وبحثها “تنمية شاملة” لعلاقاتها مع أوزبكستان.

وعلى الرغم من أن أبرز الأهداف الإيرانية وراء هذه التحركات يكمن في التخطيط للخروج بشكل عام من حالة العزلة الاقتصادية والسياسية، إلا أن النظرة التركية لهذه السياسة الإيرانية الجديدة مختلفة؛ إذ تنتاب أنقرة المخاوف من هذه التحركات الإيرانية؛ بسبب مساعيها بالأساس إلى السيطرة على تلك المنطقة الحيوية المليئة بالموارد.

لذا، فإن مستقبل السياسة الإيرانية في تلك المنطقة يحمل معه احتمالات تصعيد تركي إيراني لم تظهر على المشهد بعد.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/71122/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M