جدل الأولويات: قراءة في معايير ودلالات تشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة

د. توفيق أكليمندوس

 

عقب انتخابه لولاية ثانية قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنه رئيس جديد (لأن الولاية الأولى علمته الكثير) سيشكل حكومة جديدة لشعب جديد. وسخر المراقبون من هذه الإشارة إلى شعب جديد، ولكنني أظن أنه يُشير إلى التغيرات في التركيبة السكانية الفرنسية، وقال الرئيس إنه سيُعطي نفسه مهلة للتفكير، واكتفى مستشاروه بالتلميح إلى أن رئيس الحكومة الجديد سيكون امرأة، آتية من صفوف اليسار وأنها ستكلف بالتخطيط البيئي. واستمرت لعبة التكهنات والتسريبات وبالونات الاختبار ثلاثة أسابيع، وطرحت أسماء، مثل: إليزابيث بورن وزيرة العمل في حكومة ماكرون السابقة، وماريسول تورين وزيرة التضامن والصحة أيام الرئيس هولاند، وأودراي أزولاي مديرة اليونسكو وبنت أحد مستشاري الملك المغربي، والثلاثة من اليسار، وكاثرين فوتران وهي محسوبة على اليمين، وجوليان دو نورماندي وهو شاب مقرب للرئيس.

المعايير الحاكمة لاختيار أعضاء الحكومة

تناولت التكهنات المعايير والقواعد التي ستحكم عملية اختيار أعضاء الحكومة، والتي تشمل ما يلي:

أولًا: القدرة على العمل مع الرئيس وفقًا للقواعد التي أرساها، وهي تركيز السلطات في يديه والحرص على التنسيق بين الوزارات، وفي ظل التوجهات التي حددها، وألا يكون الوزير من الساعين بوضوح إلى خلافة ماكرون بعد انتهاء ولايته الثانية، وألا يكون وجهًا مرفوضًا رفضًا واسعًا.

ثانيًا: أن يكون التشكيل “إشارة” إلى قطاعات من الناخبين تفيد بأن الرئيس سيتبنى سياسات تَلقى رضاهم، وأجمع المراقبون على كون الرئيس كسب ما يمكن كسبه في صفوف اليمين، وعلى أن انهيار حزب الجمهوريين بعد هزيمته المنكرة لا يترك خيارات كثيرة أمام ناخبي اليمين، إما لوبن إما الرئيس، وأن الرسالة الرئاسية يجب أن توجه لناخبي اليسار، لا سيما أن الانتخابات التشريعية تكون بالقائمة الفردية علي جولتين، مما يقلل من فرص حزب لوبن لعجزه عن إقامة تحالفات. وبدا أن الرئيس بدأ يخاطب ناخبي اليسار منذ انتهاء الجولة الأولى للانتخابات الفرنسية، إذ أكثر من التصريحات المشددة على ضرورة حماية البيئة والقدرة الشرائية للفرنسيين الفقراء.

ثالثًا: إدارة التوازنات، والسؤال الذي فرض نفسه هل يمكن إدارة كل التوازنات الهامة، حيث أكد الرئيس على ضرورة زيادة نصيب المرأة، وكان واضحًا أن ميزان تمثيل التيارات الفكرية والسياسية سيميل إلى جانب وسط اليسار واليسار للاعتبارات السالف ذكرها، وميزان إرضاء الأحزاب حلفاء حزب الرئيس (أحزاب فرانسوا بيرو وإدوار فيليب وربما بعض رجال ونساء الرئيس الأسبق ساركوزي والساسة الاشتراكيين الذين تركوا حزبهم وأيدوا ماكرون)، والموازنة بين التكنوقراط المجيدين للغة الأرقام والعارفين بتفاصيل إدارة الملفات وبدهاليز الدولة، وبين الساسة وشخصيات المجتمع المدني المجيدين لفن مخاطبة الرأي العام وإدارة التوافقات، وأخيرًا وليس آخرًا التوازنات الجغرافية واستحسان تمثيل كل مناطق فرنسا.

قراءة في ترشيحات الرئيس ماكرون

يمكن القول مباشرة إن الرئيس ماكرون اختار بعد تردد السيدة بورن، كما تنبأت التكهنات، وأن التشكيل ضم ١٤ امرأة و١٤ رجلاً، وأنه لم يراعِ على الإطلاق اعتبارات التوازن الجغرافي، وأنه احتفظ بنصف وزراء الحكومة السابقة، وإن تولى بعضهم وزارة جديدة، وأنه لا يوجد بين الأعضاء الجدد أي “منشق من الأحزاب الأخرى” سوى السيد داميان عباد الذي عين وزيرًا للتضامن والاستقلال الذاتي وشئون ذوي الاحتياجات الخاصة. ومن ناحية أخرى، فإن الوزارة تفتقر إلى سياسيين من “أصحاب الوزن الثقيل”، لا يوجد إلا وزيرى المالية والداخلية بعد اعتزال لودريان وزير الخارجية أثناء ولاية ماكرون ووزير الدفاع أثناء ولاية هولاند.

أغلب أعضاء الوزارة الجديدة في العقد الرابع أو الخامس من عمرهم، وقليلو الخبرة نسبيًا، بعضهم من السياسيين الشبان وانضم إلى حزب ماكرون سنة ٢٠١٦ أو ٢٠١٧، وكان قبل ذلك من كوادر الحزبين الاشتراكي والجمهوري، بعضهم –سواء لهم تجربة سياسية سابقة إم لا- من خريجي مدارس النخبة (المدرسة القومية للإدارة، أو مدرسة الهندسة العسكرية، أو المعهد الأعلى للتجارة، أو معاهد العلوم السياسية). رئيسة الوزارة من خريجي معهد الهندسة العسكرية المرموق، وعملت في مكاتب وزراء اشتراكيين، قبل أن تصبح وزيرة عمل في عهد ماكرون، وتقول إنها يسارية التوجه، ولكن اليساريين في المعارضة يقولون إن الإصلاحات التي قامت بها تدحض مزاعمها، وعلى كل حال هي أكثر يسارية من سلفها في هذا الموقع السادة إدوار فيليب وجان كاستكس. ويقال عنها إنها ملمة بالملفات، مقبلة على العمل، قاسية مع معاونيها، باردة.

بعض الوزراء مهنيون ناجحون –عدد كبير منهم محامون أو قضاة أو أطباء– كلفوا بمهام أو مناصب تكون فيها كفاءتهم المهنية إضافة… يجمع الأغلبية الكاسحة منهم كونهم “صنائع ماكرون” يدينون بالكثير أو ربما بكل شيء له، وكونهم ينتمون إلى الطبقات الوسطى الميسورة المستفيدة من العولمة، مع وجود أقلية من أصول اجتماعية متواضعة، وهناك عدد من الوزراء جاءوا من “التنوع الفرنسي”، أي إن أصولهم أجنبية، أهمهم وزير التربية والتعليم ووزير الثقافة.

في الوزارة السابقة كان رئيس الوزارة وزير المالية ووزير الداخلية من ذوي التوجهات والماضي اليمينيين، بينما كان وزيرا الخارجية والدفاع من أبناء اليسار، وفي الوزارة الجديدة رئيسة الوزارة آتية من صفوف اليسار ووزراء المالية والداخلية والخارجية والدفاع من اليمين. لقد أنهى جان لوي لو دريان مشواره الحافل على رأس وزارات سيادية وعاد إلى مسقط رأسه، وحلت محله السيدة كاترين كولونا لتكون وزيرة الخارجية وأكبر الوزراء سنا، وهي دبلوماسية محترفة، ومن القلائل التي لها رتبة “سفيرة فرنسا” (أغلب السفراء لهم رتبة “سفير”)، خدمت في مواقع هامة منها سفيرة في كل من لندن وروما. وكانت مقربة من الرئيس السابق جاك شيراك ومن وزرائه دومينيك دو فيلبان وألان جوبيه. وكانت المتحدثة الرسمية باسم الرئاسة لمدة تسع سنوات أيام حكم شيراك، ثم أصبحت وزيرة للشئون الأوروبية.

لا يشكّ أحد في كفاءتها النادرة، وفي عمق فهمها للعلاقات الدولية، ولكن هناك تساؤلات قد تخطر على البال فيما يتعلق بعلاقاتها مع قصر الرئاسة، كان العمل مقسمًا بين ماكرون ولودريان، للأول القوى الكبرى وأوروبا، والثاني يعرف دهاليز إفريقيا والعالم العربي، الأول كان مندفعًا والثاني مترويًا، كاثرين كولونا تخصصها الشئون الأوروبية، وتتولى منصبها والوزارة في حالة تذمر وغضب بعد قيام الرئيس بإلغاء القواعد الحاكمة للسلك الدبلوماسي، باختصار تنتظرها مهمة صعبة في توقيت دقيق، طبعًا الرئيس هو الذي يحدد في كل الأحوال توجهات السياسة الخارجية وكأي دبلوماسية ستقوم الوزيرة بتنفيذ قراراته ولكن السؤال يبقي حول كيفية رسم السياسة الإفريقية وحول قدرة الوزيرة على تهدئة الأجواء بين الرئيس والوزارة.

إحدى المفاجآت الضخمة في هذا التعديل هو تعيين شاب يناهز عمره ستة وثلاثين سنة وزيرًا للدفاع، وهو السيد سيباستيان لوكورنو وهو أصغر وزير يتولى هذا المنصب، كان كادرًا واعدًا في حزب الجمهوريين ثم انشق عنهم لينضم إلى فريق ماكرون، وسرعان ما أصبح من رجال الثقة. كان جده من أبطال المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، وولّد الجد في الحفيد اهتمامًا بالأمور العسكرية. ولكنه فضل دخول درب السياسة والعمل في الحياة المدنية، وأصبح بسرعة من رجال برونو لومير قطب الجمهوريين الذي انضم إلى فريق ماكرون وأصبح وزير ماليته. لوكورنو عمل في السياسة ودرس القانون وأصبح ملازمًا أول احتياط في قوات الدرك ونجح في كسب ثقة الرئيس ماكرون الذي عينه وزير دولة لشئون البيئة والطاقة في آخر سنة ٢٠١٧، وتدريجيًا كلف بمهام حساسة وصعبة: إغلاق مفاعل نووي، بداية بناء مفاعل آخر، الاتصالات مع الفرقاء في نيو كاليدونيا.. إلخ، ثم أصبح وزيرًا للشئون القروية. وسنة ٢٠٢٠ أصبح وزير محافظات ما وراء البحار، ويبدو أنه علم بنوايا الرئيس لأنه كثير التواصل مع قيادات الجيش منذ عدة أشهر.

ردود الفعل

هذه التعيينات على أهميتها لم تلقَ صدى لدي الرأي العام الفرنسي الذي كان يتساءل عن كيفية مخاطبة الرئيس ماكرون لجمهور اليسار في إطار الحملة السابقة للانتخابات التشريعية وكان التصور العام أنه سيخاطب جمهور الخضر بوضع سياسات البيئة على رأس الأولويات وبتعيين شخصيات لها خبرة ووزن سياسي وحس بيئي لتتولى إدارة الملف وللتغلب على عوائق البيروقراطية واعتراضات أصحاب المصالح وما أكثرهم في قطاعات الصناعة والزراعة والمواصلات.

وفوجئ الجميع بإجراءات وصفوها بأنها غير جادة، ستدير رئيسة الوزارة الملف يعاونها في ذلك وزيرتين من ذوي الخلفية التكنوقراطية، لم بسبق لأي منهن العمل في ملفات البيئة، ولا تملك رئيسة الوزارة الوقت السامح بالتفرغ للقضية ولا تملك الوزيرتان الثقل والخبرة السياسية المطلوبين للتصدي لأصحاب المصالح، وكانت مواقع التواصل الاجتماعية تعج بناس تعبر عن خيبة أمل عميقة.

ويبدو أن الرئيس توصل إلى قناعة أن جمهور الخضر غير مهم وأن الأجدر مخاطبة ناخبي ميلانشون الذي جاء في المركز الثالث في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وبالذات ناخبيه من المسلمين، وفجر قنبلة بتعيين مثقف من أصل سنغالي على رأس وزارة التربية والتعليم وهي أضخم بيروقراطية في فرنسا.

لشرح أهمية هذا التعيين علينا أن ندرك أن الجدل العام صاخب حول قضية الهوية الفرنسية، يرى غالبية الجمهور أنه من الضروري المحافظة على مبدأ العلمانية وبث الثقافة الفرنسية المركزية على الجميع لاستيعاب أو إدماج الكل دون مراعاة الخصوصيات الثقافية المختلفة لأبناء المهاجرين، ودون السماح أو التسامح مع مظاهر الخصوصية وطبعا المظهر الوحيد المقصود هو الحجاب أو النقاب، وعلينا أن نعرف إن هناك من يتمسك بالعلمانية اقتناعا بها ومن يتمسك بها لإقصاء المسلمين أو إجبارهم على التبني الكامل لقواعد وعادات فرنسا، وفي هذا الإطار يثير الإخوان والسلفيون المشاكل باستمرار، يعترضون على السفور وعلي مناهج الدراسة وعلي تدريس الأدب الفرنسي لأن موقفه من الرذيلة متسامح وعلي ممارسة الشابات لرياضات الخ، وجاء ذبح مدرس فرنسي في خريف ٢٠٢٠ ليزيد الجو اشتعالًا.

وهناك فريق آخر (اليسار والإخوان والسلفيون وقطاعات من المسلمين المحافظين) يؤمن بالتعددية الثقافية، وبحق المهاجرين في خصوصيتهم٫ ويرى أن الثقافة المركزية أفرزت استعمارا ثم سياسات ما بعد الاستعمار تجتمع في التمييز ضد المهاجر لا سيما إن كان أسمرا، وأن الدولة الفرنسية ما زالت دولة عنصرية وأن هذا ليس أمرا عارضا بل مشكلة بنيوية، ويرى أن التعليم عليه توعية الفرنسيين بالنزعات العنصرية والاستعلائية لثقافتهم واحترام الثقافات الأخرى، أي إن هذا الفريق يريد تعليمًا يحتقر ثقافة البلاد ويندد بها ويريد التذكرة بجرائمها ويحترم غيرها.

الوزير السابق في وزارات فيليب وكاستكس كان السيد بلانكير، وهو من أعمدة الفريق الأول وطبق سياسة أرادت تدريس أمهات كتب الثقافات الفرنسية والغربية، وحاولت التصدي للعنف السائد في المدارس ولا سيما من قبل المراهقين أبناء المهاجرين، وفي وقت ما كانت شعبيته مرتفعة جدًا في فرنسا، ولكنه فقد في وقت ما أيام (كوفيد-١٩) تأييد أهالي التلاميذ لتخبطه في التدابير المكافحة للجائحة، وكانت علاقاته مع النقابات اليسارية المتواجدة بقوة في الوزارة أصلاً سيئة جدًا، وفي النهاية لم ينجح في التصدي لانهيار جودة التعليم فيما يخص اللغة الفرنسية والرياضيات.

وفاجأ الرئيس ماكرون الجميع بتعيين قطب كبير من أقطاب التيار الآخر، قطب من أقطاب التيارات المركزة على معاناة الأقليات السمراء والسوداء في الغرب، الكثيرون يشيدون بجودة أعماله البحثية والعلمية ورقيّ ثقافته ولباقته، ولكنه ورط نفسه في الماضي وحضر ندوات ممنوع على البيض حضورها.. وندد بعنصرية الدولة الفرنسية. وله تصريحات تنتقد الرئيس بشدة.. إلخ.

يمكن تفهم غضب اليمين الفرنسي بكل طوائفه ومعه قطاعات من اليسار، تكليف من لا يحب الثقافة الفرنسية بالإشراف على العملية التعليمية، ومما يزيد من الطين بلة كون الوزير الجديد مثقفًا رفيع المستوى ولكنه لا يتمتع بمهارات سياسية وإدارية تعينه على التحرك في غابة الوزارة، وطبعًا لن تطفي تصريحات الوزير قال إنه ابن الجمهورية فبفضل نظامها التعليمي استطاع الصعود والارتقاء، لن تطفي نار الغضب.

وصاحب هذا التعيين الاستغناء عن عدد من الوزراء الذين دافعوا بشدة عن العلمانية وتطرفوا في الهجوم على الزي الإسلامي.

التفسير السهل لقرار ماكرون هو الانتهازية السياسية، يريد جذب أصوات المسلمين ويفضل أن يكون المعارض الأول له أقصى اليمين وليس تحالف الأحزاب اليسارية، ولكن هذا القرار يفترض أن ناخبي اليمين لا خيارات أمامهم سوي التصويت له رغم امتعاضهم.

ولكننا لا نستبعد وجود دوافع أكثر نبلاً، لو كانت الحسابات الانتخابية الدافع الوحيد لأكثر ماكرون من تعيين وزراء مسلمين، الحقيقي أن التعليم في فرنسا يعاني من انهيار مريع في تدريس اللغة الفرنسية وفي تدريس الرياضيات، والقضية ثارت من جديد بعد اكتشاف الفارق في المستوى بين أبناء الفرنسيين وأبناء الأوكرانيين النازحين… ووصل الأمر إلى درجة العجز عن العثور على مدرسين لائقين… في آخر امتحانات قبول مدرسين لم ينجح الكثيرون ومن قبلوا كانوا أقل من نصف العدد المطلوب، قد يقدر الرئيس أن النهوض بالتعليم يقتضي إلغاء النبرة المعادية لأبناء المهاجرين وقد يقتضي تعاونًا بين الوزير ونقابات المدرسين المعتنقين لمواقف قريبة من موقف الوزير الجديد. ولكن المراقبين –حتى المؤيدين للقرار- يرون أن الرئيس يقوم بمغامرة كبيرة.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19471/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M