صعود اليمين المتطرف وتداعياته على مستقبل الاتحاد الأوربي

مقدمة

تشهد الساحة الأوربية تحولات على مستويات متعددة، منها صعود لأحزاب يمينية متطرفة استغلت المناخ العام. وتقلبات البيئة الداخلية للأحزاب السياسية التقليدية التي مازالت تبحث عن حلول لمشاكل متراكمة في قضايا الأمن والدفاع الأوربي والاقتصاد والهجرة، وهي الأمور التي استثمرها اليمين المتطرف في اتجاهات متشعبة وجعلها مُحددات أساسية في برامجه الانتخابية للظهور من جديد في واجهة المشهد السياسي العام، متجاوزًا بذلك خطاب الكراهية ضد السامية واليهود إلى بلورة أفعال وسلوكيات عدائية عنصرية ضد المسلمين.

ويُمثل هذا الصعود خطرًا على مصالح الاتحاد الأوربي الاقتصادية والسياسية المرهونة بارتباطات وتوازنات مع القوى الكبرى، بسبب تبني تلك الأحزاب رؤى سياسية واقتصادية خاصة بها مختلفة عن بقية الأحزاب السياسية بين يمين وسط ويسار وسط، الأمر الذي قد يضعها في موضع مواجهة وصدام مع جميع القوى السياسية بهدف تعزيز موقعها ضمن الخارطة السياسية.

وقد كشفت ازدواجية المعايير في خطاب أحزاب اليمين عن وجود مبررات غير منطقية تسعى من خلالها الوصول للسلطة، عبر التأثير على توجهات المواطنين الأوربيين وشحنهم بمشاعر سلبية تُفضي بهم من رفض الواقع الحالي ونبذه إلى المطالبة بتغييره، وقد استخدم اليمين المتطرف عدة قضايا حولها من برامج إلى سياسات تبناها زعماء اليمين، كالامتعاض من مسألة الهجرة غير الشرعية، وإظهار مشاعر القلق والخوف على المواطن الأوربي من طمس الهوية الوطنية، والترهيب من ظاهرة الإسلاموفوبيا، علمًا أن التناقض في فصل وتوصيف حوادث الإرهاب لم تعد سياسة ناجعة في التأثير على العقل الجمعي الأوربي، فقد أفضت حادثة نيوزيلاند التي نفذها الاسترالي برينتون تارانت في مارس 2019 إلى نتائج سلبية على أحزاب اليمين ، وذلك عبر التماهي والتعاطف مع ضحايا المسلمين وتوصيف الحادثة بالإرهابية، علمًا أن منفذ الجريمة كان مدفوعًا لإحياء مشاعر الحقد والكراهية لحقبة تاريخية تعود لآلاف السنيين[1].

ورغم أن الحادثة تم احتواؤها إلا أن ذلك لا ينفي بروزًا واضحًا لظاهرة اليمين المتطرف في الساحة الأوربية ومزاحمتها للأحزاب السياسية التقليدية في مقاعد البرلمان، وقد تجلى ذلك في الفترة بين 2014 – 2017 حيث نجحت قوى اليمين في تعزيز استحقاقاتها الانتخابية في دول أوربية عدة (كالسويد وفرنسا والنمسا وسويسرا وهولاندا)، وأصبحت في الوقت الراهن طرفًا أساسيًا في المعادلات الانتخابية وفاعلًا سياسيًا مؤثر في الرأي العام الأوربي، على عكس ما كانت عليه سابقًا كقوة هامشية بعيدة عن المشهد السياسي العام، وهذا ما يدعوا إلى النظر في حيثيات تنامي هذه الظاهرة وأسبابها وتداعياتها على أمن ومستقبل الاتحاد الأوربي.

أولًا: الجذور والأيديولوجيا لقوى اليمين في أوربا

الإعلام السياسي دورًا في التركيز على تداعيات العمليات الإرهابية المنسوبة لقوى اليمين أكثر منها من جذور هذه الظاهرة، والأسباب التي ساهمت في صعودها.

يكن وجود اليمين المتطرف في الأوساط الأوربية ظاهرة جديدة، فقد كانت الفاشية والنازية مهيمنة على أوربا في فترة الحربين العالميتين (1914- 1945) لكن مع تحميلها مسؤولية الكارثة الإنسانية بدأت عمليًا في الابتعاد عن المشهد السياسي العام.

ومع بداية تسعينات القرن الماضي الذي شهد انهيارًا للاتحاد السوفيتي وتفكيك الكتلة الشرقية المتمثلة بحلف وارسو وتأسيس الاتحاد الأوربي، ظهرت دول بدأت تنزع لأصولها العرقية، الأمر الذي ساهم في بروز النزعة القومية عند الكثير من الأوربيين، كما رافق تأسيس الكيان السياسي للاتحاد الأوربي إظهار الأحزاب اليمينية واليسارية المتطرفة حالة عداء مع البرلمان الأوربي والمحكمة الأوربية العليا بذريعة تقويضهم للعقيدة القومية لبلدانهم، واتهامهم بأنهم يحتكرون قرار مصير بلدانهم[2].

وقد تأثرت بعض البلدان في أوربا الشرقية بظاهرة اليمين المتطرف، حيث عُرِف عن فرنسا نشاط كبير لجماعات اليمين المتطرف خلال فترة الثلاثينيات، فضلًا عن تجربة حكومة فيشي خلال حقبة الاحتلال الألماني لفرنسا في الفترة (1940- 1944)[3] . كذلك قادت حالة الفراغ الأيديولوجي التي جاءت بعد سقوط الماركسية الشيوعية إلى تمهيد الطريق في بزوغ اليمين المتطرف في أوربا، ووصفها البعض بأنها الحفيد المدلل للنازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، وبأنها تيار معادي للأجانب ومن قبلهم العرب وللأقليات وعلى رأسهم اليهود[4].

الجدير ذكره بأن أحزاب اليمين في أوربا ليست على مستوى واحد وتختلف من بلد لآخر، وفقًا للسياق العام والبيئة الحاضنة، كذلك لا يوجد تعريف جامع لتلك الأحزاب فالتسمية جاءت لتميز موقعها في المحيط السياسي عن بقية الأحزاب التقليدية، إلا أنها تشترك بعدد من الأهداف والشعارات الأيدولوجية، والسمات العامة، حيث يُشكل العداء للأجانب ورفض الأقليات وفكرة التعددية، والدفاع عن الهوية الوطنية، والتقاليد القومية التاريخية، القاعدة الأساسية المشتركة لأي برنامج سياسي، إضافة إلى توافقها في ملف الحد من الهجرة واعتباره المسبب الرئيس  لغياب الأمن الاجتماعي ومصدر البطالة، لذا اعتبرت الأحزاب اليمينية مسألة الهجرة إحدى الأسس المهمة في خطابها وصنعت منها رافعة للصعود في صدارة المشهد السياسي.

ويعد “جون ماري لوبان” الفرنسي من أبرز المتزعمين لليمين المتطرف فقد ربط ظاهرة مسألة تزايد الهجرة بارتفاع معدل البطالة، ودعا إلى تفضيل المواطن الأصلي على الأجنبي وطالب بنظام حماية شامل على الصعيد الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي لفرنسا، ذلك لأنه ينطلق من فكرة أن التراث الفرنسي يجب تنقيته من تلك الشوائب التي وضعها المثقفون الفرنسيون من أصول غير فرنسية وحمايته من الغزو الثقافي الأجنبي.[5] كما دعا زعيم حزب الحرية اليميني في النمسا “نوبرت هوفر” في انتخابات إبريل 2016، إلى رفع شعار النمسا أولًا حيث ركز في حملته الانتخابية حينها على تقليل المنافع التي يحصل عليها المهاجرون وإعطاء النمساويين الأولوية في العمل[6].

ويلاحظ رغم أن  الشعارات والخطابات التي  ينادي بها زعماء اليمين مستمدة من منظور عرقي، ويشوبها نزعة عنصرية إقصائية للآخر، إلا أنها ليست على مستوى واحد بل  هناك تفاوت في خطاب الأحزاب اليمينة وأيديولوجيتها بسبب وجود تباين في الأوضاع الاجتماعية من بلد إلى آخر أوربي، فعلى سبيل المثال: الحزب الجمهوري اليميني المتشدد في ألمانيا يُفصح في خطابه السياسي عن حنينيه غير المباشر للتجربة الهتلرية، بينما لا نجد في خطاب الجبهة الوطنية في فرنسا أي تعاطف مع تلك التجربة، وفي إيطاليا تركز الأحزاب اليمينة على ضرورة إعلان الحرب على جرائم المافيا أكثر منها على الحرب ضد المهاجرين إلى إيطاليا[7]. وبناء على هذه المقاربة نجد أن حركات اليمين المتطرف تشترك فيما بينها في بعض الخصائص على الرغم من اختلافها في القوميات ولاسيما الاجماع على نبذ مفهوم الحداثة والتعلق بإرث تاريخي قديم، وكره الأجانب الذين ينتمون إلى قوميات أخرى، وأديان مختلفة، لدرجة عُرف عنهم التعصب الديني والقومي معًا.

ثانيًا: مؤشرات الصعود على المستوى السياسي

توجد العديد من العوامل التي ساهمت في صعود اليمين المتطرف في السنوات الأخيرة، منها عوامل داخلية مرتبطة بالواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي الأوربي، ومنها ما يتعلق بتبدل السياسات الدولية، تكلل آخرها في وصول الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” إلى سدة الحكم، حيث أدت مواقفه ضد المهاجرين التي أطلقها في فترة حملته الانتخابية إلى تشجيع قوى اليمين في توظيف تلك المواقف في برامجها الانتخابية.

وعلى صعيد سياسي قد تسبب انسحاب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من الحياة السياسية في 2018 تراجعًا لشعبية الحزب الحاكم الألماني، ومهد الطريق لتقدم الحزب اليميني الشعبوي البديل حيث حصل على نسبة مئوية أهلته لحجز مقاعد في البرلمان بـعد  حصوله على نسبة12%  في هيسين، و9.5  % في بافاريا[8]، وسبق هذه النتائج صعود يميني مفاجئ في فرنسا في العام 2017 إذ حصل حزب الجبهة الوطنية بقيادة ماري لوبان على 8  مقاعد من أصل 577 ، كذلك خاضت لوبان الانتخابات الفرنسية في 2018، وحصلت على المركز الثاني بعد فوز الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون[9]، وفي النمسا تصاعدت حظوظ حزب الحرية اليميني في انتخابات الرئاسة 2016 بقيادة “نوربرت هوفر”، فعلى الرغم من خساراته في الجولة الثانية، إلا أن تصدره في الجولة الأولى للانتخابات وحصوله على نسبة 36.7% يعد انتصارًا معنويًا لأنصاره، كونه التقدم الأول له منذ الحرب العالمية الثانية[10].

كذلك في بريطانيا تمكن حزب الاستقلال البريطاني في 2014 من الحصول على أول مقعد له في البرلمان بعد حصوله على أكبر نسبة من الأصوات في الانتخابات، والذي تأسس في 1993، بصفته حزبًا معارضًا للاتحاد الأوربي، ونجح في توظيف قضية المهاجرين في خطابه السياسي، وتشير بعض التقارير إلى صعود نجمه بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي. وبنفس السياق برز حزب الفجر الذهبي في اليونان، والحزب الديمقراطي اليميني المتطرف في السويد في الفترة ما بين 2014 0 2016، وفي إسبانيا فاز حزب فوكس اليميني المتطرف بمقاعد برلمانية لأول مرة منذ عقود في الانتخابات الإقليمية التي أجريت في ديسمبر 2018 ، واعتبر هذا الفوز بمثابة صعود للمد القومي في أوربا[11]، وفي بولندا حصل حزب القانون والعدالة اليميني في الانتخابات البرلمانية في 2015 على نسبة 39 % من الأصوات، جعلته يدخل الحكومة ويقر برامجه السياسية بها كأول مرة منذ سقوط الشيوعية في البلاد[12]، وفي الدنمارك حقق حزب الشعب الدنماركي في انتخابات 2015 أفضل نتائجه منذ تاريخ تأسيسه 1995، حيث حصل على المرتبة الثانية بنسبة 21 % من الأصوات على حساب يسار الوسط بزعامة رئيسة الوزراء ثورننج شميت والتي استقالت بعد إقرارها بالهزيمة[13].

جملة النتائج المذكورة تشير في طبيعتها إلى نجاح بعض قوى اليمين المتطرف من تحقيق اختراق سياسي وفرض واقع جديد على حساب تراجع في أداء القوى السياسية التقليدية. فالانقسامات الحزبية الداخلية ارتفعت مؤخرًا على وقع الانسداد الأفق وغياب الحلول في مسائل جوهرية تمس غالبية المواطنين الأوربيين، ولعل مسألة العلاقة بين الشعوب والسلطة من أكثر المسائل حساسية في أوربا، فأزمة الثقة الحاضرة مثلًا في فرنسا قد أدت في نهاية المطاف إلى انفجار عند غالبية الطبقة الوسطى المطالبة بتحسين الوضع في النظام الاجتماعي والخدمي، وكان ذلك حاضرًا في الشعارات المرفوعة من أصحاب السترات الصفراء والتي مازالت تحاول التأثير على صانعي القرار في قصر الإليزيه.

ثالثًا: على الصعيد الشعبي

تُعكس ظاهرة وجود الجماعات أو الحركات اليمينية المتطرفة في بعض الدول الأوربية عن عجز مناعي لدى الأحزاب التقليدية، التي بدت مؤخرًا عاجزة عن السيطرة على سلوكيات تلك الحركات، على الرغم من إصدار العديد من القوانين التي تسمح بملاحقتها والتضيق عليها، لكن مع تصاعد وتيرة الجرائم والعنف وتنمية خطاب الكراهية ضد الأجانب والمهاجرين، دفع صانعوا القرار الأوربي إلى استخدام آليات دفاعية تارة للحد من آثار الجرائم، والنزول عند بعض رغبات الأحزاب اليمينة في إشراكهم ضمن المقاعد البرلمانية تارةً أخرى.

ففي ألمانيا تشكلت مجموعة تُعرّف عن نفسها بمجموعة” فرايتال” [14] تجوب في الشوارع بذريعة أنها ترغب في حماية المواطن الألماني من خطر المهاجرين لكنها نفذت العديد من الجرائم الفردية ضد المهاجرين منذ لحظة وجودها في 2015، ويذكر أن ألمانيا ارتفع فيها منسوب العنف والجرائم ذات الدافع اليميني لأكثر من 40% في 2015، وبلغت نسبة الجرائم إلى 177 وفي 2017 وصل عدد الهجمات المعادية للسامية إلى 1504[15].

وفي تقرير للاستخبارات البلجيكية الصادر في عام 2019، أكد على أن قيادات بعض المجموعات المتطرفة في بلجيكا و أوربا الغربية، بدأت تطالب عناصرها بحيازة أسلحة بطرق قانونية أو غير قانونية بهدف توقف مد المسلمين إلى أوربا، ووصف التقرير هذه الجماعات بحركة جيل الهوية الفرنسي، وجيل الهوية الألماني، ومجموعة الدروع والأصدقاء اليمينية المتطرفة في بلجيكا، ولفت التقرير إلى أن أنصار اليمين المتطرف لا يخفون ميولهم إلى العنف وإعجابهم بالنازية، ويحاولون توجيه الإعلام إليهم على أنهم مدافعين عن الهوية المسيحية في أوربا[16].

رابعًا: أسباب صعود اليمين في أوربا

لا يتفق بعض المتابعين لسلوك ومسار الأحزاب اليمينية على أنها ظاهرة مستدامة أكثر من كونها طفرة مؤقتة تصعد بفعل مبدأ التأثير من تراجع وفشل الأحزاب الأخرى، فالصعود المسجل حاليًا لأحزاب اليمين لا يُمثل عند بعض المراقبين نجاحًا لها، بل هو تفسير تراجع لأحزاب سياسية متصدرة فشلت في بعض المواضع من تحقيق اختراقات اقتصادية وسياسية واجتماعية، فَشَكل كل ذلك ذريعة لقوى اليمين باستغلال تلك الثغرات للصعود على حسابها.

فيما هناك رؤى أخرى لم تعد ترى في قوى اليمين ظاهرة ثانوية، بل تحولت بفعل التحولات والمتغيرات التي عصفت بالاتحاد الأوربي لقوى حقيقية مؤثرة في صنع السياسات، وأزالت عن نفسها مصطلح الظاهرة، ويستند رواد هذا الاتجاه إلى حجج أحادية للدفاع عن وجهة نظرهم وهي وصول بعض قوى اليمين لداخل البرلمانات الحكومية، لكن يختلف الكثير مع أصحاب هذه الرؤى، بسبب تجاهلهم الآليات التي يستخدمها اليمين المتطرف والأساليب المنافية للأعراف الأوربية، في الإشارة هنا إلى نوعية الخطاب الأيديولوجي والذي برأيهم لا يتناسب مع ماهية الشعارات والقضايا التي يسعون من خلالها إلى استقطاب المواطنين الأوربيين في استعطافهم في قضايا الاقتصاد والبطالة والهوية الثقافية الأوربية، إلى جانب استغلالهم حوادث العنف المتصاعدة كحادثة شارلي أيبدو في 2015 وتفجيرات بروكسل، والجرائم الفردية ضد المهاجرين، وقد تحولت قضية المهاجرين إلى إحدى أهم المرتكزات في خطاب اليمين المتطرف حيث أصبحت الشماعة الرئيسية التي يمررون من خلالها معظم أهدافهم السلطوية السياسية.

وبناء عليه يمكن التوقف عند بعض العوامل الرئيسية التي ساهمت في صعود وتنامي اليمين في المتطرف في أوربا.

1_ قضية المهاجرين في خطاب اليمين المتطرف

يرى محمد شرف الدين في أطروحته تحت عنوان (صعود اليمين المتطرف في أوربا لـ 2015) إن أحزاب اليمين المتطرف تُصور المهاجرين على أنهم مصدر تهديد للهوية الوطنية ومنبعًا رئيسًا للبطالة، ومصدرًا للرجعية وانعدام العقلانية، وقد نجح اليمين من خلال اعتماده على هذه الأفكار في تحقيق انتشار واسع في أوربا[17] فعلى سبيل المثال: بعد بروز نجم حزب مارين لوبان في فترة الانتخابات 2017  لجأت للمطالبة بإعادة اللاجئين على ذات القوارب التي جاءوا بها إلى فرنسا، عقبها ربطها بين الهجرة المغاربية وبين الإرهاب الذي أصاب “تشارلي أيبدو” من خلال قولها “إن الإسلام المتطرف يحمل أيديولوجية إجرامية تتنافى مع الأعراف والتقاليد الأوربية”، وفي ألمانيا نظمت الحركة المسماة “بيجيدا” مسيرة ضمت 25 ألف في مدينة “دريسدن” ضد المسلمين، وتعتبر هذه الأحداث نبذة بسيطة عن كم متصاعد من الأفعال والسلوكيات التي صدرت عن اليمين المتطرف بعد ارتفاع عدد المهاجرين إلى أوربا على وقع اندلاع ثورات الربيع العربي في مناطق الشرق الأوسط، والتي دفعت الآلاف من المسلمين الهرب من وطأة النزاعات المتشعبة إلى البحث عن مكان آمن عند دول لا تزال ترى في حرية الفرد محور رئيسي ضمن دساتيرها، وهو ما دفع قوى اليمين المتطرف إلى جعل هذه القضية مصدر تشريع أولي في خطابه وبرنامجه الانتخابي السياسي، لنيل مكاسب سياسية على حساب القوى الأخرى.

2_ الاستثمار في ظاهرة الإسلاموفوبيا

ترتبط مسألة الإسلاموفوبيا بقضية تدفق المهاجرين، حيث أحيت تلك المسألة الجدل والنقاش حول الخوف من الإسلام، وتنامي مشاعر الكراهية والتعصب وتفاعلاتها مع توجهات الأحزاب اليمينية المتطرفة، إذ ليس من السهل تفكيك العلاقة بينهما على وقع تأثير وسائل الإعلام وتركيزها على جانب الأحداث الظاهرية ، وإفرازاتها مع ارتفاع معدل العمليات الإرهابية، بعد ظهور تنظيمات راديكالية متطرفة كتنظيم الدولة داعش، وتبنيها لبعض العمليات داخل الاتحاد الأوربي، ما أعطى ذريعةً لأحزاب اليمين المتطرف أن يزيد من حدة العداء تجاه مبادئ الإسلام والمسلمين من الجاليات العربية ووضعها موضع المسؤول والمسبب عن العمليات التي ترتكبها تلك التنظيمات التي تحسب نفسها أنها مصدر أولي للإسلام في القرن الواحد والعشرين، فيما الحقائق تشير إلى براءة الإسلام من تلك الأفكار والسلوكيات المتطرفة، وبذلك أصبحت الجالية مصدرًا لتغذية العنف وممارسة كامل أشكال التطرف، بما يساهم في تهديد استقرار وأمن المجتمعات الأوربية، وانطلاقًا من هذا العرض تم طرح العديد من  التساؤلات  عن الرابط والمسبب بين سلسلة العمليات الإرهابية التي شهدتها العديد من دول أوربا وبين تصاعد خطاب الكراهية والتمييز ضد المسلمين، وهل الأمر يعود إلى الجذور والخلفيات التاريخية لظاهرة الإسلاموفوبيا أم أنه متعلق فقط في توظيف الأحزاب اليمينية للمتغيرات الأخيرة بهدف تحقيق مكاسب انتخابية.

يشير مدير برنامج السياسية الخارجية في الإدارة الأمريكية “جون فيفر” في حديثه لإحدى وسائل الإعلام عام 2013 أن ظاهرة الإسلاموفوبيا ليست وليدة المرحلة الراهنة وإنما تعود لما قبل مرحلة الحروب الصليبية إذ انتشرت الكثير من الروايات والقصص التاريخية الملفقة عن الإسلام والمسلمين على أيدي بعض المثقفين الغربين الذين أحدثوا نوعًا من الرهاب من المسلمين، وقد تحولت تلك الأفكار بعمل الزمن إلى أراء نمطية تسري تلقائيًا في الوعي الجمعي الأوربي، وعلى الرغم من خلق ذهنية خاطئة ضد المسلمين إلا أن الإسلاموفوبيا ازدادت منذ نهاية الحرب الباردة مرورًا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011 وصولًا إلى أحداث الربيع العربي، ما دفع العديد اعتبار الإسلام مصدرًا للتهديد، لدرجة أصبحت الإسلاموفوبيا الأكثر خطرًا من ذي قبل بعد وضع المسلمين في مكان المتهم والمتأزم بشكل دائم[18].

وعليه فإن نمو ظاهرة الإسلاموفوبيا تُشكل محطة أخرى مضافة إلى المحطات التاريخية السابقة، وما استثمارها من قبل أطراف يمينية متطرفة إلا وجه مشابه لما تم توظيفه في فترة الصعود السابقة لـأحداث 2001، وعلى صعيد اجتماعي وثقافي فهي تمثل لما وصفه الكاتب الأمريكي صموئيل هنتنغتون في كتابه صدام الحضارات (the clash of civilization) صدى واسعًا في أوربًا أكثر من الصدى الذي أحدثته في أمريكا، نظرًا للمخاوف والخلع الذي تعيشه أوربا من جراء تفشي ظاهرة صدام الثقافات داخلها[19].

3_ الاقتصاد أول رافعة لصعود اليمين

تماشيًا مع تبني خطاب الكراهية والقومية اللذين ساهما في صعود اليمين، فإن الأزمة المالية العالمية التي أصابت أوربا في 2008 كانت بمثابة فرصة رابحة عادت بالنفع على قوى اليمين المتطرف، من خلال توظيف الأزمة لصالحها، حيث أدت الأزمة إلى حالة من الركود الاقتصادي وخفض الإنفاق العام على الخدمات والرواتب وارتفاع معدلات البطالة، واضطر أصحاب الأعمال في أوربا إلى اللجوء إلى العمالة الرخيصة من المهاجرين بدلًا من العمالة الأوربية، التي رأت نفسها خارج سوق العمل الأوربي فتنامى عندها حالة من السخط والاستياء ضد المهاجرين والأحزاب السياسية التي وقع على عاتقها مسؤولية تلك الأزمة، بعد الاتهامات التي تلقتها من قوى اليمين المتطرف والتي استغلت الفرصة في الهجوم على المهاجرين وتوجيه اتهامات لهم في استحواذهم على وظائف المواطنين الأوربيين، وقد تعاظمت الأزمة الاقتصادية مع توافد اللاجئين في 2015، بعد اعتماد بعض الدول الأوربية برامج سنوية لاستقبال اللاجئين، وبنطر اليمين المتطرف إن هذه السياسيات هي السبب في تفاقم الأعباء المالية بشكل غير مسبوق، نتج عنها ظهور حالة من الهلع والخوف بين الأوساط العاملة والطبقات المتوسطة المتوجسة من فقدان الرفاهية وفرص العمل والرعاية الصحية، فما كان من بعض تلك الشرائح إلا إظهار امتعاض من سياسات الأحزاب الحاكمة، وتأييد قوى اليمين المتطرف فارتفعت شعبية الأخير في تلك الفترة كفرنسا إلى 25% وفي الدنمارك إلى 23% والنمسا إلى 20% [20].

4_ امتعاض من سياسات الأحزاب الحاكمة

مثّل التراجع السياسي الفكري لقوى الأحزاب التقليدية ثغرة استغلتها قوى اليمين المتطرف لتطرح نفسها كبديل فعال، والواقع أن نسبة كبيرة من الشرائح الأوربية قد لا تأيّيد اليمين، لكن احتجاجها على أداء القوى المركزية في صناعة القرار الأوربي، وانخفاض بعض الميزات المحلية في بعض المناطق الإدارية لكل منطقة، وغياب الشفافية الكاملة في موضوع المكاشفة السياسية مع المواطنين الأوربيين في معرفة توجهات السياسة في الاتحاد الأوربي[21] ، دفعت بعض الشرائح إلى تأييد القوى اليمينية المتطرفة في برامجها الانتخابية، ولعّل وصول بعض قوى اليمين المتطرف للمقاعد البرلمانية كأول مرة منذ فترة انهيار الاتحاد السوفيتي دليل عملي على مدى تأثير في توجهات الناخبين بالعمليات الانتخابية (كالنمسا وسويسرا وهولندا) وتأكيدًا لهذا العرض: فإن النتيجة القائلة بعزوف الناخبين عن انتخاب قوى اليمين واليسار الوسط، تعود في نظر الناخب إلى طبيعة الفوارق في المستوى المعيشي بين نسبة سكانية محدودة تشمل فئات شعبية في ذروة الثراء المالي، وبين نسبة سكانية كبيرة تشمل فئات شعبية متضررة ماديًا لا تملك أسباب القوة المؤثرة على صناعة القرار السياسي والاقتصادي.

5_ وصول ترامب للسلطة

رغم الغموض والتناقض اللذين يشوبان شخصية وسلوك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلا أنه بدا بشكل واضح أنه يختلف تمامًا عن كل الرؤساء الذين حكموا أمريكا، فلم تشهد الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسها، رئيسًا خرج عن الأعراف الدبلوماسية الأمريكية في الشكل والمضمون والخطاب، كما فعل الرئيس الحالي دونالد ترامب، ويتفق الكثير من السياسيين الأمريكيين على أن خطاب الرئيس ترامب أقرب للخطاب الشعبوي، كما أن طريقته وأسلوبه في إطلاق التصريحات المباشرة أصبحت نهجًا خاصًا به، بشكل لم يكن موجودًا سابقًا في حقبة أسلافه السابقين من الرؤساء، وهو الأمر الذي لفت أنظار اليمين المتطرف داخل أمريكا وفي أوربا، فمواقف ترامب وتوجهاته اعتبرها اليمين المتطرف أنها تقليدًا لهم، وخاصة العدائية ضد المهاجرين والتي وصفها البعض العنصرية.

حقيقة إن تيار اليمين المتطرف الذي ينتمي إليه ترامب، وعلاقته الوطيدة مع رئيس الحكومة الإسرائيلي نتنياهو المنتمي لحزب يميني متطرف أعطيا زخمًا ودعمًا واضحين لقوى اليمين المتطرف في أوربا للبروز في المشهد السياسي العام الأوربي، فلا يمكن النفي كما لا يمكن الجزم في أن هناك رابطًا واضحًا بين فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية وبين صعود تيارات يمينية في أوربا، خاصة بعد زيادة العمليات الإرهابية ليس فقط على صعيد منطقة الشرق الأوسط بل في أوربا وأمريكا[22].

خامسًا: تداعيات على مستقبل الاتحاد الأوربي

رغم أن الأحزاب اليمينية المتطرفة لا تزال فارغة من محتوى ذاتي لها، إلا أن استمرار نهجها في استغلال الظروف والأخطاء لسياسات القوى التقليدية في سياساتهم الداخلية والخارجية، قد ينقلها من موقع المؤثر إلى الصانع، لاسيما إذا ما حققت نجاحات أكثر في الدورات الانتخابية، واستمرت في إحراجها للتيارات الليبرالية واليسارية بعد عجزها عن إيجاد حلول للمشاكل في السياسات الداخلية والخارجية لديها، وبالتالي ستدفع بالاتجاه في تقديم نفسها كقوى أساسية مدافعة عن حقوق المواطن الأوربي وأمنه المجتمعي. لذا فإن ما يمكن قوله: إنه في حال استمرت الأحزاب اليمينية بالصعود فسوف ينعكس ذلك في المدى القريب على ملف المهاجرين عبر التضيق عليهم أكثر من خلال تشريع المزيد من الاجراءات الداخلية ضدهم، وعلى المدى البعيد سيسعى اليمين المتطرف إلى إعادة هيكلية بنية الاتحاد الأوربي بما بتناسب مع تطلعاته وسياساته القومية المتشددة، وقد يلجأ مستقبلًا إلى إعادة النظر في صياغة مفهوم الوطنية والمواطن، والحقوق المدنية والسياسية للأقليات داخل الاتحاد الأوربي متبعًا بذلك تعظيم أكبر لسياسات العنصرية والفصل بين جميع الشرائح.

وعليه يمكن استقراء التداعيات وفق ما يلي

1_ تفكيك الاتحاد الأوربي

توجد العديد من الأسباب التي تعطي نذير أولي على تفكك الاتحاد الأوربي، فتأثير صعود قوى اليمين وانتقاده الحاد لما يعتبره استفراد للمؤسسات الأوربية في صنع القرار الوطني، قد تدفع دول الأعضاء في إعادة النظر في عضوية الاتحاد الأوربي، خصوصًا أن التأثير السلبي لقوى اليمين المتطرف متجهًا نحو الصعود في السنوات الأخيرة، وفي حال استمر في هذا الاتجاه قد يضغط على المدى البعيد للمطالبة في إعادة هيكلة الاتحاد الأوربي، وإلغاء عملة اليورو ووقف تدفق اللاجئين بشكل نهائي، والمطالبة بطرد اللاجئين الذين وصلوا بطرق غير شرعية، وإعادة التعريف الإثني لشعب كل دولة على حدا، ما ينم عن تهديد مباشر على مشروع أوربا الموحدة التي تسعى إلى تحقيقه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

كذلك إن استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، قد يدفع المزيد من الدول في الإقدام على هذه الخطوة، وقد تؤدي هذه الظاهرة إلى تفكك الاتحاد من الداخل، فالفراغ والثقل السياسي الذي سينتج عن خروج قوى كبرى كبريطانيا قد لا يستطيع أحدًا من الدول ملأه، كونها أكبر قوة في القارة الأوربية، وإحدى الدول النووية، وصاحبة عضوية دائمة في مجلس الأمن، فمع خروجها سيفقد الاتحاد الأوربي 12.5% من سكانه وقرابة 15% من قوة اقتصاده، عدا عن الاستغناء عن قوة عسكرية ذات تأثير مهم في الاتحاد الأوربي، وعلى صعيد سياسي فإن خروجها سوف يؤدي إلى فقدان 29 صوتًا من الأصوات في مجلس الوزراء الأوربي و73 مقعدًا في البرلمان الأوربي، لأجل كل هذه المقومات تصدر اليمين القومي المتطرف البريطاني حملة الاستفتاء، مروجًا إلى ضرورة إعادة لقب بريطانيا العظمى إليها، وتبنى نبرة عالية في مسألة الهجيرة المتزايدة، والحدود التي انفتحت على الشرق الأوربي، ومن ثم تأثير كل ذلك على الأمن والاقتصاد.

ويرى مراقبون أن الانقسام الأوربي الذي بلغ ذروته بعد ظهور الحركات الشعبوية اليمينية المتطرفة على السطح الأوربي، يعني أن القرار البريطاني بالانفصال عن الاتحاد ليس الأول ولن يكون الأخير، فبعد إعلان نتيجة الاستفتاء في بريطانيا التي تؤيد خروجها من الاتحاد الأوربي، انتاب الذعر للقطاع السياسي المشكل للاتحاد الأوربي، واعتبر رئيس البرلمان الأوربي السابق “مارتن شولتز” “أن المفوضية الأوربية تعيش فرصتها الأخيرة لإقناع المواطن الأوربي في المشروع الأوربي الوحدوي، مضيفًا في الماضي كانت أوربا ينظر لها على أنها ضمانة للأمن والسلام والثروة وفرص العمل، واليوم ينظر إليها على أنها سبب كل المشكلات التي تعيشها القارة الأوربية”[23].

2_ تردي في وضع الأقليات واللاجئين

إن ارتفاع مستوى العنف والجريمة ضد الأجانب والمهاجرين الناجمتين عن تنامي خطاب الكراهية عند أحزاب اليمين المتطرف، قد يقود على الصعيد الاجتماعي والسياسي إلى فرض المزيد من القيود الاجتماعية والثقافية على الأقليات والجاليات الأجنبية، بفعل فرض شروط تعجيزية بقضايا الاندماج والتجنيس.

كذلك ثمة مخاوف بشكل خاص على اللاجئين المسلمين واستمرار وضعهم موضع المسبب عن مشاكل العنف والأزمات الاقتصادية والسياسية داخل المجتمعات الأوربية، ذلك لأن استمرار تنامي ظاهرة صعود اليمين ستسمح لها بالتحريض أكثر على المسلمين وتكريس ظاهرة العداء لهم، بحجة الدفاع عن الهوية الثقافية الأوربية والعادات والتقاليد.

3_ انهيار وسائل الدفاع الأمنية

تعيش القارة الأوربية أزمة أمنية متصاعدة، بعد ارتفاع معدلات الجريمة والعمليات الإرهابية داخلها، لدرجة أنها أصبحت واقعة بين فكي كماشة من وطأة خطر اليمين المتطرف من جهة، وإرهاب التنظيمات الجهادية الراديكالية من جهة أخرى، فيوجد  المئات من المواطنين الأوربيين الذين انضموا إلى تنظيم الدولة داعش، ومؤخرًا أصبح الاتحاد الأوربي ينظر بحذر ويخشى من عودة الجهادين المحملين بأفكار متطرفة أن ينقلوها للداخل الأوربي، وينفذوا عمليات انتقامية كنوع من رد الاعتبار على تراجع حواضن الإسلام، لذا نرى أن الكثير من الدول كفرنسا وألمانيا ترفضان عودة المقاتلين الأوربيين، مع العلم أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد طالبت الدول الأوربية بضرورة تحمل المسؤولية في إنهاء ملف المقاتلين المحسوبين على تلك الدول[24]، لكن مازال هذا الموضوع يتخلله الكثر من التعقيد والجدل والذي ينم عن عدم وجود سياسية واضحة تفضي إلى أريحية في التعاطي مع إنهاء هذا الملف، ما يفسر أن السبب الأمني هو العامل الرئيس في إظهار سياسية التباطؤ الظاهرة في سياسات دول الاتحاد الأوربي.

وعلى صعيد دولي لا تزال دول الاتحاد الأوربي تدعم برامج خاصة لتحقيق نوع من الاستقرار في الدول التي تشهد حروب ونزاعات، للحد من ظاهرة الهجرة، لما يسبب ذلك حرجًا وخطرًا على أمنها القومي، فهي ترى أن توفير عوامل الاستقرار في دول النزاعات من قبل حكومات أو منظمات ستحد من ظاهرة الهجرة وتقود في نهاية المطاف إلى درء الأخطار عن أمنها القومي. كما تهدف من خلال دعمها لتلك البرامج للحد من ظاهرة العنف والإرهاب ومعالجة أسبابها على الصعيد الأيديولوجي والسياسي، لكن لا يوجد لحد الآن أي نتائج تذكر تقيم تلك السياسات.

ملخص الدراسة

_تشهد  الساحة الأوربية تحولات على مستويات متعددة، في العقد الأخير منها صعود لأحزاب يمينية متطرفة استغلت المناخ العام وتقلبات البيئة الداخلية للأحزاب السياسية التقليدية التي مازالت تبحث عن حلول لمشاكل متراكمة في قضايا الأمن الأوربي والاقتصاد والهجرة.

_يُمثل صعود اليمن المتطرف خطرًا على مصالح الاتحاد الأوربي الاقتصادية والسياسية المرهونة بارتباطات وتوازنات مع القوى الكبرى، بسبب تبني تللك الأحزاب رؤى سياسية واقتصادية خاصة بها مختلفة عن بقية الأحزاب السياسية بين يمين وسط ويسار وسط، الأمر الذي قد يضعها في موضع مواجهة وصدام مع جميع القوى السياسية بهدف تعزيز موقعها ضمن الخارطة السياسية.

_لم يكن وجود اليمين المتطرف في الأوساط الأوربية بالظاهرة الجديدة، فقد كانت الفاشية والنازية مهيمنة على أوربا في فترة الحربين العالميتين ( 1914- 1945) لكن مع تحميلها مسؤولية الكارثة الإنسانية  بدأت عمليًا في الابتعاد عن المشهد السياسي العام.

_مع بداية تسعينات القرن الماضي الذي شهد انهيار للاتحاد السوفيتي وتفكيك الكتلة الشرقية المتمثلة بحلف واسوا وتأسيس الاتحاد الأوربي ظهرت دول بدأت تعود لأصولها العرقية، الأمر الذي ساهم في بروز النزعة القومية عند الكثير من الأوربيين، كما رافق تأسيس الكيان السياسي للاتحاد الأوربي إظهار الأحزاب اليمينية واليسارية المتطرفة حالة عداء مع البرلمان الأوربي والمحكمة الأوربية العليا بذريعة تقويضهم للعقيدة القومية لبلدانهم، واتهامهم بأنهم يحتكمون قرار مصير بلدانهم.

_توجد العديد من العوامل التي ساهمت في صعود اليمين المتطرف في السنوات الأخيرة، منها عوامل داخلية مرتبطة بالواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي الأوربي، ومنها ما يتعلق بتبدل السياسيات الدولية.

_إن أحزاب اليمين المتطرف تصور المهاجرين على أنهم مصدر تهديد للهوية الوطنية ومنبع رئيسي للبطالة، ومصدرًا للرجعية وانعدام العقلانية، وقد نجح اليمين من خلال اعتماده على هذه الأفكار في تحقيق انتشار واسع في أوربا.

_ترتبط مسألة الإسلاموفوبيا بقضية تدفق المهاجرين، حيث أحيت تلك المسألة الجدل والنقاش حلو الخوف من الإسلام وتنامي مشاعر الكراهية والتعصب وتفاعلاتها مع توجهات الأحزاب اليمينية المتطرفة.

_إن ظهور تنظيمات راديكالية متطرفة كتنظيم الدولة داعش، وتبنيها لبعض العمليات داخل الاتحاد الأوربي، ما أعطى ذريعةً لأحزاب اليمين المتطرف أن يزيد من حدة العداء تجاه مبادئ الإسلام والمسلمين من الجاليات العربية ووضعها موضع المسؤول والمسبب عن العمليات التي ترتكبها تلك التنظيمات التي تحسب نفسها أنها مصدر أولي للإسلام في القرن الواحد والعشرين.

_مثّل التراجع السياسي الفكري لقوى الأحزاب التقليدية ثغرة استغلتها قوى اليمين المتطرف لتطرح نفسها كبديل فعال، والواقع أن نسبة كبيرة من الشرائح الأوربية قد لا تؤيد اليمين لكن احتجاجها عن أداء القوى المركزية في صناعة القرار الأوربي.

_إن تيار اليمين المتطرف الذي ينتمي إليه ترامب، وعلاقته الوطيدة مع رئيس الحكومة الإسرائيلي نتنياهو المنتمي لحزب يميني متطرف أعطيا زخمًا ودعمًا واضحين لقوى اليمين المتطرف في أوربا للبروز في المشهد السياسي العام الأوربي.

_رغم أن الأحزاب اليمينية المتطرفة لا تزال فارغة من محتوى ذاتي لها، إلا أن استمرار نهجها في استغلال الظروف والأخطاء لسياسات القوى التقليدية في سياساتهم الداخلية والخارجية، قد ينقلها من موقع المؤثر إلى الصانع، لاسيما إذا ما حققت نجاحات أكثر في الدورات الانتخابية، واستمرت في إحراجها للتيارات الليبرالية واليسارية بعد عجزها عن إيجاد حلول للمشاكل في السياسات الداخلية والخارجية لديها، وبالتالي ستدفع بالاتجاه في تقديم نفسها كقوى أساسية مدافعة عن حقوق المواطن الأوربي وأمنه المجتمعي. لذا فإن ما يمكن قوله: إنه في حال استمرت الأحزاب اليمينية بالصعود فسوف ينعكس ذلك في المدى القريب على ملف المهاجرين عبر التضيق عليهم أكثر من خلال انتزاع المزيد من الاجراءات الداخلية ضدهم، وعلى المدى البعيد سيسعى اليمين المتطرف إلى إعادة هيكلية بنية الاتحاد الأوربي بما بتناسب مع تطلعاته وسياساته القومية المتشددة، وقد يلجأ مستقبلًا إلى إعادة النظر في صياغة مفهوم الوطنية والمواطن، والحقوق المدنية والسياسية للأقليات داخل الاتحاد الأوربي متبعًا بذلك تعظيم أكبر لسياسات العنصرية والفصل بين جميع الشرائح.

خاتمة

يُفصح صعود اليمين المتطرف عن مؤشر خطير على مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان والتي يسعى الاتحاد الأوربي لترسيخها منذ لحطة تأسيسه، فهناك قلق كبير من هذا الزحف أن يقود إلى زيادة نسبة التأثير في صنع القرار الأوربي، بسبب تبنيه لأفكار ورؤى وبرامج تشكل خطرًا على مستقبل منظومة الاتحاد الأوربي، وعلى صعيد النظام العالمي المتصدع، فالتحولات والمتغيرات السياسية التي ظهرت مؤخرًا  لا تنحصر في نطاق جغرافي معين، بل شملت جميع الدول في العالم الغربي والأوربي والعربي، وقد سمح هذا التحول إلى انهيار منظومات دولية وصعود أخرى، وثالثة متناحرة فيما بينهما، وبجانب آخر سمح الوضع المتبدل إلى صعود بعض القوى الحربية المحلية كقوى اليمين المتطرف في الغرب وأوربا، بهدف إزكاء نوع من التأثر وفرض سياسية الوجود وتأكيد الهوية، مستغلًا بذلك أليات غير ذاتية، استمدها من طبيعة المتغيرات التي طرأت في دول الشرق الأوسط، فعمل على توظيفها داخل الاتحاد الأوربي وربطها بإرث تاريخي قديم، وقومي متجدد وديني متعصب، أعاد قولبتها في إطار نظري عام وبأليات مستحدثة من كراهية مستنبطة، وعدائية متجذرة، وعنصرية متفردة، بهدف الوصول للسلطة وتغير الواقع الحالي عبر رفع نسبة التأثير على سياسات الأحزاب التقليدية المتراجعة، ليكون هو البديل والحامي للعرق الأوربي على حساب إقصاء الآخر.

وعليه يتوجب على دعاة الديمقراطية التنبه للخطر المحدق بها، والقيام بتصحيح المسار وإعادة مسك زمام الأمور، إذا ما أرادت الوصول إلى ما تصبو إليه وتحافظ على سلم الإنجازات الذي قدمت في سبيله العديد من التضحيات منذ فترة انتهاء عصر الشيوعية والخلاص من ويلات أحقاب الفاشية والنازية التي كلفت البشرية ويلات لا زالت حاضرة في ذاكرة المجتمع الأوربي.

 

[1] http://bit.ly/2PdN5Kf

يسري، محمد، الاستبدال الكبير الجذور الفكري لهجوم نيوزيلاندا، نون بوست، ن- بتاريخ- 19- مارس/ آذار 2019، شوهد بـ16 إبريل، نيسان 2019

[2] http://bit.ly/2IDqfu3

أبو الهجاء وسام، اليمين الشعوبي في أوربا، النشأة والتطور، الخليج أون لاين، ن- بتاريخ 18- 12- 2016، شوهد بـ 16 إبريل/ نيسان 2019

[3] ستار جابر الجابري، أحزاب اليمين المتطرف في أوربا، دراسة في الأفكار والدور السياسي، دراسات دولية، العدد 35 ص 2 ، شوهد بـ 16- إبريل/ نيسان 2019

[4] http://bit.ly/2V1AbEl

د شرين حامد فهمي، صعود اليمين المتطرف في أوربا بين التفسير الثقافي والتفسير السياسي والاقتصادي، ص 1 ، شوهد بتاريخ 16- إبريل/ نيسان 2019

[5] http://bit.ly/2IlicTi

ريناس بنافي، صعود اليمين المتطرف، المركز العربي الديمقراطي، ن- بتاريخ 12 مايو 2017، شوهد بـ 16- إبريل/ نيسان 2019

[6] http://bit.ly/2GpSFWV

منصور حسين، صعود اليمين المتطرف في أوربا، المنبر التقدمي، ن- بتاريخ 9- يناير 2017، شوهد بـ 16- ابريل، نيسان 2019

[7] مرجع سابق د. شرين حامد فهمي، صعود اليمين المتطرف، ص 1 ، شوهد بـ 16 إبريل / نيسان 2019

[8] http://bit.ly/2V69r5M

DW  انتخابات ولاية هيسين، خسارة قاسية لحزب ميركل، شوهد بـ 18، إبريل، نيسان 2019

[9] http://bit.ly/2KJNyF5

مونت كارلو الدولية، الانتخابات التشريعية الفرنسية، ن- بتاريخ 18- 6- 2017، شوهد بـ 18- إبريل/ نيسان 2019

[10] http://bit.ly/2XmIGr6

الجزيرة، مرشح اليمين يتصدر نتائج الانتخابات الرئاسية في النمسا، ت- بتاريخ 24- 4- 2016، شوهد بـ 18، إبريل، نيسان 2019

[11] https://bbc.in/2Ppo8vv

BBC، فوز حزب فوكس اليميني المتطرف في إسبانا، ن- بتاريخ 3- ديسمبر/ كانون الأول 2018، شوهد بـ 18- إبريل/ نيسان 2019

[12] http://bit.ly/2IpgZKZ

الجزيرة، مناهضو أوربا يفوزون بانتخابات بولندا، ن- بتاريخ- 26- 10- 2015، شوهد بـ 18- إبريل/ نيسان 2018

[13] http://bit.ly/2UMxsPJ

فرنس 24 اليمين الدنماركي المعادي للمهاجرين إلى الحكم، ن – بتاريخ 19- 6- 2015، شوهد بـ 18 إبريل/ نيسان 2019

[14] http://bit.ly/2DoLyMx

صوت ألمانيا، الكشف عن خلية إرهابية تقوم بتنفيذ اعتداءات ضد المهاجرين، ن- بتاريخ- 21 إبريل 2016، شوهد بـ 18 إبريل/ نيسان 2019

[15] http://bit.ly/2UKpsPo

DW ألمانيا تصاعد الهجمات المعادية للسامية، شوهد بـ 18 إبريل/ نيسان 2019

[16] http://bit.ly/2Vayvsa

عرب 48، تقرير استخباراتي اليمين المتطرف في أوربا يسلح عناصره، ن- بتاريخ 22- 3- 2019، شوهد بـ 18 إبريل/ نيسان 2019

[17] مرجع سابق د. شرين حامد فهمي، صعود اليمين المتطرف ص 3، شوهد بـ 18 إبريل/ نيسان 2019

[18] مرجع سابق مرجع سابق د. شرين حامد فهمي، صعود اليمين المتطرف ص 4 شوهد بـ 18 إبريل/ نيسان 2019

[19] د. بلخير أسيا الإسلاموفوبيا في أوربا بين إرث الماضي وتحدي الحاضر، ، ( الاسلاموفوبيا في أوربا الخطاب والممارسة) ط 1 ، ص 205.

[20] http://bit.ly/2V8gHOw

إيمان عنان، ( صعود اليمين المتطرف في أوربا) مركز البديل للدراسات، ن- بتاريخ 19- ديسمبر 2016، شوهد بـ 18 إبريل، نيسان 2019

[21] http://bit.ly/2ZmvmF1

دانييلا كيتس فون أوندارزا، خارطة توزع القوى في المجلي النيابي الأوربي، إصدار مؤسسة العلوم السياسية التابعة للمعهد الألماني للسياسات الدولية والأمنية في برلين، ن- بتاريخ 2014 ، شوهد بـ 18- إبريل/ نيسان 2019

[22] http://bit.ly/2IlicTi

ريناس بنافي، صعود اليمين المتطرف، مركز العربي الديمقراطي، ن- بتاريخ 12- مايو 2017، شوهد بـ 18- إبريل/ نيسان 2019

[23] http://bit.ly/2VaQPkZ

العربي الجديد، مارتن شولتز، يهجر الاتحاد لتصدر المشهد الألماني، ن- بتاريخ 28- ديسمبر 2016، شوهد بـ 19- إبريل/ نيسان 2019

[24] http://bit.ly/2IN75Ce

الأناضول، ترامب يدعو أوربا لإعادة مسلحي داعش ومحاكمتهم، ن- بتاريخ 17-2- 2019، شوهد بـ 18- إبريل/ نيسان 2019

رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M