خطة تسقيف الأسعار الأوروبية: الغاز يشتت القارة

د. أحمد سلطان

 

للمرة الثانية، تفشل دول الاتحاد الأوروبي في التوصل إلى اتفاق بشأن وضع حد لسقف أسعار الغاز الروسي، وذلك بعد ساعات قليلة من تعثر مفاوضات سقف أسعار النفط الروسي. حيث لا يزال التوصل إلى اتفاق بشأن إمكانية وضع حد أقصى لأسعار الغاز في الاتحاد الأوروبي بعيد المنال، بينما فشل قادة الاتحاد الأوروبي في إيجاد سبل لاحتواء أزمة الطاقة غير المسبوقة والتي تغذي التضخم، وتهدد بدفع دول التكتل إلى الركود. ولذلك باتت تهدئة أسعار الغاز في أوروبا موضوعًا مطروحًا على طاولة النقاش في اجتماعات وزراء الطاقة الفترة الماضية؛ في محاولة لطمأنة الأسواق والحد من ارتفاع الأسعار.

ومن هذا المنطلق، اقترحت المفوضية الأوروبية خطة تتمثل في فرض سقف لسعر الغاز الطبيعي لمدة عام واحد، بدءًا من يناير من العام المقبل 2023؛ لتجنب الزيادات القياسية التي شهدتها القارة خلال شهر أغسطس الماضي. ولكن هل تستطيع دول الاتحاد الأوروبي بالفعل تحديد سقف لأسعار الغاز وما خطورة هذه الخطوة في حال تطبيقها؟

سقف أسعار الغاز

سقف أسعار الغاز يُعد مقترحًا من مجموعة من المقترحات والمبادرات التي أطلقتها المفوضية الأوروبية للتعامل مع انخفاض إمدادات الغاز من موسكو والتي كانت توفر نحو 40% من احتياجات الدول الأوروبية. ومنذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية خفضت موسكو إمدادات الغاز إلى برلين قبل أن توقفها في مطلع شهر سبتمبر الماضي، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار غير المسبوق خلال العام الحالي.

وهنا يجب إلقاء الضوء على الآليات التي يتم تحديد أسعار الغاز بها. بشكل عام، يختلف نظام تحديد أسعار الغاز من دولة إلى أخرى، ولا يوجد سعر دولي واحد للغاز؛ إذ يتم تحديد أسعار بيع الغاز بالجملة حسب تكلفة الشراء من منتجي الغاز المحليين والدوليين، حيث ترتفع أسعار الغاز الطبيعي وتنخفض تماشيًا مع الطلب العالمي. وبالتالي يمكن أن تؤدي المضاربة والخوف من الاضطراب الوشيك إلى ارتفاع أسعار الغاز في الأسواق الدولية، و يمكن أن يؤدي هذا بدوره إلى ارتفاع فواتير الغاز للمنازل والشركات.

وبشكل عام، كنت أسعار الغاز الطبيعي في القارة الأوروبية خلال العقد الماضي تتراوح بين 5 و35 يورو، إلا أنها بلغت في أغسطس الماضي مستويات قياسية حيث تضاعفت نحو 10 مرات، وبلغت الأسعار ذروتها عند حوالي 339 يورو. كما يوضح بالشكل التالي.

 خطة سقف الأسعار المقترحة

تحدد خطة الحد الأقصى للسعر حدًا أقصى قدره 275 يورو لكل ميجاوات في الساعة، ولكنه يأتي مع العديد من الشروط المرفقة بحيث لم يكن ليتم تفعيله حتى في أغسطس، عندما ارتفع سعر الغاز لفترة وجيزة فوق 300 يورو، مما أثار القلق في أوروبا التي اعتادت الأسعار التاريخية عند حوالى 10%، مع ذلك. لن يتم تفعيل اقتراح الحد الأقصى إلا إذا تم اختراق حد 275 يورو بشكل مستمر لمدة أسبوعين على الأقل، وبعد ذلك فقط إذا ارتفع سعر الغاز الطبيعي المسال (LNG) فوق 58 يورو لمدة 10 أيام. بلغ سعر الغاز بالجملة في أوروبا حوالى 124 يورو، وفقًا لمعيار TTF الرئيس.

ونُظر إلى الحد الأقصى للسعر الذي اقترحته اللجنة على أنه محايد تحت ضغط أعضاء من بينهم ألمانيا وهولندا التي تخشى أن يؤدي وضع حد أقصى إلى تحويل إمدادات الغاز إلى أسواق أكثر ربحية وبالأخص الأسواق الآسيوية. ومع ذلك، تريد 15 دولة على الأقل من دول الاتحاد الأوروبي -أكثر من نصف الكتلة- شكلًا من أشكال السقف العملي على أسعار الغاز بالجملة؛ لمعالجة أزمة الإمدادات التي فرضتها الأزمة الروسية الأوكرانية. (قبل الحرب، كانت إمدادات الغاز الروسي تمثل أكثر من 40%، من إجمالي الغاز المستورد إلى الاتحاد الأوروبي، وكانت ألمانيا القوة التصديرية في أمس الحاجة إليه بشكل خاص. وقد انخفض هذا الآن إلى أقل من 10%) كما هو موضح بالشكل التالي.

أسباب فشل تلك الخطة

لخفض ممعدلات الأسعار االقياسية، تراهن المفوضية الأوروبية على المفاوضات مع موردي الغاز المنقول عبر خط الأنابيب. ولكنها ترى أنه بالنسبة للغاز الطبيعي المسال، فإن القدرة على التفاوض محدودة بسبب المنافسة العالمية في أسواق الغاز المسال. ولذلك، لا يوجد حل سريع واحد، ويجب على الاتحاد الأوروبي العمل على خفض الأسعار، ولكن لن يؤتي أي تحديد لسقف السعر ثماره ما لم يتم تخفيض الطلب على الغاز بشكل أكبر وذلك للأسباب التالية:

● الخطة قد تشكل خطرًا كبيرًا على الاستقرار المالي والإمدادات في أسواق الطاقة الأوروبية.

● هناك دول شرق أوروبا أو الدول غير المطلة على البحار مثل النمسا وبولندا (والتي لم يصل مخزون الغاز لديها إلى 100%)، تخشى من أن يؤدي تسقيف أسعار الغاز إلى قطع موسكو الغاز الطبيعي عنها نهائيًا، في وقت لا تملك فيه بنية تحتية كافية لاستيراد الغاز المسال من الولايات المتحدة الأمريكية أو من دول أخرى. مما سينعكس سلبًا على إنتاج الكهرباء وتلبية حاجات مصانعها. وتعد المجر من أكثر الدول في الاتحاد الأوروبي الرافضة تمامًا لفكرة تسقيف أسعار الغاز الروسي، أو حتى تخفيض الكميات المستوردة منه عبر خطوط الأنابيب.

● إن وضع سقف للأسعار قد يجعل من الصعب جذب إمدادات الغاز والتي تشتد الحاجة إليها ويقلص الحوافز للحد من استهلاك الغاز، في الوقت الذي يتعين فيه على الدول خفض الاستهلاك والبحث على بدائل للإمدادات الروسية خلال فترة ما بعد الشتاء القادم.

● لا يكون تحديد سقف للسعر دائمًا عمليًا لأنه من الصعب استنتاج مدى استعداد دول جنوب أوروبا والدول الشمالية وبالأخص النرويج (المصدر الرئيس للغاز حاليًا لدول القارة)، ومدى قبول فكرة تحديد سعر الغاز المستورد عبر خطوط الأنابيب.

● إن الحد الأقصى قد يؤدي إلى توقف المرافق العامة عن البيع والشراء، فيما يسمى بالتحوط، لإنتاجها من الغاز واستهلاكها ويدفعها أكثر نحو التداول خارج البورصة وذلك دون الخضوع لسقف معين مما يفاقم مخاطر الطرف المقابل.

● سيؤدي ذلك السقف إلى تعميق الخلافات بين دول الاتحاد الأوروبي، وبالأخص بين الدول التي ملأت خزاناتها من الغاز الطبيعي بنسب تخطت 90% ولها بدائل لاستيراد الغاز من دول أخرى، وبين الدول الأوروبية التي لا تمتلك البنية التحتية اللازمة لاستبدال الغاز المسال بالغاز الطبيعي الروسي. وفى حال تحمل الحكومات فرق السعر، فإن هذا النوع من التدخل قد يتطلب تمويلًا عامًا كبيرًا.

● الأسعار بشكل عام يحددها العرض والطلب، ولذلك هناك حالة من التخوف من أن يؤدي تحديد الأسعار إلى تهديد الإمدادات الأوروبية من خلال دفع شركاء موثوق بهم مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو النرويج إلى الكف عن تسليم الغاز إلى الاتحاد الأوروبي لصالح جهات أخرى. وهنا تجب الإشارة إلى الاتهامات الفرنسية الأخيرة لواشنطن باستغلال أزمة الغاز الأوروبية وارتفاع مستويات الأسعار.

● من الممكن أن يؤدي تقييد سعر كل واردات الغاز إلى تفضيل المنتجين زبائن آخرين، بالإضافة إلى زيادة الطلب بشكل كبير على الغاز الطبيعي.

● هناك مخاوف من أن فرض سقف للأسعار قد يحد من قدرة أوروبا على جذب شحنات الغاز الطبيعي المسال من آسيا والولايات المتحدة الأمريكية.

● تُعد دول الاتحاد الأوروبي الخاسر الأكبر من خطة تسقيف الأسعار؛ فالمحاولات الأوروبية للضغط على موسكو من خلال خفض الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية كان لها ارتدادات قوية على الدول الأوروبية، ولا تزال، بحيث ارتفعت مستويات الأسعار بنسبة 90% تقريبًا مقارنة بالأسعار قبل عام، بالإضافة إلى مخاوف من إجراءات الترشيد وانقطاع التيار الكهربائي خلال الشتاء المقبل.

● تنفيذ قرار تسقيف أسعار الغاز من شأنه توسيع دائرة الصراع ليس فقط مع موسكو، بل مع الدول المصدرة للغاز بما فيها الحليفة والموثوقة.

وبشكل عام، لن يكون لدى الدول الخمس عشرة التي تدعم هذا الاقتراح أغلبية كبيرة بما يكفي من أجل تحويله إلى قانون جديد للاتحاد الأوروبي دون دعم من دول أخرى وبالأخص ألمانيا، ولذلك أدى إلى حدوث صدام بين الدول الأعضاء. حيث يتطلب الأمر في حال تنفيذه إلى تدخل صارم من الحكومات الأوروبية وذلك بهدف رفع استيراد الغاز من جهات مختلفة، ومراقبة السوق لضمان عدم دخول شركات الطاقة في منافسة تؤدي لارتفاع الأسعار.

ولكن هل تتحمل دول الاتحاد الأوروبية تداعيات فكرة تسقيف أسعار الغاز؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب إلقاء الضوء على الوضع الحالي فيما يتعلق بأزمة مخزونات الغاز الطبيعي بها.

مخزون أوروبا من الغاز

لم يكن تخزين الدول الأوروبية للغاز بالمهمة السهلة، بل كلف ذلك الأمر ميزانية حكومات الدول الأوروبية أكثر من 70 مليار دولار، وذلك مقارنة مع حوالي 12 مليار دولار أنفقتها دول الاتحاد الأوروبية لتخزين الغاز خلال عام 2022، مما يعني بذلك زيادة بأكثر من 5 أضعاف. ولذلك بات من شبه المؤكد دخول التكتل في حالة من الركود الاقتصادي، وذلك مع بلوغ معدل التضخم بين الدول الأوروبية حوالي 10% وهو رقم أعلى بـ4 مرات من المعدل الذي حدده البنك الأوروبي في نسبة 2%.

وفى هذا السياق، أعلن الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي عن بلوغ هدف تخزين 80% من احتياجاته من الغاز، وتجاوزت نسبة التخزين في عدد من العديد من الدول الأوروبية 95% واقتربت من 100% كما هو الحال بالنسبة لفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبولندا والدنمارك. إلا أن كل العيون تبقى معلقة على ألمانيا لكونها الاقتصاد الأكبر في القارة الأوروبية، ورغم وصولها إلى تخزين نحو 95% من الغاز، فإنها ستكون بحاجة إلى دعم من دول أوروبية أخرى.

ولكن في حال استمرار الإمدادات عند المستويات الحالية فستواجه القارة الأوروبية نقصًا يُقدر بحوالي 150 مليون متر مكعب في اليوم (مدة نفاذ المخزون الاستراتيجي من الغاز في الدول الأوروبية تتراوح من 3 إلى 5 أشهر)، وذلك وفقًا للتقديرات على متوسط الطلب اليومي في شمال غربي أوروبا من الفترة ما بين سبتمبر إلى مارس بين 2017 و2021 البالغ بحوالي 930 مليون متر مكعب.

وبشكل آخر، دول الاتحاد الأوروبي تسعى إلى خفض الطلب بنسبة من 15 إلى 20% أو بما يُعادل حوالي 50 مليار متر مكعب في فصل الشتاء الحالي. وإذا حققت ذلك الهدف، يجب أن تنتهي مستويات التخزين في فصل الشتاء عند حوالى 55 مليار متر مكعب، وبالتالي ستكون إعادة ملئها في الوقت المناسب لفصل الشتاء التالي أمرًا معقدًا، وذلك بسبب غياب الإمدادات الروسية والتي كانت أوروبا لا تزال تتلقاها في وقت سابق العام الحالي.

ولذلك بات الخيار الوحيد أمام دول القارة الأوروبية لتجاوز الاعتماد على الغاز الروسي هو ضرورة خفض الاستهلاك الأوروبي بنسبة حوالي 15%، وفي الحالة الألمانية سيكون عليها خفض استهلاك الغاز بنسبة نحو 20%، خلال الأشهر الستة المقبلة لتجاوز هذه الأزمة الراهنة.

خلاصة القول، وفقًا للوضع الحالي فيما يتعلق بأزمة الطاقة الأوروبية وبالأخص فيما يتعلق بمسألة الغاز الطبيعي، تُعد المشكلة الأساسية بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي هي المشكلة المتعلقة بالإمدادات الآمنة من الغاز الطبيعي وليست في تحديد سقف للسعر، لأنه وبشكل عام تُعد مساحة المناورة محدودة بنسبة كبيرة في أسواق الغاز الطبيعي والتي تتمتع بحالة خاصة من التقلبات السعرية الشديدة التي تشوهها.

وفى الأخير، إذا استمرت الأزمة الروسية الأوكرانية سيتعين على دول الاتحاد الأوروبي تحمل ودفع الكثير من أجل الحصول على الغاز الطبيعي؛ وذلك لأن عودة أسعار الغاز إلى طبيعتها قد تستغرق أكثر من 5 سنوات، وتحديد سقف للسعر لن يؤدي تلقائيًا إلى انخفاض الأسعار للمستهلكين؛ فاليوم، يتجاوز الطلب العرض، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، لذلك يجب العمل علي خفض معدلات الاستهلاك.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74234/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M