حسابات دقيقة: الجزائر والحرب الروسية الأوكرانية

يُمثل الموقف الجزائري من الأزمة الروسية الأوكرانية نقطة تموضع جديدة لخريطة التفاعل الخارجي لها، ما بين روسيا الحليف الاستراتيجي للجزائر خاصة على المستوى العسكري، وما بين دول الاتحاد الأوروبي المساحة الاقتصادية الحيوية للجزائر، ولعل تلك الأزمة بمثابة اختبار للدبلوماسية الجزائرية ما بين الحليف التقليدي لها وما بين ضروريات الانفتاح وتعدد الأحلاف الخارجيين.

وباتت هناك مكاسب سياسية واقتصادية تظهر من طبيعة الموقع الجيوسياسي للجزائر، خاصة في خضم معادلة الطاقة العالمية التي تأثرت بصورة كبيرة نتيجة لتلك الأزمة، فضلًا عن العوائد الاقتصادية المحتملة الناتجة عن ارتفاع أسعار الطاقة وما لها من مكاسب مالية للجزائر.

موقف حذر وتداعيات حرجة

لقد اتخذت الجزائر موقفًا يمكن توصيفه بالحيادي والحذر، وبرز ذلك في ضوء تفاعلها أثناء انعقاد جلسات الأمم المتحدة لاستصدار قرار إدانة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتجلى ذلك في امتناعها عن التصويت في جلسة الجمعية العامة المنعقدة في الثاني من مارس 2022، مع التأكيد على المبادئ والمقاصد الخاصة بميثاق الأمم المتحدة في إطار من الشرعية الدولية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وذلك وفقًا لما ذكره ممثل الجزائر داخل الأمم المتحدة، وهو نهج ربما يكون تراجعًا عن الخط المستمر لها في إطار الحالات المشابهة من رفض العدوان واستخدام القوة لحل النزاعات.

واتصالًا بذلك، فقد صدرت عن وزارة الخارجية الجزائرية بيانات ثلاثة حول تلك الأزمة تركزت بصورة رئيسية حول أوضاع الجالية الجزائرية في أوكرانيا في إطار تدهور الحالة الأمنية، وكذلك في ضوء المساعي الأوكرانية لتجنيد الجالية الجزائرية في خضم تلك الحرب رغبة من كييف في تدويل القضية وحشد المجتمع الدولي ضد روسيا وتحويلها إلى قضية إنسانية، والأمر الثاني هو مساعي أوكرانيا والغرب لضرب العلاقات المتجذرة بين الجزائر وروسيا وتفكيك هذا التحالف التقليدي، وهو الأمر الذي اعترضت عليه الجزائر وطالبت بسحب المنشور على موقع السفارة الأوكرانية.

ونتيجة للمصالح التي تربط بين أطراف الصراع وشمال إفريقيا، خاصة على مستوى الأمن الغذائي، حيث إن أوكرانيا تُعد أحد أهم مصدري الحبوب والزيوت واللحوم للدول في شمال إفريقيا عبر البحر الأسود، في حين تأتي روسيا لتُشكل المزود الرئيسي من القمح للجزائر وبعدها أوكرانيا، فالجزائر من أهم مستوردي القمح في المنطقة، إذ تصنف الخامسة عالميًا في هذا المجال بمتوسط قدره 7.2 ملايين طن، وتعتبر فرنسا المورد، فإن هذا الأمر سيصيب الجزائر بإرباك على مستوى السلع الاستراتيجية، وهو ما سيدفعها لانتهاج سياسات تعزيزية إما برفع الدعم عن السلع الاستراتيجية أو عبر ضخ مزيد من الإنفاق المالي بها لمعالجة الخلل الناجم عن وقف عمليات الاستيراد من القمح وغيرها، وفي كلا الحالتين سوف تُمثل ضغطًا مضاعفًا على الوضع الاجتماعي والاقتصادي بها، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على الاستقرار الداخلي خاصة في ظل الوضعية الصعبة للاقتصاد الجزائري.

أبعاد وأهداف متكاملة

إن المتأمل لوضعية الصراع الروسي الأوكراني والأبعاد المختلفة الخاصة بذلك الصراع يجد أن هناك فرصًا ومكاسب يمكن أن تحققها الجزائر في حال اتباعها نمطًا متوازنًا في إطار معادلة الصراع، وهنا يمكن الإشارة لعدد من الملفات الحيوية كالتالي:

  • الغاز الورقة الرابحة: يُعد ملف الغاز من بين الملفات الحرجة في خضم تأزم المشهد الروسي الأوكراني، خاصة في ضوء الاعتماد الكبير من الدول الأوروبية على الغاز الروسي، وفي أعقاب توقف العمل في خط أنابيب “نورد ستريم 2” وحظر استيراد النفط الروسي في إطار حزمة العقوبات التي فرضت على روسيا في التاسع من مارس 2022، الأمر الذي يفتح المجال للبحث عن بدائل سوقية لمصادر الطاقة. ونظرًا للأبعاد الجغرافية بين دول الاتحاد الأوروبي وبصورة خاصة كلٍ من فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا من دول الشمال الإفريقي، بات هناك توجه لتعويض نقص إمدادات الغاز إلي تلك الدول بالتوجه للتعاون مع الجزائر التي تُعد المورد الرئيسي للغاز إلى إيطاليا وإسبانيا، وأكبر مصدر للطاقة للاتحاد الأوروبي بعد روسيا والنرويج، وبرز ذلك التوجه من خلال زيارة وزير الخارجية الإيطالي “لويجي دي مايو” في الثامن والعشرين من فبراير للجزائر لإجراء محادثات حول زيادة إمدادات الغاز لتعويض النقص المحتمل من الإمدادات الروسية وذلك عبر خط أنابيب “ترانزميد” الرابط بين الجزائر وإيطاليا والذي ينقل نحو 22 مليار متر مكعب من الغاز كحد أقصى، مما يجعل الجزائر واحدة من بين مرتكزات الطاقة العالمية.

ونتيجة للاضطراب العالمي في أسواق الغاز والنفط وللبحث حول بدائل لمعالجة ذلك الخلل على الداخل الأوروبي، جاءت زيارة نائبة وزير الخارجية الأمريكي “ويندي شيرمان” في التاسع من مارس 2022 ولقاء الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لتناول ذلك الملف الحيوي، ومن المرجح أن تتم صفقة استراتيجية بين مزيد من الانفتاح الجزائري الأوروبي خاصة في إطار معادلة الغاز في مقابل إعادة نظر إدارة “جو بايدن” لمسار الاعتراف الأمريكي بسيادة المملكة المغربية على الصحراء الغربية.

  • الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي: إن الحرب الروسية الأوكرانية والموقف المتزن الذي تنتهجه الجزائر بين طرفي الأزمة يُحقق لها مصالح متنوعة ومكاسب متعددة الأبعاد، فمن ناحية تعزيز النشاط الدبلوماسي الجزائري في المنظومة الدولية وفي المشهد الأوروبي على وجه التحديد، ومكاسب استراتيجية تتجلى في ضمان الموقف الأوروبي الداعم لمطالب التوجه الجزائري حول ملف قضية الصحراء الغربية، علاوة على المكاسب الاقتصادية من عائدات تصدير الغاز بما يساعد في معالجة الأوضاع المتردية داخليًا، وتُعزز تلك الخطوة من مجالات الاستثمارات الأجنبية الداعمة للتنقيب عن الغاز الجزائري، خاصة وأن شركة سوناطراك الجزائرية بصدد استثمار 40 مليار دولار في مشاريع التنقيب عن النفط والغاز، وهي متطلبات حيوية لتحسين الأوضاع الاقتصادية داخليًا. وإلى جانب الاستثمارات في قطاع الطاقة، تشهد العلاقات التجارية الجزائرية الأوروبية تطورًا كبيرًا خلال الفترة الأخيرة التي تحقق خلالها حجم مبادلات تجارية إجمالية بين الجزائر والدول الأوروبية بحوالي 58.14% خلال عام 2019، وقد بلغت صادرات الجزائر للدول الأوروبية خلال ذلك العام بنحو 22.81 مليار دولار، فيما استوردت منها بما قيمته 22.39 مليار دولار، حيث تُمثل الصادرات إلى أوروبا 62.54٪ من جملة الصادرات الجزائرية.

ومن ناحية أخرى، العمل على استمرارية العلاقة الاستراتيجية الروسية الجزائرية التي تتركز بصورة أساسية على البعد العسكري، خاصة وأن الجزائر على طول تاريخها تواجه موجات متباينة من الإرهاب على شريطها الحدودي بمنطقة الساحل والصحراء، علاوة على كون البيئة الإفريقية مليئة بالاضطرابات والصراعات المسلحة، بما يتطلب تحديث الترسانة العسكرية بصورة دورية، وضمان الحصول على صفقات الأسلحة المختلفة. ويتجلى الاعتماد الأكبر للجزائر في هذا الشأن عبر البوابة الروسية، حيث تُعد الجزائر الدولة الأولى إفريقيًا من حيث استيراد السلاح الروسي الذي يُمثل نحو 69% من جملة السلاح الجزائري، كما شهدت الدولتان تدريبًا عسكريًا مشتركًا نهاية عام 2021 في إطار من التفاعل وتبادل الخبرات المشتركة، وهذا الأمر من بين المتطلبات العاجلة للجزائر، خاصة في ضوء معادلة موازين القوى في المنطقة المغاربية في ضوء النهج المستجد للرباط في تطوير ترسانتها العسكرية وتوجهها لبناء قواعد عسكرية، فضلًا عن تزايد المواجهات المسلحة بين المغرب وجبهة البوليساريو ميدانيًا والذي برز في شهر فبراير 2022 عبر استهداف متطلبات الأمن وضمان جاهزية المؤسسة العسكرية، إلى جانب ضمان استمرارية الموقف الروسي الداعم للتوجه الجزائري حيال ملف الصحراء الغربية.

كما أن العلاقات الروسية الجزائرية تجاوزت القالب الواحد (البعد العسكري) لتنخرط بصورة كبيرة في التعاون في قطاع الطاقة، وفي هذا الشأن فقد تم الاتفاق في سبتمبر 2021 بين شركة “سوناطراك” الجزائرية وشركة “غاز بروم” الروسية للعمل في مجال إنتاج ونقل الغاز، وذلك عبر تطوير بعض حقول الغاز، وهو ما يزيد الأمر تعقيدًا بين التجاوب مع التطلعات الأوروبية لسد احتياجاتها مع الغاز من الجزائر وما بين الحفاظ على الشراكة الاستراتيجية الروسية.

  • الأمن الغذائي: إن أحد أبعاد تأثير الأزمة الأوكرانية الروسية يتمثل في بعد الأمن الغذائي، خاصة في ضوء الاعتماد الجزائري على استيراد القمح من جانب روسيا وأوكرانيا باعتبارهما سلة غذاء العالم وأكبر مصدري القمح عالميًا، وتزايد الموقف تأزمًا في ضوء إعلان وزير السياسات الزراعية والغذائية الأوكرانية “رومان ليشينكو” بحظر التصدير للقمح وعدد من المواد الغذائية في مطلع مارس 2022، وهو أحد أبرز ملفات التأثير على الجزائر، خاصة في ضوء معادلة الاقتصاد الجزائري الحرجة ومساعيها لمعالجة الأوضاع المتردية داخليًا.

وفي التقدير؛ فإن الجزائر تتخذ موقفًا متزنًا من الأزمة الروسية الأوكرانية حيث تحرص على المواصلة في علاقتها الاستراتيجية الخاصة بروسيا دون أن يؤثر على المصالح الاقتصادية والدبلوماسية مع الدول الأوروبية، وهو ما برز في تأكيد الجزائر على أنها ستبقى مصدرًا موثوقًا للطاقة في وقت الأزمات لأوروبا، وما بين امتناعها عن التصويت بشأن مشروع القرار الأممي لإدانة الحرب الروسية بأوكرانيا. ولعل الوضعية الحالية تُمثل هامشًا ديناميكيًا للتحرك في إطار خلق توازن وتفاعل دولي يُعيد هندسة العلاقات الجزائرية الغربية، من خلال الاستثمار في الحالة الدولية الحالية، وتظل المعادلة الصعبة في قدرة الجزائر على الحفاظ على خط التوازن بين علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا والرهان الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي لمعالجة الأزمة الاقتصادية المركبة داخل الجزائر.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19080/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M