تغير ميزان القوى: لبنان ما بعد الانتخابات البرلمانية

رحاب الزيادي

 

شهد لبنان في الخامس عشر من مايو 2022 الانتخابات البرلمانية بالداخل، سبقها انتخابات المغتربين في الخارج يومي 8،6 مايو الجاري على مرحلتين. وقد شملت المرحلة الأولى عدداً من الدول منها: مصر، السعودية، قطر، الكويت، سوريا، سلطنة عمان، البحرين، الأردن، العراق، إيران، بنحو أكثر من 30 ألف ناخب. أما المرحلة الثانية فشملت تصويت نحو 195 ألف لبناني في حوالي 50 دوله تضم: الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، وروسيا، ودول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى بعض الدول الأفريقية. وتشير التقديرات الرسمية إلى هجرة أكثر من 195 ألف لبناني منذ عام 2018.

خاض الانتخابات نحو 1043 مرشحًا بينهم 155 مرشحة، وهو العدد الأكبر من المرشحين بزيادة حوالي 77 مرشحًا عن انتخابات 2018، في تنافس على 128 مقعدًا، مقسمة وفقًا للنظام الانتخابي إلى 34 مقعدًا للموارنة، و27 مقعدًا للسنة، و27 مقعدًا للشيعة، و14 مقعدًا للروم الأرثوذكس، و8 مقاعد للروم الكاثوليك، و8 مقاعد للدروز، و5 مقاعد للأرمن الأرثوذكس، ومقعدين للعلويين، ومقعد لكل من الإنجيليين والأرمن الكاثوليك وبقية الأقليات.

السياق الانتخابي

بلغت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات 41%، وهي نسبة منخفضة مقارنة بـانتخابات 2018، حيث كانت تبلغ 49.7%. حصل كل من الثنائي الشيعي (حزب الله 16 مقعدًا، وحركة أمل 15 مقعدًا) بإجمالي 31 مقعدًا، وحصل كل من الحزب التقدمي الاشتراكي على 9 مقاعد، وتيار المردة على مقعدين، وكتلة الكتائب على 5 مقاعد، وحزب الطاشناق على 3 مقاعد، وقوى المجتمع المدني على 12 مقعدًا، والمستقلون على 14 مقعدًا، والتيار الوطني الحر على 16 مقعدًا، والقوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع على 20 مقعدًا.

خاضت قوى التغيير الانتخابات من خلال قوائم بيروت مدينتي، قادرين، وتنافست في دائرتي بيروت الأولى والثانية، كما مثلت قائمة قادرين في دائرة الشمال الأولى والثانية والثالثة، وكذلك في البقاع الأولى والثانية والثالثة، وفي دائرة الجبل الثانية، وكذلك في دوائر الجنوب. وخاض السنة قائمة الإرادة الشعبية في طرابلس برعاية فيصل كرامي وجهاد الصمد، وقائمة إنقاذ وطن، وخاضها أشرف ريفي عبر تعاونه الوثيق مع القوات اللبنانية.

بالنظر إلى النتائج الرسمية المعلنة؛ نجد تراجع حزب الله وحلفائه في مقاعدهم عن انتخابات 2018، حيث حصل بها على أغلبية بنحو 71 مقعدًا، وتراجعت الشخصيات السياسية الوازنة والمقربة من حزب الله مثل طلال أرسلان رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني، ووئام وهاب رئيس حزب التوحيد العربي، وأسعد حردان من الحزب السوري القومي الاجتماعي. ومثلت نسبة التصويت من الجانب الشيعي في الجنوب والبقاع 40 %، بينما كانت تبلغ 49 % في انتخابات 2018. وهو أمر يشابه ما حدث من تراجع للقوى الموالية لإيران في الانتخابات البرلمانية العراقية أكتوبر 2021، مما يؤشر لاحتمالية عرقلة تشكيل الحكومة، بالرغم من أن وضع الدولة حرج ولا يحتمل أي تأخير في قيام المؤسسات بدورها.

ويبقى التعويل على التحالفات التي تتشكل في البرلمان عقب هذه النتائج؛ فثمة تحالفان تقليديان هما: 8 آذار الذي يضم حزب الله، حركة أمل، التيار الوطني الحر، تيار المردة. و14 آذار ويضم: القوات اللبنانية، والحزب التقدمي، وحزب الكتائب، وسنة 14 آذار. وكتلة المجتمع المدني التي حصلت على 12 مقعدًا، وكتلة المستقلون وحصلت على 14 مقعدًا، ومن المرجح أن تنضم إلى قوى 8 آذار أو 14 آذار.

جرى العرف في لبنان أن يكون الرئيس مسيحيًا مارونيًا، ورئيس الوزراء سنيًا، ورئيس البرلمان شيعيًا، لذا من أولى المهام التي تقع على عاتق المجلس القادم هو انتخاب رئيس مجلس النواب. وتميل الترجيحات بشكل كبير إلى تنصيب نبيه برى مرة أخرى باعتباره الحائز على النصيب الأكبر من أصوات الشيعة، وكذلك الأكبر سنًا في حال تساوت الأصوات أثناء انتخابه كرئيس للمجلس. ومن بين الأصوات المؤهلة للترشح لرئاسة الحكومة أشرف ريفي؛ وهو المرشح الفائز عن المقعد السني في طرابلس، وخاض الانتخابات من خلال قائمة إنقاذ وطن بالتعاون مع القوات اللبنانية.

ووفقًا لنص الدستور اللبناني المادة 44: “في كل مرة يجدد المجلس انتخابه يجتمع برئاسة أكبر أعضائه سنًا، ويقوم العضوان الأصغر سنًا بينهم بوظيفة أمين، ويعمد إلى انتخاب الرئيس ونائب الرئيس لمدة ولاية المجلس كل منهما على حدة، بالاقتراع السرى وبالغالبية المطلقة من أصوات المقترعين، وتبنى النتيجة في دورة اقتراع ثالثة على الغالبية النسبية، وإذا تساوت الأصوات فالأكبر سنًا يعد منتخبًا، وفي كل مرة يجدد المجلس انتخابه، وعند افتتاح عقد تشرين الأول من كل عام، يعمد المجلس إلى انتخاب أمينين بالاقتراع السرى، وفقًا للغالبية المنصوص عنها في الفقرة الأولى من هذه المادة”.

أيضًا يقع العبء على المجلس القادم في انتخاب رئيس الجمهورية، ونظرًا لقرب انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون في 31 أكتوبر القادم، يتعين على المجلس انتخاب رئيس جديد في غضون أربعة أشهر على الأكثر. وذلك بحسب المادة 49 من الدستور اللبناني: “ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السرى بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويُكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي، وتدوم رئاسته ست سنوات، ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته، ولا يجوز انتخاب أحد لرئاسة الجمهورية ما لم يكن حائزًا على الشروط التي تؤهله للنيابة، وغير المانعة لأهلية الترشيح”

كما تنص المادة 73 من الدستور على “قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر يلتئم المجلس بناء على دعوة من رئيسه، لانتخاب الرئيس الجديد وإذا لم يدع المجلس لهذا الغرض فانه يجتمع حكمًا في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس”.

وتُشير المحطات السابقة من عمر الدولة اللبنانية، إلى حدوث أزمة في انتخاب الرئيس وفي تشكيل الحكومة كذلك؛ حيث سبق انتخاب الرئيس الحالي ميشال عون حالة من الفراغ الرئاسي لمدة عامين من 2014-2016، وقبله انتخاب الرئيس ميشال سليمان فراغ لعدة أشهر من نوفمبر 2007 – مايو 2008، وقبل التمديد للرئيس إميل لحود نشبت أزمة كبيرة وثورة نتيجة النفوذ السوري في لبنان آنذاك، واغتيل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في فبراير 2005. لكن الوضع الحالي في لبنان من حيث التدهور المعيشي والاقتصادي لا يستدعي الخوض في فترات كبيرة لحين استكمال باقي الاستحقاقات، أو وجود فراغ في السلطة سواء الرئاسة أو الحكومة لأن ذلك يفاقم من سوء الأوضاع هناك.

وبحسب المادة 62 من الدستور اللبناني التي تتضمن “في حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء”. بعبارة أخرى، في حالة حدوث فراغ في منصب الرئاسة فإن ذلك يعني أن السلطات الرئاسية يتم تفويضها إلى مجلس الوزراء، مما يجعل الحكومة الجهاز الوحيد للسلطة التنفيذية، وهو احتمال يزيد من المخاطر التي ينطوي عليها تشكيل الحكومة، وفي مثل هذه الحالة قد يؤدي انتهاء ولاية عون إلى فراغ دستوري، ومن ثم لن تكون هناك إصلاحات ممكنة وسط هذا الجمود أو المواجهة الطويلة بشأن تشكيل الحكومة أو الإشكالية الخاصة باختيار رئيس الجمهورية.

فقد تمكنت حكومة ميقاتي الحالية من إجراء اتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي من أجل توفير الدعم المالي والاقتصادي للدولة وفقًا لبعض الشروط من حيث إقرار مجموعة من القوانين لإصلاح هيكل الموازنة، وقطاعات الطاقة والبنية التحتية والحماية الاجتماعية. ويبقى التعويل على البرلمان القادم وكذلك الحكومة من حيث إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإعادة هيكلة الديون، وإصلاح نقدي لتحقيق الاستقرار في سعر الصرف، والسيطرة على التضخم، وإصلاح القطاع العام لوقف الإسراف في الإيرادات، وبالتبعية إصلاحات في قوانين مكافحة الاحتكار والإصلاح القضائي والمؤسسي، وكل ذلك مرهون بالبرلمان القادم وقدرته على إصدار قوانين إصلاحية وتنفيذها من قبل الحكومة.

ملاحظات أساسية

تختلف هذه الانتخابات عن سابقتها من حيث الوضع المأساوي الذي تعيشه لبنان، حيث تفوق الضغوط في القطاعات المختلفة قدرة المواطن على التحمل، ومن ثم شارك الناخبون -بالرغم من انخفاض النسبة عن انتخابات 2018- على أمل إحداث تغيير في القوى السياسية والمنوط بها تغيير الوضع القائم، للانتقال من مرحلة الانهيار إلى مرحلة البناء، ولا سيما في ظل انكماش اقتصادي بنسبة 35%، وفقدان العملة 90% من قيمتها، وبلوغ البطالة 40%.

اللافت في هذه الانتخابات هو عدم ترشح أي من القادة السنة، بعد إعلان كل من رئيس الوزراء الحالي نجيب ميقاتي ورؤساء الوزراء السابقين سعد الحريري وفؤاد السنيورة وتمام سلام عدم خوضهم الانتخابات، فضلًا عن إعلان الحريري مقاطعة تيار المستقبل الذي يعد القوة السنية الأبرز على الساحة السياسية اللبنانية للانتخابات، واشتراط التيار على أعضائه عدم الترشح للانتخابات أو الاستقالة، هذا بالإضافة إلى أن وجود قوى سنية متحالفة مع حزب الله يعزز من نفوذه في استقطابهم لتشكيل الأغلبية، لكن ربما تعول الطائفة السنية على شخصيات سنية أخرى تقود الحكومة، بعد لقاءات عقدت مع السفير السعودي في لبنان وليد البخاري في الأسابيع التي سبقت التصويت.

أظهرت نتائج الانتخابات تغير موازين القوى القائم في لبنان، وحالة الرفض الداخلية للهيمنة الإيرانية، ووجود حزب الله في السلطة، على غرار ما حدث في الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة، وربما يكون ذلك مؤشرًا على تغير موازين القوى لصالح قوى سياسية ووطنية، تنهض بكل من لبنان والعراق بعيدًا عن السيطرة الإيرانية، وربما عودة إلى المحيط العربي. كما أن فوز القوات اللبنانية بنسبة أعلى نسبيًا من التيار الوطني الحر، يدفعها إلى استقطاب قوى أخرى لاسترداد الأغلبية البرلمانية من التيار الوطني الحر -المقرب من حزب الله – والتي حازها في انتخابات 2018.

ما زالت هناك عقبات أمام استكمال باقي الاستحقاقات السياسية من حيث انتخاب الرئيس وكذلك تشكيل الحكومة في ظل مؤشر تراجع القوى المالية لحزب الله والتي دائمًا ما تنتهج العنف سلوكًا لها والمناورات التي ستتبعها لرفض النتائج، وكذلك في ظل عدم وجود أغلبية برلمانية واضحة تشكل الحكومة القادمة، وحالة الاستقطاب التي ستقوم بها القوى السياسية، كما أن حزب الله لن يستسلم عن الامتيازات التي منحتها له انتخابات 2018 من حيث حيازة الأغلبية البرلمانية وانتخاب رئيس للجمهورية موالٍ للحزب، وتمسكه بالسيطرة على الشأن الداخلي في لبنان من حيث إصدار القوانين، وتعديل الدستور، ووضع قواعد السياسة الخارجية للدولة وفي مقدمتها توطيد حزب الله لتحالفاته الإقليمية مع إيران، وما ينتج عن ذلك من الاتفاقيات والتحالفات والتفاعلات الخارجية.

يوجد خلاف بين القوى السياسية حول شرعية امتلاك حزب الله للسلاح، والدور العسكري للحزب خارج لبنان، وتتزايد وتيرة هذه الخلافات مع كل انتخابات بين التيارات السنية المدعومة من السعودية، والتيارات الشيعية المدعومة من إيران، ويظل التيار المسيحي منقسمًا بين قوى متحالفة مع حزب الله (التيار العوني) وقوى أخرى مناوئة له كحزب القوات اللبنانية، وعليه يمثل هذا الملف معضلة للتوافق بين هذه القوى السياسية، وسببًا لاستمرار التناحر فيما بينها.

ختامًا؛ ستمثل مرحلة ما بعد الانتخابات حالة من التناقض ما بين ضرورة الإسراع في إصلاح الاقتصاد الذي يقوم على التعاملات النقدية بالعملة الصعبة من ناحية، والعجز عن القيام بإصلاحات كبيرة نتيجة فساد القوى القائمة، وبين ضرورة التوافق بين القوى الفائزة في الانتخابات والمسئولة إلى حد كبير عن الأوضاع في الدولة من ناحية أخرى، ولا ينفصل ذلك أيضًا عن التفاعلات في الملفات الإقليمية والدولية الجارية سواء الصفقة النووية الإيرانية، والحرب الروسية-الأوكرانية، والتطورات في الوضع السوري، والتشابكات مع الملف اللبناني.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19475/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M