تداعيات الانتخابات التمهيدية

زجّت المؤسسة القيادية في الحزب الديموقراطي بكل ما لديها من نفوذ وامتدادات سياسية وطاقات إعلامية لتشويه وشيطنة المرشح التقدمي بيرني ساندرز، أثمرت بتحقيق انقلاب في نتائج الانتخابات ليوم “الثلاثاء الكبير،” وبروز مرشحها المفضل نائب الرئيس الأسبق جو بايدن في المرتبة الأولى.

في خطوة غير مسبوقة في الانتخابات الأميركية صدر بيان مشترك عن “وزارتي الخارجية والعدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي،” عشية الانتخابات التمهيدية، حذر فيه الناخب الأميركي “الإبقاء على يقظته من مساعي عناصر أجنبية للتأثير على المزاج العام ورسم بوصلة الناخب ومداركه،” في إشارة واضحة لإثارة وتجديد الاتهامات باتجاه مزاعم تدخل روسيا في الانتخابات “لصالح المرشح الاشتراكي” بيرني ساندرز.

وظفت مؤسسة الحزب الديموقراطي أيضاً طاقات إضافية لتحشيد قطاع الناخبين من السود، الأفارقة الأميركيين بالتعريف الرسمي، بضمنها تدخل ومناشدة الرئيس السابق باراك أوباما لرموز قيادية ومؤثرة بينهم لاستنهاض الهمم والتصويت لصالح المرشح جو بايدن، بدءاً بولاية ساوث كارولينا وانسحاباً على الولايات الجنوبية الأخرى.

يعزى فوز بايدن في الولايات الجنوبية إلى عامل الناخبين السود بالدرجة الأولى، ليس للدلالة على “شعبية” المرشح، بل نتيجة ضعف قاعدة التأييد للحزب بين الناخبين البيض. وعليه، فإن تكتل الناخبين السود يشكل المجموعة الأكبر كثافة بين مجموع الناخبين؛ وتباين التأييد أيضا بين شريحة كبار السن المؤيدة لبايدن والشريحة الشبابية الميالة لتأييد ساندرز والتي تشكل نحو 15% من الناخبين السود.

النتائج الرسمية دلت ليس على فوز المؤسسة التقليدية للحزب الديموقراطي وإنقاذ الحملة المتعثرة للمرشح بايدن فحسب، بل على مدى وأفق التغيير “الدراماتيكي” للصراع بين تياري الحزب: التقليدي المؤسساتي من ناحية، واليسار التقدمي من ناحية أخرى.

استحدثت قيادة الحزب الديموقراطي شعار “قابلية المرشح للفوزElectability ،” لتوجيه الرأي العام في سياق أوحد يفضله الحزب؛ جسده بتصريحات كبار قياداته بعد إعلان نتائج “الثلاثاء الكبير،” مفادها أن “جمهور الناخبين أيدوا كلا المرشحيْن (بايدن وساندرز) لكنه توحّد بوضوح حول المرشح الذي رآه الأكثر قابلية للانتخاب.” (المدير الإعلامي لجمعية حكام الولايات الديموقراطيون، جاريد ليوبولد).

كذلك سلطت قيادات الحزب الديموقراطي وامتداداتها الإعلامية الأنظار على تصريحات بيرني ساندرز التي أشاد بها بإنجازات الثورة الكوبية، لا سيما في سجلها بمحو الأمية وبرامج الرعاية الصحية الشاملة، ووجدتها فرصة مؤاتية لاستنهاض الجالية الكوبية المناهضة للنظام الاشتراكي في ولاية فلوريدا وحشدها ضد المرشح ساندرز، ووقف زخم حملته والحيلولة دون بلوغه حسم نتائج الانتخابات التمهيدية.

لتلك العناصر وعوامل أخرى كان الدور الرئيس في “اقناع” المرشحيْن الآخرين، بيت بوتيجيج وآيمي كلوبوشار ولاحقا مايكل بلومبيرغ، بالانسحاب من السباق وتأييد المرشح جو بايدن. بل تشير تحركات اللحظات الأخيرة إلى التدخل المباشر من قبل كبار قيادات الحزب الديموقراطي، أنصار العولمة: باراك أوباما، نانسي بيلوسي، وتشاك شومر؛ بالضغط على ممولي المرشحيْن (بوتيجيج وكلوبوشار) بسحب الدعم والانتقال لتأييد جو بايدن.

عند هذه المحطة الفاصلة في الصراع ينبغي التذكير بأجواء الانتخابات لعام 2016، وتفضيل مؤسسة الحزب الديموقراطي للمرشحة هيلاري كلينتون ضد الصاعد بيرني ساندرز؛ وقناعتها الجمعية المفرطة بالتفاؤل بأن كلينتون ستكسب الانتخابات أمام المرشح الجمهوري دونالد ترامب دون عناء كبير.

وجاء في تقييم لإستراتيجيي الحزب الديموقراطي آنذاك أن السيدة كلينتون أخفقت في كسب نحو “70% من الناخبين المؤيدين للرئيس أوباما،” في حملته الرئاسية لعام 2012، بل خسرتهم لغير رجعة. الإخفاق والفشل، بحسب أولئك، يعودان إلى الفجوة الهائلة بين خطاب الحزب ومرشحته لا سيما تأييدها الثابت لمعسكر الحرب، من ناحية، وبين طموحات ومطالب الناخبين السود بالدرجة الأولى.

حسابات الحقل خالفت حسابات البيدر آنذاك، ولم تفلح قيادة الحزب الديموقراطي في سبر أغوار هزيمة مراهناتها الكامنة أساساً في رفض قواعده الشعبية، لا سيما التقدمية والمستقلين، لمرشحة مؤيدة بقوة لسياسات الحروب؛ ولعلنا نشهد تكراراً لتلك التجربة مرة أخرى: مرشح الحزب المفضل هو استمرار لاستراتيجية شن الحروب وبسط الهيمنة ونموذج العولمة، عوضاً عن سياسات التعايش والإقرار بتعدد القطبية الدولية.

عدد من مراكز الدراسات المقربة من الحزب الديموقراطي أشارت بوضوح إلى انحياز عدد لا بأس به من مؤيدي المرشح ساندرز، في الانتخابات الرئاسية الماضية، للتصويت للمرشح الجمهوري دونالد ترامب انتقاماً من السيدة كلينتون وقيادات الحزب.

على سبيل المثال، في ولاية ويسكونسن الحاسمة 8% من مؤيدي ساندرز صوتوا لصالح ترامب انتقاماً من كلينتون، عام 2016؛ ونحو 16% من ذات الفريق المؤيد لساندرز في ولاية بنسلفانيا صوتوا لصالح ترامب.

(المصدر: Cooperative Congressional Election Study (CCES) )

تأكيداً على النبض الشعبي المناهض لمؤسسة الحزب الديموقراطي، لعام 2016، كرر المقربون من أوساطه تباعاً أنه لو توجه الحزب لترشيح بيرني ساندرز آنذاك “لتفوق بأغلبية حاسمة على مرشح الحزب الجمهوري ترامب، مقارنة بتوقعات الحزب بفوز السيدة كلينتون.” بعضهم اتهم قيادة الحزب بتفضيل تدفق تبرعات شريحة فاحشي الثراء واسترضائها، المليارديرات، وما رافقها من خسارة الانتخابات على العمل الجاد لإجراء إصلاحات بنيوية في الهيكل السياسي الأميركي الممثل ببرنامج ساندرز، في الدورتين السابقة والراهنة.

في المنعطف الراهن للانتخابات الأميركية تنبغي الإشارة إلى ما يعانيه المرشح المفضل للحزب، جو بايدن، من تردي في حالته الصحية والذهنية نجد ترجمتها في تصريحاته المتناقضة وهفواته المستمرة الأمر الذي حفز الأخصائيين من الأطباء التدليل على تراجع قدراته الذهنية وأهليته القيادية، وهو في مرحلة متقدمة من العمر.

علاوة على ذلك، يميل بايدن إلى المبالغة المستمرة في تجميل سجله تصل إلى حد الكذب الصريح في محطات متعددة ومتواصلة. منها على سبيل المثال ادعاءه بالاعتقال من قبل سلطات الفصل العنصري الجنوب إفريقية أثناء محاولته لقاء المناضل نيلسون مانديلا، لاسترضاء عواطف السود؛ واضطراره للتراجع عن سرديته بعد تدقيق الصحافة فيها.

ساق بايدن أيضاً نيله ثلاث شهادات جامعية “والتخرج ضمن دفعة العشرة الأوائل،” عام 1988، وسرعان ما انهار ادعاءه أمام الحقائق التي أشارت إلى نيله شهادة جامعية واحدة، لا غير، والتخرج بمرتبة 76 من مجموع 85 على دفعته الجامعية.

أهمية فوز بايدن بالولايات الجنوبية، باعتقادنا، مبالغ بها في المرحلة الراهنة لكونها تميل لتأييد المرشح الجمهوري في الانتخابات العامة؛ كما دلت على ذلك انتخابات عام 2016 وتصويتها بقوة لصالح المرشح دونالد ترامب. فضلاً عن احكام الحزب الجمهوري سيطرته على الهيكلية السياسية في معظم تلك الولايات: حكاماً ومجالس محلية وسلك القضاء.

بعبارة أخرى، لا ينبغي الإفراط في التفاؤل بأن الولايات الجنوبية ستؤيد بايدن أو حتى ساندرز في الانتخابات العامة؛ فالآلة الانتخابية الهائلة للحزب الجمهوري تعتبرها ساحتها الخلفية ولن تضحي بها، حتى لو اضطرت إلى تبديد أصوات السود وذوي الأصول اللاتينية، كما شهدنا في ولاية تكساس مؤخراً بإقصائها من الحزب الديموقراطي.

اللوحة الراهنة ممن تبقى من انتخابات تمهيدية، 10 و17 الشهر الجاري، لا تشير بأنباء مشجعة للمرشح بيرني ساندرز، باستثناء ولايتي واشنطن وربما متشيغان، نظراً لما تقدم من عزم الحزب الديموقراطي إقصاء ساندرز “بأي وسيلة ممكنة.”

حتى لو حالف الحظ بيرني ساندرز بفوز معتبر في عدد المندوبين للوصول إلى المؤتمر العام وشبه ضمان ترشيحه، فسيصطدم بعقبة كتلة من كبار النافذين في الحزب، تعدادها نحو 500 عنصر مكونة من أعضاء مجلسي الكونغرس، والرؤساء السابقين –بيل كلينتون وباراك أوباما- وآخرين والذين سيمارسون نفوذهم الضاغط “خلف الكواليس” لترجيح كفة مرشحهم المفضل جو بايدن؛ وكأننا أمام تكرار لتجربة الانتخابات الماضية لإقصاء بيرني ساندرز.

بايدن مقابل ترامب

السؤال الجوهري الحاضر دوما هل باستطاعة جو بايدن، وما يمثله من امتداد للمؤسسة الحاكمة، الفوز على دونالد ترامب في الانتخابات العامة؟

الإجابة ليست لغزاً او انعكاساً لتكهنات المحللين والمراقبين، بل نجدها في خسارة الحزب الديموقراطي ومرشحه باراك أوباما للولايات الجنوبية، بالدرجة الأولى في الانتخابات النصفية لعام 2010، والتي أسفرت عن فوز ساحق للحزب الجمهوري في مقاعد مجلسي الكونغرس، والأهم كذلك فوز مرشحي الأخير في مناصب حكام الولايات والمجالس التمثيلية المحلية أيضاً، 2010 و2014 تباعاً.

ترشيح بايدن من قبل الحزب الديموقراطي، كما هو متوقع، سيسفر عن نتيجة مماثلة للدورة السابقة بين صفوف مؤيدي المرشح ساندرز: بعضهم سيصوت للرئيس ترامب نكاية بالحزب الديموقراطي، والبعض الآخر سيفضل عدم المشاركة، مقابل إقبال فاعل وكثيف لقواعد الحزب الجمهوري.

في ظل هذه القراءة، نستطيع القول إن الحزب الديموقراطي يقف على اعتاب خسارته لبعض الولايات في الشطر الغربي من اميركا، وكذلك في الولايات الجنوبية؛ ولن يسعفه فوزه ببعض الولايات الحاسمة، مثل ويسكونسن وبنسلفانيا واوهايو.

بل ستعزز توجهات قيادات الحزب الانقسامات العامودية والأفقية، على السواء، نتيجة صراع التيارين المشار اليهما، التقليدي والتقدمي؛ ومن العبث التغلب على أي جولة انتخابية في ظل هكذا انقسامات طويلة الأجل، وليست عابرة كما يشاع.

كذلك لا ينبغي استثناء أهمية عامل هجوم ترامب القاسي على بايدن في المناظرات الرئاسية المقبلة والذي لن يوفره بالمطلق خاصة لاتهامه بالفساد وتلقي الرشاوى. وليس مستبعداً أن يعمد المرشح ترامب لاستثارة الناخبين مرة أخرى فيما يعرف “بمفاجأة أكتوبر،” أي عشية الانتخابات الرئاسية، والإفراج عن تفاصيل بالغة الإحراج لبايدن في علاقاته مع أوكرانيا، بصرف النظر عن مدى صدقيتها أو ثبوتيتها، ولن يكون بمستطاع الحزب الديموقراطي مواجهتها بفعالية نظراً لقصر المسافة الزمنية المتاحة حينئذ.

القراءة الراهنة للوحة الانتخابية ومراكز القوى المؤثرة تشير بقوة إلى رجحان كفة إعادة انتخاب الرئيس ترامب بولاية رئاسية ثانية، بكل ما تعنيه من استمرار سيطرة الشرائح الأشد ثراء، نخبة 1%، على نهج ومقدرات الولايات المتحدة والعالم بأكمله.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/views/22455

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M