سوق الكربون الأوروبي: تجارة مستدامة أم حرب تجارية جديدة؟!

أحمد بيومي

 

يتألف سوق الكربون في الاتحاد الأوروبي من حوالي 11 ألف شركة صناعية، مثل مصافي النفط والصلب والألومنيوم والمعادن والأسمنت والكيماويات، تلك المنشآت تشتري تصاريح تسمح لها بالعمل وإنتاج ثاني أكسيد الكربون، ودون تلك الشهادات لا تستطيع المصانع الإنتاج. وبلغ إجمالي الكربون المنتج في الاتحاد الأوروبي في الربع الثاني من عام 2022 حوالي 905 ملايين طن مكافئ كربوني (غازات الاحتباس الحراري ثلاثة غازات هي: الميثان، والنيتروجين، والكربون، لكن لسهولة القياس تتم ترجمة الغازات الأخرى إلى مكافئ كربوني بهدف سهولة القياس)، بموجب الاتفاق بين المفاوضين في الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي من المستهدف إصلاح سوق الكربون بالاتحاد لخفض الانبعاثات بنسبة 62.0 % عن مستويات عام 2005 بحلول عام 2030، سيتم ذلك من خلال إزالة 90 مليون تصريح إنتاج كربون من النظام في عام 2024، وحوالي 27 مليونًا في عام 2026، وزيادة المعدل الذي تنخفض به منح تصاريح إنتاج الكربون من 4.3 % بين الأعوام 2024/27 إلى نسبة 4.4 % من 2028/30.

يمنح الاتحاد الأوروبي بعض تصاريح إنتاج الكربون بشكل مجاني لبعض صناعاته بهدف حمايتها من المنافسة الأجنبية، من المخطط أن يتم إلغاء تلك التصاريح المجانية في الفترة من 2026/34، وفي نفس الوقت سيطبق الاتحاد الأوروبي تعريفة حدود كربون تم تصميمها بهدف حماية الشركات المحلية من المنافسة الخارجية، ولكن ما المقصود بتعريفة حدود الكربون؟

يقصد بتعريفة حدود الكربون أن الاتحاد الأوروبي سيفرض تعريفة جمركية مرتفعة على السلع كثيفة استهلاك الكربون التي يتم تصديرها إلى دول الاتحاد الأوروبي، خاصة المنتجات الملوثة مثل الصلب والأسمنت، تم تفعيل تلك المنظومة من خلال ما يسمى بـ”آلية تعديل حدود الكربون”، فوفقًا لتلك المنظومة سيتعين على المصدر إلى الاتحاد الأوروبي الإعلان عن الانبعاثات الكربونية المرتبطة بعملية الإنتاج، وفي حال تجاوز تلك الانبعاثات المعايير المطبقة على الصناعة في أوروبا، سيضطر ذلك المصدر إلى شراء شهادة كربون تسمي “شهادة انبعاثات” بسعر ثاني أكسيد الكربون في الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني أن تلك السلع كثيفة إنتاج الكربون الواردة من الدول التي لا تلتزم بمعايير الإنتاج في الاتحاد الأوروبي ستجد منتجاتها تسعر بسعر أعلى في دول الاتحاد (سعر التكلفة + سعر الشحن والنقل + سعر شهادة الكربون) نظير تلك التي يتم إنتاجها في الاتحاد الأوروبي والتي تتطابق مع المعايير الأوروبية التي سيتم بيعها بسعر الإنتاج والشحن فقط، تستهدف تلك المنظومة القطاعات الأكثر تلويثًا وهي الصلب والألومنيوم والأسمنت والأسمدة والكهرباء، سيكون أكتوبر من عام 2023 فترة الاختبار الأولى والتي يتعين على الشركات المستوردة في الاتحاد الأوروبي الإبلاغ عن التزامها بمعايير إنتاج الكربون الأوروبية، ومن ثم فبفضل تلك السياسة سيقلل الاتحاد الأوروبي من شهادات الكربون المجانية التي يتم منحها للشركات الأوروبية لمساعدتها على المنافسة في السوق، وبدلا من ذلك ستدفع الدول ذات الالتزامات البيئية الأقل من الاتحاد الأوروبي ضرائب على عدم التزامها بسياسات الكربون إلى دول الاتحاد، لكن كيف يؤثر ذلك على منطقة الشرق الأوسط وبالتحديد مصر؟!

تربط مصر بالاتحاد الأوروبي اتفاقية شراكة تخلق منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الأوروبي ومصر والتي دخلت حيز التنفيذ منذ عام 2004، والتي بموجبها تحصل البلدان على إلغاء للتعريفات الجمركية على المنتجات الصناعية وتسهل حركة تجارة المنتجات الزراعية، ودخلت اتفاقية أخرى بشأن المنتجات الزراعية والمصنعة والسمكية حيز التنفيذ في يونيو 2010، ثم شهد العام 2013 محادثة بين الاتحاد الأوروبي ومصر لإنشاء منطقة تجارة حرة عميقة وشاملة في يونيو 2013 وقد تم تعليق تلك المباحثات فيما بعد، بموجب تلك الاتفاقيات أصبح الاتحاد الأوروبي الشريك الأكبر تجاريًا لمصر، وقد مثلت صادرات مصر إلى الاتحاد الأوروبي 28.5 % من إجمالي صادرات مصر، بقيمة 12.5 مليار دولار.

صدرت مصر إلى الاتحاد الأوروبي بقيمة 12.6 مليار دولار في عام 2022، وهي قيمة تصديرية تزيد عن صادرات العام الماضي بحوالي 74.6 %، تشكل القرارات التي يخطط الاتحاد الأوروبي تطبيقها بداية من أكتوبر من عام 2023 تهديد صريح لتلك الصادرات، إذ إنها ستطالب الشركات المصرية بيانًا عن انبعاثات الكربون التي خلفتها عملية الإنتاج الخاصة بتلك المنتجات، وفي حال عدم مطابقتها للمعايير الأوروبية سيترتب على ذلك فرض جمارك إضافية على المنتجات المصرية والتي ستتسبب في فقدان المنتجات المصرية تنافسيتها السعرية أمام باقي المنتجات الأخرى، حيث إن تلك الشركات ستدفع نظير الكربون الذي تنتجه وفقًا لسعر الكربون الأوروبي، في عام 2005 أطلق تسعيرًا للكربون للمرة الأولى كأداة لتقليل إنتاج الكربون وكان يبلغ متوسط أسعار الكربون حوالي 3 يوروات للطن في عام 2016، لكن ذلك السعر أخذ في الارتفاع بشكل كبير خلال الآونة الأخيرة، إذ وصل سعر طن الكربون في الاتحاد الأوروبي في العام الحالي حوالي 69 يورو للطن.

تحاول مصر في الوقت الحالي المُضي قدما في إطلاق شهادات الكربون المصرية وتطبيق نظم الحدود القصوى لانبعاثات الكربون، وسوف يتشارك الشركة القابضة لتنمية الأسواق المالية، والبنك الزراعي المصري، وشركة “ليبرا كابيتال” لتأسيس أول شركة مصرية لتطوير وإدارة وإصدار شهادات الكربون والشهادات والمنتجات البيئية على اختلاف أنواعها. وحيث أن الاتحاد الأوروبي يعد الأفضل في مجال وضع المعايير وتنظيم أسواق الكربون فتسعى تلك الشركة لاتباع المعايير الأوروبية في سوق الكربون في مصر، ومحاولة تطبيق تلك المنظومة في الدول الافريقية، لكن لا يزال تطبيق تلك المنظومة في مصر وإلزام الشركات المصرية بتطبيقها أمرًا يحتاج إلى تشريع قانوني ووعي تام من جانب الشركات العاملة في مصر لأهمية قياس البصمة الكربونية المصاحبة لعمليات الإنتاج.

لا يزال هناك جدل كبير حول نوايا الاتحاد الأوروبي في تطبيق تلك المنظومة، هل بالفعل يستهدف تحقيق التجارة المستدامة، أم أنها طريقة جديدة لفرض تدابير حمائية على المنتجات الأوروبية من خلال منع الشركات التي تنتج خارج الاتحاد الأوروبي من النفوذ للأسواق من خلال إعادة تسعير منتجاتها بفرض ضرائب كربونية أعلى يترتب عليه إعادة تسعير المنتجات بشكل لا يستطيع منافسة تلك التي يتم إنتاجها من خلال الشركات العاملة في الاتحاد الأوروبي، خاصة وأنه من المتوقع أن تندد العديد من الدول بتلك الضرائب والتي يأتي على رأسها روسيا والصين وتركيا والمملكة المتحدة وكوريا الجنوبية والهند، وعليه فمن المرجح أن يشهد أكتوبر من العام 2023 حربا تجارية جديدة محتملة بين الاتحاد الأوروبي والعالم، إذ إن الإقدام على تطبيق تلك القواعد من جانب طرف واحد “الاتحاد الأوروبي” دون إدخال الطرف الآخر “الدول المصدرة” في عملية صياغة المنظومة أو تسعير الكربون هو أمر من شأنه أن يشعل فتيل حرب تجارية عالمية، لكن على الناحية الأخرى تقف الولايات المتحدة الأمريكية مع أوروبا في تطبيقها لتلك السياسات من خلال سعيها لإطلاق نادي يسمي “نادي الكربون” والذي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية من خلاله توجيه ضربة قوية للتجارة الصينية إلى الاتحاد الأوروبي خاصة تجارة الصلب الصينية والتي تتسبب في انبعاثات كبيرة في ظل دعم الحكومة الصينية لشركاتها وبيئة الإنتاج منخفضة التجارة الكربونية.

لكن من جانب آخر، تنظر الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي إلى سوق الكربون الأوروبي على أنه بداية حقيقية لتشجيع الدول للالتزام بتعهداتها المناخية وسعي دول أخرى للانضمام إلى اتفاقية باريس للمناخ، لكن المؤكد أن سوق الكربون الأوروبي يشكل تهديدًا كبيرًا للعديد من دول العالم وخاصة الدول النامية والتي لا تمتلك التكنولوجيا ولا التمويل والمعرفة الفنية اللازمة للتوافق مع المعايير الأوروبية لسوق الكربون، وهو ما يحتاج إلى مفاوضات جادة من جانب تلك الدول مع الاتحاد الأوروبي لصياغة اتفاق مشترك يقلل من ضرر سوق الكربون الأوروبية على صادرات تلك الدول، وقد تكون إجابة التساؤل التالي بداية جيدة للتفاوض: “لماذا تدفع شركة مصرية أنتجت منتجًا في مصر ولوثت المناخ والأراضي المصرية ضرائب إلى الاتحاد الأوروبي الذي لم يطله التلوث؟” ربما تكون الإجابة المنطقية هو أن الاتحاد الأوروبي هو من يجب أن يدفع ثمن حصوله على سلع دون تلوث، وتكون ضريبة الكربون للدولة المتأثرة بالتلوث لإزالة آثاره.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/32345/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M