حسابات ما بعد الحرب.. هل تدخل إسرائيل فترة انتقالية؟

يواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي “بنيامين نتنياهو” مأزقًا سياسيًا غير مسبوق يُضاف إلى التحدي المتمثل في مشروع الإصلاح القضائي والتظاهرات الشعبية الرافضة للمشروع، انعكس هذا المأزق في استطلاعات الرأي غير المرحّبة بالحكومة وبشخص نتنياهو، والتي تطالبه بالاستقالة وترك الساحة السياسية للأبد.

لا يمكن استبعاد انصراف مأزق نتنياهو إلى تيار اليمين المتطرف في إسرائيل برمته، أي يمكن أن يتعرض اليمين الإسرائيلي في مرحلة متقدمة للانهيار السياسي، وذلك لعدة أسباب، هي:

(1) سأم المستوطنين من معضلة الأمن: إذ لا يشعر المستوطنون في الشمال (من جهة سوريا ولبنان) وفي الجنوب (غلاف غزة) وفي الوسط (الضفة الغربية)، بالأمن والأمان اللازمين لاستكمال المعيشة والسكن والعمل وحرية الحركة. كما يفتقر قادتهم السياسيون للخبرة العسكرية اللازمة في الحروب والعمليات الأمنية العسكرية لتوفير الردع ومن ثم الاستقرار الأمني.

(2) ملف تجنيد الحريديم: امتثل نتنياهو لضغط القيادات العسكرية في الجيش الإسرائيلي بضرورة حل مسألة تجنيد الحريديم، ويبدو أن الحرب الأخيرة ستمهد لإطالة مدة الخدمة العسكرية الإلزامية، وستعيد مرة أخرى ملف تجنيد الحريديم بشكل أكثر حسمًا هذه المرة. يرفض هذا القطاع المهم في المجتمع الإسرائيلي الخدمة العسكرية للتفرغ لتعلم التوراة والشريعة، كما يرفضون العمل أيضًا، ولا يجدون في قادتهم السياسيين الرؤية الحاسمة اللازمة لحل المسألة لصالحهم.

(3) مسألة الصعود إلى القدس: يحتاج المستوطنون القوميون والدينيون ضلعًا مهمًا لاكتمال عقيدتهم التوراتية والقومية وهي تنظيم مسيرات صعود إلى المقدسات في القدس الشرقية. مثلت هذه المسيرات مشكلة أمنية وسياسية قوية لدى إسرائيل، مما دفع الحكومة الإسرائيلية في بعض الأحيان إلى إلغاء بعض الأعياد في القدس، أو تقييد مسيرات المستوطنين مما رفع نسبة الاستياء لديهم.

(4) ملفّ المستوطنات: يحتاج المستوطنون إلى مشاريع بناء مكثفة لوحدات استيطانية في الضفة الغربية، وبالتحديد في منطقتي القدس الشرقية (مشروع إي وان) ومنطقة الخليل في جنوب الضفة؛ بغرض زيادة ديموغرافيتهم في الضفة على حساب الفلسطينيين. يواجه الملف تقييدًا ماليًا وسياسيًا غير مسبوق (رغم تكثيف بناء الوحدات بالفعل) بسبب: (أ) تضارب المصالح بين الوزارات المعنية مثل وزارتي الإسكان ووزارة تطوير النقب والجليل. (ب) ذهاب كثير من المخصصات إلى تطوير البنية التحتية في مجال السكة الحديد والطرق والطاقة لخدمة مشروعات إقليمية. (ج) الضغط الخارجي على إسرائيل بمنع بناء وحدات استيطانية جديدة لعدم شرعيتها وقانونيتها.

تسبّبت كل هذه العوامل في توليد شعور بالاستياء لدى المستوطنين تجاه حكومتهم الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل. وتولّد لديهم اتجاه سياسي باحتمالية ذهاب أصواتهم إلى أحزاب أخرى محسوبة على تيار الوسط اليميني (مثل حزب معسكر الدولة الذي يتزعمه بيني جانتس).

من ناحية أخرى، يبدو أن الولايات المتحدة لا ترغب في استمرار نتنياهو على رأس حكومة غير وطنية لا تعبر عن مجموع اتجاهات المجتمع الإسرائيلي، لذلك قد تسعى لتقديم الدعم إلى أحزاب تتبنى مقاربة تشكيل حكومة ائتلافية وطنية تعبر عن جميع الإسرائيليين.

يفوز “بيني جانتس” بالحظوظ الأوفر على الإطلاق في هذا النحو المشار إليه، أي تشكيل حكومة وطنية؛ لخبرته العسكرية والسياسية واختلاطه بالأوساط العسكرية الغربية (الأوروبية والأمريكية)، لذلك فليس من المستبعد أن يكون رئيس وزراء إسرائيل القادم.

ولكن يشترط وجود عدة محددات رئيسية، وهي:

(1) عودة نفتالي بينيت إلى السياسة مرة أخرى.

(2) إجراء انتخابات تمهيدية في حزب الليكود يكون الفائز فيها “يسرائيل كاتس” وليس “نتنياهو”.

(3) موافقة يائير لابيد على أن يكون رئيس حكومة مناوبًا بعد جانتس.

(4) تعزيز قدرة السلطة الفلسطينية ماليًا وسياسيًا في الضفة الغربية وقطاع غزة.

(5) تكثيف العمل الشرطي والعسكري في الضفة الغربية أمام الهجمات الإرهابية للمستوطنين.

(6) ضرورة تنظيم العلاقات المدنية العسكرية وملف دمج الحريديم بشكل توافقي يُرضي جميع الأطراف.

يُمكن تخيل التشكيل الحكومي الإسرائيلي مستقبلًا على النحو التالي: حزب معسكر الدولة (بيني جانتس)، حزب هناك مستقبل (يائير لابيد)، حزب اليمين الجديد (نفتالي بينيت، ولكن يشترط عودته إلى السياسة)، حزب يسرائيل بيتينو (أفيجدور ليبرمان)، حزب الليكود (يسرائيل كاتس)، وبعض الأحزاب الدينية مثل شاس ويهودات هاتوراه.

تحتاج إسرائيل إلى فترة انتقالية طويلة حتى تستطيع تنظيم العلاقات المدنية العسكرية، وتنظيم دمج الحريديم في الدولة على المستويين المهني والعسكري، أي توظيف الحريديم في العمل الحكومي والخاص وتجنيدهم عسكريًا.

أما بشأن العلاقات المدنية العسكرية في إسرائيل فيواجه الجيش الإسرائيلي أزمة ثقة شعبية كبيرة بين صفوف الإسرائيليين نتيجة الفشل الاستراتيجي الواقع في حرب 7 أكتوبر 2023، إذ بدأ يتسلل للإسرائيليين شعور مفاده السؤال حول مدى جاهزية الجيش الإسرائيلي ونجاعة التكنولوجيا العسكرية التي يعتمد عليها كليًا في حماية الأمن القومي لإسرائيل. تمثلت بعض الظواهر السلبية في العلاقات المدنية العسكرية وهجرة الأدمغة النابغة إلى الخارج، إذ يفضل مهندسو الذكاء الاصطناعي الهجرة إلى أوروبا والولايات المتحدة على حساب العمل في إسرائيل أو لحساب الجيش الإسرائيلي الذي لا يوفر الحد الأدنى من الرواتب المقدمة في القطاع الخاص الإسرائيلي، على سبيل المثال (120 ألف شيكل شهريًا في الجيش، في مقابل 300 ألف في القطاع الخاص).

كما يدخل في العلاقات المدنية العسكرية الإسرائيلية مستوى التدخل الحكومي في عمل الجيش الإسرائيلي، وتنظيم مخصصاته وزيادتها من أجل التطوير، إذ يُلاحظ أن الجيش الإسرائيلي لم يقدر على توفير المخصصات المالية اللازمة لتنظيم تدريبات عسكرية تتعلق بقوة الاحتياط الموضوعة حسب خطة “تنوفا: زخم” الخمسية التي بدأت في 2021 وتنتهي في 2026. كما لوحظ أن سياسات نتنياهو عملت على تركيز الجهد العسكري والتدريبي في مواجهة إيران على حساب الجبهة الجنوبية في قطاع غزة.

أما بشأن تنظيم دمج الحريديم في إسرائيل، فيبدو أن هناك خللًا سياسيًا عميقًا يواجه الحكومة الإسرائيلية بسبب رفض الحريديم للعمل وبالتحديد في القطاع الخاص في مجال الذكاء الصناعي والتكنولوجيا الفائقة، ويواجه ذلك المجال في إسرائيل تحديًا بارزًا في حجم القوى العاملة البشرية الآخذة في الانخفاض، كما يواجه تحديًا تعليميًا، إذ تفتقر مناهج التعليم لدى الحريديم وبعض القطاعات المجتمعية الأخرى للتعلم اللازم لمجال الذكاء الصناعي والتكنولوجيا الفائقة. كما يبدو أن الحريديم يرفضون رفضًا قاطعًا الالتحاق بالخدمة العسكرية، وهو ما يعرض مفهوم “جيش الشعب” لخطر كبير، لا سيما وأنه لم يعد يضم كافة قطاعات المجتمع الإسرائيلي.

ختاما، يمكن القول إن مستقبل العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية يدخل ضمن حسابات مساراته المحتملة طبيعة النظام السياسي في إسرائيل، والتي يجب أن تكون توافقية تشمل جميع المجتمع الإسرائيلي وليس التيار اليميني الجامح فقط، وأن تكون وفق القيم الديمقراطية الأمريكية.

المصدر : https://ecss.com.eg/38293/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M