حرب ماكرون – اردوغان : المصالح فوق الدين

بقلم : مصطفى عبدالكريم – المركز الديمقراطي العربي

 

من افضل المداخل التي من الممكن استخدامها في فهم التوجهات السياسية لدول العالم هو فهم السياسة الداخلية للبلد المعني، و هذه النظرية التي لم تولد منذ زمن بعيد تتأكد لنا في الكثير من المواضيع التي تثير الجدل في الوقت الحالي، فبالتأكيد من يتخذ المواقف الخارجية لكل دولة هو نفسه من يتخذها داخله و اهم ما يشغل كل سياسي في الديمقراطيات الحديثة هو ان يبقى في منصبه، و لكي يبقى في منصبه فعلى السياسي ان يرضي ناخبيه بالدرجة الاولى و هو الامر المرتبط مباشرة بالاعتبارت المحلية البحتة من سياسة و تعليم و غيره من الحاجات التي يطالب بتلبيتها المواطن. قمت بإيراد هذه المقدمة لاختبار صحة هذه النظرية مرة جديدة بالنظر الى الحرب الدائرة بين الرئيس الفرنسي ماكرون و قادة بعض الدول الاسلامية بعد خروج الرئيس الفرنسي الشاب ببعض التصريحات في الفترة الماضية. على رأس هؤلاء القادة يأتي بكل تأكيد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان و الذي وضع نفسه في منصب المتصدي للرئيس الفرنسي، و لكن بوضع هذا الصراع في قالب النظرية التي كنا نتحدث عنها نجد ان الصراع غني جداً بالتداعيات السياسية المحلية و العالمية و القليل جداً من الدين او الدفاع عنه كما قد يظهر من اول وهلة

هنالك العديد من الجوانب التي يمكننا بدء الحديث من خلالها الا ان الجانب الانسب هو متابعة فرص الرئيس الفرنسي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية و التي ستجرى في فبراير من العام بعد المقبل. في بلادنا العربية و الافريقية قد تكون فترة الـ13 شهراً المتبقية على الانتخابات الفرنسية طويلة جداً و قد يبدو من المبكر جداً الحديث عن الحملة الانتخابية في الوقت الحالي لكن بالحديث عن فرنسا بالذات فإن الحملة الانتخابية للولاية المقبلة لرئيس ما تبدأ اثناء الاحتفالات بالفوز بالولاية الاولى و بالتالي من الطبيعي جداً ان يكون ماكرون في حملة انتخابية يمكن اعتبارها دائمة.

و مع هذا التوقيت بالتحديد يبدأ ماكرون، او كما كان سيفعل غيره، في تسجيل المواقف التي سوف يسوقها على الناخب الفرنسي في الفترة المقبلة. ماكرون كان قد فاز في الانتخابات التي اجريت في عام 2017 و قد كانت الانتخابات التي شهدت اقل نسبة اقبال في اخر 40 سنة. فوزه ايضاً جاء على حساب قائدة اليمين الوطني، او المتطرف كما يفضل البعض تسميته، السيدة مارين لو بين و على الرغم من خسارتها الا انها كانت قد حصلت على 35% من اصوات الناخبين المشاركين في تلك الانتخابات او ما يعادل ما يقارب الـ11 مليون فرنسي، و هو الامر المقلق جداً بالنسبة للرئيس الحالي و ما يقلقه اكثر بكل تأكيد هو تزايد شعبية لو بين منذ عام 2017 و هو الامر الذي تدل عليه كل الاستفتاءات السياسية التي اجريت في الاعوام الثلاث الماضية و حتى الاستطلاعات الاخيرة تشير الى ان لو بين ستنتصر لا محالة على الاقل في الجولة الاولى من الانتخابات اذا ما افترضنا اجراء الانتخابات في هذه اللحظة و ان على ماكرون انتظار جولة الاعادة من اجل زيادة حظوظه في الفوز.

من الطبيعي جداً ان نجد ماكرون في محاولة لسرقة جزء من القاعدة الانتخابية للو بين في الشهور المقبلة، و نحن نعلم جيداً ان القاعدة الانتخابية للو بين تعتمد اعتماداً كبيراً على عدد من القضايا المهمة جداً و على رأسها ازمة المهاجرين و التي بنت عليها لو بين الكثير من حملاتها الانتخابية و قضية التطرف التي تشغل الساحة الفرنسية خاصة في الشهرين الاخيرين، و العامل المشترك بين القضيتين هو تواجد الاسلام و المسلمين في مركز الصراع، فأكثرية المهاجرون هم من المسلمين و العرب بينما كل الاعمال الارهابية التي تم تنفيذها على الاقل في الفترة السابقة جاءت عن طريق مسلمين او مهاجرين مسلمين متطرفين. و لهذا نجد  الرئيس الفرنسي يظهر بمظهر من هو مشغول بقضايا الناخب الفرنسي و بالتالي وجد الفرصة في اكتوبر الماضي للخروج بجملة اثارت حفيظة الكثيرين من قادة الدول المسلمة. (الاسلام دين في ازمة في كل مكان في العالم) هي كانت العبارة التي خرج بها ماكرون الا انه لم يتوقف على ذلك فقط بل ذهب الى الحديث عن المسلمين تحت قيادته في فرنسا و اتهمهم بالعيش في مجتمع موازٍ و غير مندمج و غير متماشي و معزول بشكل كبير عن قيم الجمهورية الفرنسية و ان الاقلية المتطرفة داخل المجتمع المسلم تحاول السيطرة تماماً على الاقلية المسلمة داخل فرنسا و بالتالي من واجبه كرئيس التفكير في عدد من القوانين التي من الممكن ان تزيد من فرص ذوبان المجتمع المسلم في المجتمع الفرنسي. المهم في هذه القوانين هو زيادة الرقابة على الجمعيات الاسلامية المتواجدة داخل فرنسا و هي التي تستقبل الكثير من الدعم من خارج فرنسا و ايضاً زيادة الرقابة على ما يقوله ائمة المساجد في فرنسا، خاصة تشديده على نقطة ان معظم ائمة المساجد في فرنسا يأتون من خارجها بالاضافة الى تشديد الرقابة على بعض المدارس غير الحكومية التي تهتم بطريقة خاصة بالجاليات المسلمة المتواجدة هناك، هذا الحديث اثار قلق بعض الجمعيات و بالتالي الدول التي تدعمها من اجل التغلغل في الاتحاد الاوروبي و في فرنسا بالتحديد.

السؤال الان، هل يعني حديث الرئيس الفرنسي هذا انه متعصب لدين ما او انه معادٍ للإسلام؟ الاجابة، في نظري، ببساطة لا. ففرنسا ليست بالمكان الذي من الممكن ان يمارس فيه التعصب الديني بأي معيار من المعايير، بل ارى ان الحرية التي يجدها المسلمون في ممارسة امورهم الدينية في فرنسا قد لا يجدوها في العديد من الدول الغربية الاخرى و بالتالي لا يمكن اعتبار فرنسا مكان يضطهد فيه الاسلام او المسلمين. بالتأكيد هي ليست جنة الله على الارض، الا ان الدولة الفرنسية تعامل كل الديانات بطريقة متساوية الى درجة بعيدة. لذا فإن حديث الرئيس الفرنسي ليس الا عبارة عن زخم انتخابي من اجل الحصول على اصوات من الممكن ان تذهب في مصلحة خصمه اليميني لو بين. و ما يقودنا لذلك هو حديثه، لمن تابعه بالكامل، فهو اراد بالتأكيد جذب جزء كبير من اليمين القومي الفرنسي الى جانبه بالحديث عن ازمة الاسلام و انعزاله داخل المجتمع الفرنسي و هي الجمل التي تعد موسيقى بالنسبة للناخب اليميني الفرنسي و في نفس الوقت لم يرد ماكرون اغضاب جالياته المسلمة و التي لها ايضاً دور في الانتخابات بدعمها لتوجهاته اليسارية بالحديث عن ان هذه العزلة لم يكن السبب فيها الاسلام و المسلمين فقط بل ان الجميع في فرنسا ساهم بشكل او بآخر في تواجد الاسلام بالصورة الحالية بالحديث عن ان الجمهورية الفرنسية خذلت بنسب كبيرة الشباب المسلم و بهذا الخذلان و التخلي ساهم في نجاح التطرف و الارهاب في التسلل الى قلوب هؤلاء الشباب.

و لسوء حظ الرئيس الفرنسي، ففرنسا في نفس الشهر تعرضت لأكثر من ثلاث هجمات ارهابية من شباب مسلمين متطرفين، و الامر لم يحدث بسبب ما قاله الرئيس الفرنسي و لكن بسبب ما قامت به مجلة شارلي ايبدو الساخرة التي قامت بنشر بعض الرسوم التي تسخر من المسلمين و اعادة نشرها مرة اخرى في سبتمبر الماضي.

لمن لا يعرف شارلي ايبدو، فهي مجلة ساخرة صغيرة نالت شهرتها من بعض مواقفها و موادها الاستفزازية ليس في حق الاسلام فقط و انما اعتبرها من المجلات المتطرفة ضد الديانات عموماً، فهي دائمة الاستفزاز لليهود و المسيحيين ايضاً، الا ان ما يحميها هو القانون الفرنسي الذي يسمح بكل ما تقوم به المجلة، بل و يحميها تحت راية حرية التعبير. و قد دأبت المجلة على نشر هذه الرسوم ضد الاسلام لفترات ثابتة تقريباً الى ان حدث الهجوم عليها في عام 2015 عندما تم قتل 12 صحفياً كانوا يعملون في المجلة و كان منفذي الهجوم ايضاً من الشباب المسلمين المتطرفين. شارلي ايبدو قامت بنشر الرسوم مجدداً في سبتمبر بعد ان خرج القرار بأن القضاء الفرنسي ما زال ينظر في قضية ما حدث في عام 2015 في وقت يطالب فيه الكثيرين القضاء بإتخاذ مواقف اكثر جدية باعتبار ان الامر لا يحتاج الى الكثير من التحقيق و التمعن لوضوح جريمة الارهاب المرتكبة في حق المجلة هذا بالاضافة الى الاعتبارات التجارية للمجلة التي اصبحت من الاكثر مبيعاً بعد حادثة 2015.

ماكرون بالمقابل وجد نفسه مضطراً للوقوف في صف شارلي ايبدو باعتبار انها تعمل وقفاً للقانون الفرنسي الذي يحمي حرية التعبير و التي يعتبرها البعض القيمة الاولى من قيم الجمهورية الفرنسية، هذا فضلاً عن ارضاء اليمين القومي حتى لا يظهر الرئيس اليساري بمظهر الضعيف كما ردد الكثيرون في فترات اخرى.

انا متأكد تماماً ان الرئيس الفرنسي لو سئل في قرارة نفسه عن شارلي ايبدو لتمنى عدم وجودها من الاساس، فهي مصدر دائم للتوتر مع قادة كل الديانات في فرنسا، الا ان انسياق المجلة داخل قضبان القانون الفرنسي يمنع الرئيس منعاً باتاً من ابداء اي رأي مخالف لها. بعض اصدقائي من العرب و المسلمين في بعض الاحيان يتعاطفون مع شارلي ايبدو باعتبار حرية التعبير و ما الى ذلك، الا ان رؤية الرسوم و العناوين التي تخرج بها المجلة من الممكن ان تغير آراء الكثيرين من هؤلاء خاصة اذا ما حدث ذلك مع كل صدور للمجلة، فأجدها في الكثير من الاحيان مستفزة اذا ما كان القارئ متديناً ام غير متدين و لا اعتقد ان للأمر علاقة بحرية التعبير بأي درجة و في تقديري المتواضع فإن استفزاز المجلة للعلمانية لا يقل بأي درجة عن اساءتها لأي ديانة اخرى.

ما قاله الرئيس الفرنسي في النهاية لم يرض لا اليمين القومي و لا اليسار، و هذا لا يعنينا كثير، ما يعنينا هو ان بعض القادة حول العالم ارادوا انتهاز هذه الفرصة لتصفية حسابات قديمة مع فرنسا و ايضاً لدعم شعبيتهم الداخلية، و على رأس هؤلاء جاء الرئيس التركي رجب طيب اردوغان و الذي يعاني من تراجع في شعبيته داخل تركيا منذ سنوات، و الامر لا يحتاج الى دليل، فخسارة حزبه في الانتخابات البلدية في منتصف العام الماضي، و خسارة الحزب لبلديات كبيرة مثل انقرة و اسطنبول التي سيطر عليها حزب العدالة و التنمية الذي يقوده اردوغان منذ عام 1994 و بالتالي فمن حق الرئيس التركي ان يقلق الذي يتخوف من خسارة انتخابات 2023 هذا بالاضافة الى الازمة الاقتصادية المعتبرة التي تضرب تركيا منذ العام الماضي و ما لا يساعده على ذلك هو وجود تركيا في حالة خصومة مع كل حلفائه في اوروبا و حلف الناتو. افضل ما يمكن ان يعزز به اردوغان شعبيته و هو الرئيس المعتمد على الاسلاميين في كل اركان دولته هو العزف على وتر الدفاع عن الدين و لم يكن حديث ماكرون سوى فرصة ذهبية كان عليه اغتنامها و بالتالي لم يدخر اردوغان وقتاً او جهداً في وصف ماكرون بالمختل عقلياً و ان مسلمو فرنسا يعاملون بنفس الطريق التي عومل بها اليهود قبل الحرب العالمية الثانية.

الرئيس التركي، في نظري، اتخذ هذه المواقف لحسابات سياسية بحتة لا علاقة لها بالدين تماماً. و قد يسألني البعض و لم لا يغار اردوغان على دينه فقط؟ الاجابة ببساطة لأن الرجل يتعامل مع الامور بطريقة سياسية و لم يتخذ موقفاً مشابهاً في اوقات سابقة كانت اكثر اضراراً بالمسلمين مما قاله الرئيس الفرنسي، و المثال على ذلك تعامل الصين مع المسلمين في اقليم تشينجيانغ و هو الامر الذي يعتبره كل حلفاء تركيا في حلف الناتو اضطهاداً في حق المسلمين، بل و ان الرئيس اردوغان الذي ردد في عدة مناسبات سابقة ان ما يحدث في اقليم تشينجيانغ هو ابادة جماعية. الا ان عام 2016 حمل لنا تغير الموقف التركي تجاه هذه القضية، بعدما وثق اردوغان علاقته بالصين التي دعمته بشكل كبير بعد محاولة انقلاب فاشلة الامر الذي تزامن مع تراجع كبير لليرة التركية بالاضافة الى ازمات اقتصادية متعددة الامر الذي جعل الرئيس التركي مديناً للصين بالكثير، و يتضح لنا ذلك في عملية تسليم مطلوبي مسلمي الايغور للصين بعد ان اقاموا لعدة اعوام على الاراضي التركية، تحدث في الكثير من المناسبات بعد ذلك عن ان هنالك من يريد الاتجار بقضية مسلمي الصين و ان على الجميع الجلوس من اجل ايجاد حل دبلوماسي، من الممكن ايجاد الكثير من التسميات لتغير موقف الرئيس التركي تجاه الصين الا ان الاكيد هو انقلاب موقفه ممن يصف الصين بمرتكبة

جريمة الابادة الى دولة صديقة من الممكن الجلوس معها لإيجاد حلول دبلوماسية.

ما نستنتجه من كل ما حدث مع الرئيس التركي و الرئيس الفرنسي هو ان المصالح هي التي تحرك كل شيئ و ليست المبادئ، و المصالح، في رأيي، لا تحرك الكثير في الغالب الاعم، الا ان ارتباطها بالدين يجعلها في الكثير من الاحيان عرضة للأخذ من الجميع و هو الامر الذي من الممكن ان يأتي بالمزيد من التوتر بسبب سيطرتها على عقول البعض و النتيجة لذلك في بعض الاحيان، عمليات ارهابية في فرنسا و ايضاً في الدول الاسلامية في الوقت الذي لا يتصل فيه حديث القادة الى الدين بأي شكل مباشر و حتى غير مباشر.

 

رابط المصدر:

https://democraticac.de/?p=71604

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M