تنظيم الدولة بعد مقتل أبو إبراهيم القرشي: حرب عصابات براية “خلافة” افتراضية

شفيق شقير

أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، مقتل زعيم “تنظيم الدولة الإسلامية” أبو إبراهيم الهاشمي القرشي (محمد سعيد عبد الرحمن المولى)، بعملية عسكرية للقوات الأميركية في شمال سوريا (3 فبراير/شباط 2022). وفي بيان نشره البيت الأبيض، قال بايدن: “تمكَّنت القوات الأميركية الليلة الماضية، وتحت توجيهاتي، من تنفيذ عملية ناجحة لمكافحة الإرهاب في شمال سوريا لحماية الأميركيين وحلفائهم، وجعل العالم مكانًا أكثر أمنًا”. وهذه العملية تطرح مجددًا أسئلة حول المآل الذي ينحو نحوه تنظيم الدولة، فضلًا عن السياق والتداعيات المتصلة به.

سياق وتداعيات

استلم أبو إبراهيم منصب “الخلافة” وقد أصبحت دولة التنظيم أثرًا بعد عين؛ حيث سقطت الموصل (يوليو/تموز 2017) ومن ثم الرقة (أكتوبر/تشرين الأول 2017)، وكانت المعركة التي سجلت نهاية دولة التنظيم في بلدة الباغوز (شرق سوريا) في مارس/آذار 2019، ووضعت حدًّا لسيطرته على الأرض، لتعلن واشنطن انتهاء الحرب الدولية على التنظيم، واستطاعت اغتيال أبو بكر البغدادي (إبراهيم عواد إبراهيم علي البدري السامرائي) (أكتوبر/تشرين الأول 2019)، معلن الخلافة (يونيو/حزيران 2014)، لتموت بموته من الناحية الفعلية. وبعد أن هُزم التنظيم لم يعد متاحًا أمامه إلا العودة إلى ما كان عليه من تكتيكات وأساليب تنتمي لمرحلة ما قبل إعلانه “خلافته” وسيادته الفعلية على أرضه، أي العودة لحرب العصابات والميليشيات بتنظيم لا مركزي، إضافة إلى العمليات الأمنية حيث أتيحت له الفرصة، كما كان يفعل تنظيم القاعدة، لأنه في الأصل متناسل من هذا الأخير أو نسخة متطورة عنه.

وكانت عملية “سجن الصناعة” (يناير/كانون الثاني 2022) بحي غويران في الحسكة شمال شرق سوريا، من أكثر العمليات جرأة للتنظيم وآخرها منذ تولي أبو إبراهيم قيادته، وكانت تهدف، بحسب مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، “لتنفيذ عملية هروب كبيرة من السجن لإعادة تشكيل صفوفه”، لاسيما وأنه كان يُحتجز فيه ما يقرب من 5 آلاف سجين، بين عناصر وقادة من تنظيم الدولة معظمهم من جنسيات عربية وأجنبية، وقد قُتل في الهجوم العشرات من قوات الأمن الكردية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومن “حراس السجون”، إضافة إلى سجناء. وقُتل للتنظيم بالمقابل حوالي 268 شخصًا بحسب بعض الإحصائيات. وهذه العملية بقدر ما تشير إلى استمرار قدرة التنظيم على تنظيم هجمات كبرى، فإنها تدل أيضًا على تراجع قوته، بسبب الخسارة التي مُني بها، وما أعقبها من مقتل زعيمه.

والجدير بالذكر أن “الخلافة الإسلامية” ومصطلح “الخليفة” الذي أطلقه تنظيم الدولة هو الثاني من نوعه الذي يحمل معنى “الولاية الدينية” خلال عشرين عامًا المنصرمة؛ إذ كانت حركة طالبان الأفغانية قد سبقت إلى ما يشبهه -مع ضرورة مراعاة الفرق الكبير بين التنظيمين- حيث أطلقت على زعيمها الملا عمر “أمير المؤمنين” وسمَّت دولتها “إمارة أفغانستان” وذلك بعد سيطرتها على كابل، عام 1996، التي ما لبثت أن سقطت عام 2001 في الحرب الدولية التي شنَّتها أميركا بعد تفجيرات نيويورك في 11 سبتمبر/أيلول 2001. وهي أيضًا الحرب التي سقطت في سياقها بغداد عام 2003 وفتحت الباب أمام التيارات الجهادية في العراق ومنها “تنظيم الدولة في العراق والشام” وما آل إليه شأنه مع “الخلافة”. ومن المفارقة أن يُقتل أبو إبراهيم “الخليفة الثاني” لتنظيم الدولة في الوقت الذي تستعيد فيه طالبان “إمارتها” (أغسطس/آب 2021) ولو بشروط مختلفة. وقد كان تنظيم الدولة يطالب الأخيرة بمبايعة “خليفته البغدادي” لأسباب عدة، منها وأهمها، أن دولته قائمة بالفعل، كما كانت آنذاك، بخلاف “إمارة” كابل التي سقطت لتعود طالبان تنظيمًا عسكريًّا “جهاديًّا” بأحسن الأحوال. وهو ما رفضته طالبان فأسست “خلافة البغدادي” فرعًا لها “ولاية خراسان” (يناير/كانون الثاني 2015)، ووقعت بين الطرفين مواجهات لا تزال مستمرة حتى الآن.

ورغم سقوط دولة التنظيم فإنه إضافة إلى فرعه في أفغانستان، لا يزال يحتفظ بفروع أخرى من أوضحها وأهمها في إفريقيا: “الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى”، وهي تنشط بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، و”تنظيم الدولة الإسلامية في غرب إفريقيا” في نيجيريا ويمتد نشاطه إلى تشاد والكاميرون، وهناك أيضًا “ولاية وسط إفريقيا” في موزمبيق، وكل منها له ظروفه وسياقه الخاص، فضلًا عن تنافسها الحاد مع تنظيم القاعدة (يُنظر: الحركات الجهادية بإفريقيا: التمدد في ظل الصراع). أما صلتها بتنظيم الدولة من الناحية التنظيمية الفعلية راهنًا فواهنة جدًّا، بل حتى أثناء دولة “البغدادي” كانت الصلة الأكبر بين التنظيم وفروعه هي في الغالب -وإن لم تخل من أشياء أخرى- إعلان “الولاء” لتعزيز شرعية “خلافتة” وبالمقابل تعزز تلك التنظيمات من شرعيتها في بيئتها المحلية، وهذه العلاقة أصبحت في تراجع مع قيادة “أبو إبراهيم” لفقدانها الباعث الأساسي هذا، وستكون أضعف مع من يليه.

خلافة افتراضية

إن أعظم خسارة عانى منها التنظيم هي عندما فقد سيطرته على الأرض وزالت خلافته، فمنذ ذلك الحين وأيديولوجيته في تراجع حاد لأنها فقدت حقيقتها، كخلافة حقيقية بأرض وشعب، لذا فإن أولويته بعد مقتل أبو إبراهيم القرشي، “خليفته الثاني”، ستبقى هي المحافظة -ما استطاع- على أفضليته، بتعميق نسبته إلى “الخلافة”. بعبارة أوضح: إن أداء التنظيم سيبقى رهينة فكره الذي كان يتمحور حول “الخلافة” التي قامت بين سوريا والعراق، وشكَّلت الإضافة “الشرعية” الأكثر “جذبًا” له والتي استعملها لسحب الشرعية من تحت أقدام القاعدة وبقية التيارات الجهادية، فكان بها يضاهي ويبطل شرعية كل تنظيم سواه، لذلك كان من المهم له بعد سقوط دولته أن يستمر في “عملياته” وفق هذه الشرعية وكأن المعركة لم تنته وأن “دولة الخلافة” لا تزال تخوض معركتها لاستعادة “أرض الخلافة”. فالتنظيم وقادته مرغمون على تركيز وتكثيف عملهم في مساحة الخلافة السابقة (العراق وسوريا)، لأنها مركز شرعيته. وهذا المساحة تضيق على التنظيم إذ يواجَه من كل الأطراف المتصارعة في المنطقة، من أميركا وروسيا وتركيا وإيران والعراق والنظام السوري، وكذلك من القوى القريبة أو المتحالفة معها، وإن كان لكل منهم أجندته الخاصة، إضافة إلى الخصم اللدود “هيئة تحرير الشام” في إدلب، التي قد تسمح ظروفها -أي إدلب- كملاذ للاجئين وما تضمه من جمهور إسلامي، لأن يجد فيها التنظيم حاضنةً ما. ومن المفارقة أن فيها قُتل “خليفتهم” الأول، أي البغدادي، ومن ثم “خليفتهم” الثاني.

إن اعتماد واشنطن سياسة اغتيال القادة مع تنظيم الدولة سيؤثر فيه بالمبدأ كما في سواه، لأن اغتيالهم يوجب تسارع استبدالهم مع تراجع مستمر في الخبرات، ويصاحب ذلك بالعادة ظروف ضاغطة تجعل اختيارهم من قلَّة قليلة معزولة ما يعني احتمال النزاع على “الشرعية” مع كل اختيار وتراجع في الكفاءة. ويبدو أن هذه السياسة على الصعيد الأيديولوجي ستؤثر على تنظيم الدولة أكثر مما تفعل في القاعدة. فالأخيرة قامت على فكرة “الجهادية” أي القيام بواجب “الجهاد” مع “أمير قتال” ضد العدو وفي أغلب الحالات كان “العدو” هو أميركا حيث وُجدت. فالشرعية لدى القاعدة تتأتَّى من فكرة القتال نفسها وليس من القادة أنفسهم، وقامت بنيتها في الأصل لتكون سرية وأمنية ولا تريد السيطرة على الأرض لتعلن دولة أو خلافة؛ فاختباء قادتها أو تراجع ظهورهم جزء من فكرهم واستراتيجيتهم.

أما تنظيم الدولة، فإن توالي مقتل القادة سيزيد المسافة الزمنية التي تفصل “خليفة” بعد “خليفة” عن زمن التأسيس، أي “خلافة البغدادي” “الفعلية” (أرض وشعب وبيعة وجند… إلخ)، وسيفقد التنظيم مضمونه “الدولتي” مع الوقت، وسيصبح حالة جهادية مستأنفة تبحث عن شرعية جديدة لها، ولن تكون حينها الخلافة إلا “مظلة افتراضية” فكرية فحسب. فالتنظيم قام أول أمره على خلافة معلنة ببنية “دولة” مركز قوتها “الخليفة” بصورته التاريخية، وليس قائدًا أمنيًّا مختفيًا عن الأنظار. فهذه التحولات على هذا الصعيد ستزيد حتمًا من ضعف التنظيم، وقد بدأ هذا الأمر فعلًا مع اختيار أبو إبراهيم القرشي، الذي افتقر للكاريزما ولم يستطع أن يحقق أي إنجاز يمكن أن يتكئ عليه التنظيم لتجديد شرعيته أو ليستعيد بعضًا من “جاذبيته” التنظيمية. وكانت حاضرة أيضًا في الصورة التي قُتل بها؛ حيث استُهدف في ناحية معزولة كان يعيش فيها مع عائلته بهوية مزورة بعيدًا عن تنظيمه حتى إن هيئة تحرير الشام ركَّزت في بيانها الذي أصدرته لنفي أي تعاون لها مع الأميركيين أو صلتها بالحادث، على مقتل النساء (3) والأطفال (5) في العملية الأميركية، وذكرت أبو إبراهيم القرشي في السياق.

إن التنظيمات الجهادية لا تنتهي عادة بالتلاشي، فهي تستمر وإن فقدت تأثيرها أو تراجعت قوتها، وتنظيم الدولة مهما ضعف فإنه بسبب عنفه الشديد يبقى خطرًا أمنيًّا لاسيما أنه لا يزال قادرًا على النمو بتواضع مستفيدًا من المظالم في المنطقة، ولكن بهذا الاعتبار وضمن هذه الحدود. إلا أن انتشاره بشكل عام سيستمر في الانحسار لأن العزلة والسرية لا تتلاءم مع أيديولوجيا الخلافة، كما أنها تضعف علاقة التنظيم مع فروعه، ما قد يفتخ الباب أمام تناسل قوى أخرى. وهو الأمر نفسه الذي حصل مع تنظيم القاعدة بعد سقوط أفغانستان رغم مرونته النسبية، وتنظيم الدولة نفسه لم يولد على الأغلب إلا بسبب صعوبة التواصل بين قيادة القاعدة وفروعها.

.
رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M