وسط مزاج عام متعكر من الديمقراطيين والجمهوريين، ألقى الرئيس الأمريكي جو بايدن خطابه الثاني عن حالة الاتحاد منذ توليه منصبه في 2021، والأول أمام الكونجرس المنقسم سياسيًا، حيث يسيطر الجمهوريون على مجلس النواب بعد انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر 2022، في حين لا يزال الديمقراطيون يسيطرون على مجلس الشيوخ.
خطاب بايدن الذي استمر 72 دقيقة، وتابعه حوالي 27 مليون مواطن أمريكي، جاء في مرحلة محورية من رئاسته، وسط تكهنات بإعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية 2024 خلال الأسابيع المقبلة، على الرغم من استطلاعات الرأي التي أظهرت أن معظم الأمريكيين لا يزالون متشائمين بشأن الطريقة التي تسير بها الأمور في الولايات المتحدة، إذ قال 23% فقط إنهم راضون، بينما أبدى أكثر من ثلاثة أرباع المستطلعين عدم رضاهم عن أداء بايدن.
كان الخطاب مفعمًا بالحماس؛ إذ يرى بايدن أنه أنهى سنته الثانية في منصبه بأداء جيد مقارنة بعامه الأول، وانخفضت أسعار الغاز ونسب التضخم، ووصلت البطالة إلى أدنى مستوى لها منذ أكثر من نصف قرن، وانخفض متوسط الوفيات اليومية بفيروس كورونا بنحو 75%. ونجحت إدارته في إقرار قانون البنية التحتية من الحزبين بقيمة تريليون دولار بالإضافة إلى أكبر حزمة من التدابير المناخية في تاريخ الولايات المتحدة، وتمكن كذلك من إقرار إصلاحات مهمة في مجال الرعاية الصحية.
ملامح رئيسة
في خطاب حالة الاتحاد الذي تجنب إلى حد كبير القضايا الدولية، عزز الرئيس بايدن رسالته المحلية الشعبية، واتسم في بعض أجزائه بالرغبة في الاصطدام مع خصومه السياسيين. وكشف الخطاب عن ملامح رئيسة سيكون لها جل الأثر على الفترة المتبقية لبايدن في رئاسته ومستقبل ترشحه لانتخابات 2024، وتتمثل تلك الملامح في:
صُنع في أمريكا: اهتمام بايدن بالجانب المحلي في خطابه أعاد تأكيد رسالة شعبوية مفادها أنه سيرفع شعار “صُنع في أمريكا” كموضوع رئيس لحملته الرئاسية، وكمقترح وشعار مقابل للشعار الذي سبق أن رفعه سلفه دونالد ترامب “أمريكا أولاً”. فمع ارتفاع وتيرة التضخم، أشار بايدن إلى أنه سيتخذ أي خطوات حمائية ضرورية لإعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة، وإنقاذ الاقتصاد من الدخول في مرحلة ركود من خلال سن قوانين مثيرة للجدل بالنسبة لباقي دول العالم، وخاصة الحلفاء، مثل: رفع سعر الفائدة لتقوية الدولار وهو ما أضر بباقي العملات مثل اليورو والإسترليني إضافة إلى عملات أغلب الاقتصادات النامية، وقانون خفض التضخم الذي أثار اعتراضات عنيفة من جانب الحلفاء، فالقانون يهدف إلى تقليل اعتماد الولايات المتحدة على الموردين الأجانب، وذلك عبر تقديم حوافز مالية لإنشاء المصانع وإنتاج السلع في الولايات المتحدة، التي من بينها أشباه الموصلات والسيارات الكهربائية.
تطرق بايدن إلى قانون تصنيع الرقائق الإلكترونية الذي تم إقراراه من الحزبين، ويهدف إلى إعادة أمريكا لصنع ما يقرب من 40% من رقائق العالم الدقيقة كما كانت من قبل، بعد أن تراجعت خلال العقود القليلة الماضية إلى إنتاج 10% فقط، مؤكدًا أن هذا القانون سيخلق مئات الآلاف من الوظائف الجديدة في جميع أنحاء البلاد. وأشاد بايدن بقانون البنية التحتية الضخم الذي قدمته إدارته ونجح الكونجرس في تمريره، وقال إن الولايات المتحدة كانت البلد رقم 13 في العالم فيما يتعلق بقوة البنى التحتية، لكن هذا سيتغير بعد تمرير القانون.
محاولة كسب الجمهوريين: ليس لدى الجمهوريين حظوظ كبيرة لإيجاد أرضية مشتركة للتفاوض مع بايدن في الوقت الحالي، فقد وصفوا الإدارة الحالية بأنها أخذت البلاد في طريق خاطئ من خلال برامج الإنفاق الكبيرة التي رفعت نسب التضخم. فحاول بايدن التركيز على حالة الانقسام في الكونجرس منذ الانتخابات النصفية الأخيرة، وبدأ خطابه بتهنئة رئيس مجلس النواب الجمهوري الجديد كيفن مكارثي قائلًا إنه يتطلع إلى العمل معه. وحاول إثبات أن الحكومة الأمريكية الحالية تعمل على أكمل وجه، مستشهدًا بتشريعات خاصة بإعادة بناء الطرق والجسور، وأكد على أهمية الشراكة بين الحزبين، وقدرتهما على التعاون من أجل إنجاز تشريعات تخدم الأمريكيين من كل الأطياف السياسية.
إن دعوة بايدن إلى الوحدة بين الحزبين هي رسالة موجهة إلى الجمهور الأمريكي الذي يشاهد الخطاب؛ في محاولة لوضع الرئيس كزعيم مسؤول محاط بمعارضة مشاكسة. وانتقد بايدن تصرفات قال إنها لا تمثل الحزب الجمهوري ولكنها تمثل رأي أعضاء فيه، مشيرًا إلى أن بعض النواب الجمهوريين الذين لم يكشف عن أسمائهم طالبوا بتقليص ووقف برامج الرعاية الطبية والضمان الاجتماعي.
وفي هذه المسألة، ينخرط بايدن وأعضاء مجلس النواب من الجمهوريين في معركة يتمسك فيها كلا الطرفين بموقفه، ولم تصدر عن الرئيس أي إشارة، في خطابه، على أنه مستعد للتزحزح عن موقفه، بل وربما يكون قد لمس وترًا حساسًا عند الجمهوريين، في إشارة إلى مطالبة الجمهوريين بالربط بأن يقابل رفع سقف الديون الحكومية تخفيضًا في الإنفاق، ذكر بايدن أنه ليس هناك رئيس في تاريخ البلاد أضاف إلى الدين الوطني أكثر من سلفه دونالد ترامب.
في هذه الأثناء، سمع بايدن هتاف “كاذب” من داخل القاعة، فيما لوحت النائبة “مارجوري تايلور غرين” بيديها معترضة، وأبدى العديد من النواب الجمهوريين اعتراضهم وهزوا رؤوسهم للتعبير عن رفضهم لما قاله الرئيس، من بينها عندما أشار بايدن إلى رفع الضرائب على الشركات الكبيرة والأثرياء، وكذلك التوجه نحو تقييد شركات النفط. وفي مواضع أخرى، حظي خطاب بايدن بحفاوة من قبل الجمهوريين، خاصة حينما ذكر مشاريع قوانين توفر الرعاية الصحية والسكن للمحاربين القدامى، وقوانين لدعم قوات حرس الحدود، ومكافحة المخدرات.
وفي حضرة الجمهوريين الذين خسر ممثلهم ترامب الانتخابات أمامه وفشل في تحقيق موجة حمراء كبيرة خلال انتخابات التجديد النصفي الماضية للسيطرة على مجلسي الشيوخ والنواب، تطرق بايدن إلى الديمقراطية الأمريكية وكيفية الدفاع عنها في الداخل والخارج، في الوقت الذي يسعى فيه ترامب للعودة للترشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية، في ظل استمرار الأزمة الروسية الأوكرانية. واستذكر بايدن الهجوم على الكونجرس قبل عامين، والهجوم الذي تعرض له زوج رئيسة مجلس النواب السابقة، بول بيلوسي. ووجه بايدن رسالة للأمريكيين حول الوضع الحالي للولايات المتحدة مؤكدًا أنها “قوية”.
اللعب على وتر الشعبوية القومية: يحب الأمريكيون سماع قصص المستضعفين، خاصة عندما تمتزج بجرعة من القومية، وقد نجح بايدن وترامب في إجادة هذا الدور ولكن من منطلق رؤى وأهداف مختلفة. أكد بايدن أن خطته الاقتصادية تدور حول الاستثمار في الأماكن والأشخاص الذين تم نسيانهم وسط الاضطرابات الاقتصادية التي شهدتها العقود الأربعة الماضية. وحث الرئيس الأمريكي السلطات على تمرير الحد الأدنى لضريبة دخل الملياردير، حيث قال “يجب ألا يدفع ملياردير معدل ضرائب أقل مما يدفعه مدرس أو رجل إطفاء”.
حرص بايدن كذلك على إضفاء جرعة كبيرة من الشعبوية اليسارية بسياسات تحظى بشعبية كبيرة في الواقع، فأكد أنه سيتم صنع جميع مواد البناء المستخدمة في مشاريع البنية التحتية الفيدرالية في أمريكا، وستصنع الطرق والجسور والطرق السريعة الأمريكية من المنتجات الأمريكية أيضًا. وشدد على أن إدارته تركز بشكل أساسي على الاقتصاد وإعادة بنائه، مؤكدًا على أن معدل البطالة انخفض إلى 3.4% وهو الأدنى في 50 عامًا، وأنه نجح في خلق 12 مليون وظيفة خلال عامين، وهو أكبر رقم حققه أي رئيس سابق خلال فترة 4 أعوام.
وسلط الضوء على دعمه للشركات الصغيرة التي وصلت إلى أكثر من 10 ملايين شركة جديدة أنشئت منذ توليه منصبه، وهو ما يعني أنه يهدف إلى إظهار مشاركته المجتمع الأمريكي في كل شيء، كرئيس للجميع، واستغلالها كدافع سياسي لإعادة انتخابه في 2024.
تجاهل تحديات الأمن القومي: تجاهل بايدن التهديد الاستراتيجي الذي تمثله بكين والقضايا الدولية الأخرى، حتى أن قصة المنطاد الصيني التي حظيت باهتمام بالغ في أمريكا وخارجها مر عليها مرور الكرام في الثلث الأخير من خطابه، وقال إن الولايات المتحدة لن تسمح للصين بترهيبنا، لكنه أكد أن واشنطن لا تسعى إلى نزاع مع بكين. وعلى الرغم من أن الحرب الروسية الأوكرانية كانت محل اهتمام كبير خلال خطاب حالة الاتحاد الأول في مارس 2022 بصفتها أكثر تحديات السياسة الخارجية الحالية إلحاحًا، إلا أن بايدن تحدث لفترة وجيزة فقط عن الغزو الروسي بعبارات انتصارية، وهنأ نفسه وحلفاء الولايات على وحدتهم كما لو كان ذلك يعني أن أوكرانيا قد انتصرت في المعركة.
تجنب بايدن الأجزاء المسببة للانقسام السياسي في دعم الإدارة لأوكرانيا أو الحديث عن المساعدات الإضافية مثل الطائرات المقاتلة أو الصواريخ طويلة المدى التي قد تكون الولايات المتحدة على استعداد لتقديمها، وبدلًا من ذلك ركز على كيفية تماسك الغرب، وهو إنجاز شرعي للإدارة التي اجتازت خلافات محتملة حول الدبابات والأسلحة الثقيلة. وأكد بايدن خلال خطابه على الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة لأوكرانيا لمواجهة التوغل الروسي. ووفقا للبنتاجون، فقد قدمت الولايات المتحدة مساعدات لأوكرانيا بأكثر من 29 مليار دولار منذ بداية الحرب. وأعلن بايدن مؤخرًا عن حزمة مساعدات تبلغ قيمتها أكثر من 2.17 مليار دولار، و تضمنت المساعدات صواريخ طويلة المدى لأول مرة.
الترشح لانتخابات 2024: على الرغم من أن بايدن لم يعلن رسميًا ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، إلا أن خطاب حالة الاتحاد كان فرصة لعرض برنامجه التشريعي للعام المقبل. وظهر كما لو كان يدافع عن قضية ترشحه لعام 2024، وأن ليس لديه خطة لتهدئة طموحاته السياسية، على الرغم من استطلاعات الرأي الفاترة. وأظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة واشنطن بوست وشبكة ABC أن 58٪ من الديمقراطيين والمستقلين ذوي الميول الديمقراطية قالوا إنهم يفضلون مرشحًا آخر غير بايدن العام المقبل. ولكن من السابق لأوانه أن نعتمد على استطلاعات الرأي ونحاول معرفة ما سيفكر فيه الناخبون بعد 21 شهرًا من الآن. ما يعتمد عليه فريق بايدن هو أنه بحلول عام 2024 سيشعر الناخبون بفائدة بعض التشريعات التي أقرها.
أكثر ما يطمئن بايدن هو أن لا أحد من الديمقراطيين أعلن عزمه خوض الانتخابات المقبلة، ولن يجرؤ أي من كبار الديمقراطيين على طرح أسمائهم كمرشحين محتملين إذا قال الرئيس إنه يرشح نفسه مرة أخرى. على الجانب الآخر، يبدو أن المنافسة ستكون شرسة أمام دونالد ترامب، حيث تستعد السفيرة السابقة للأمم المتحدة نيكي هايلي للإعلان عن ترشحها للرئاسة، ووزير الخارجية السابق مايك بومبيو يمهد الطريق لترشحه في الانتخابات، ومايك بنس نائب ترامب يفكر في خوض غمار الانتخابات، بينما يستعد رون ديسانتيس بهدوء للمرحلة الوطنية من منصبه كحاكم لولاية فلوريدا.
ختامًا، لقد ركز خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه بايدن على الاستثمار في الداخل، والوقوف مع الحلفاء والشركاء والمنافسة مع الصين، وحمل رسالة تفاؤل في مواجهة الانتقادات والعداء الصريح من الجمهوريين، واستطاع مواجهة الانتقادات العديدة التي يتعرض لها من النواب الجمهوريين، ونجح في تسليط الضوء على إنجازات فترته الرئاسية وتوضيحها للأمريكيين الذين يقولون إنه لم ينجز الكثير، ولبعض الديمقراطيين غير المتحمسين لاحتمالية إعلانه إعادة الترشح. ومع سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب، قد يواجه بايدن قريبًا محاولة لعزله، بقيادة اليمين المتطرف، ولكن مثل هذه الجهود محكوم عليها بالفشل، مثلما فشل الديمقراطيون في السابق في عزل دونالد ترامب.
.
رابط المصدر: