“صفر كوفيد “؛ تلك هي السياسة التي تتبعها الصين ضمن إجراءات السياسات الصحية العامة لمواجهة الجائحة، تفرض تلك السياسة قيودًا كبيرة على المدن والمواطنين وتتسبب في إغلاقها بصرف النظر عن كون تلك الحالات منخفضة العدد أو غيرها. لكن تلك السياسة أثرت بالسلب على الداخل الصيني لتدفع الشعب الصيني إلى التذمر، وتجاوزت تأثيراتها الحدود الصينية لترفع من تكاليف سلاسل التوريد عالميًا، وتصب المزيد من الوقود على نار تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي.
اندلعت مظاهرات في جميع أنحاء الصين بسبب إجراءات الإغلاق الصارمة التي تتخذها الحكومة والتي تأتي ضمن إجراءات سياسات الصحة العامة لاحتواء جائحة الكورونا في شكلها الجديد فيما يعرف بمتحور أوميكرون. طالب المتظاهرون بتخفيف القواعد وفتح البلاد، لكن السلطات الصينية والتي تطبق واحدة من أقوى الأنظمة المناهضة لكورونا في العالم تصر على فرض عمليات إغلاق صارمة حتى لو تم العثور على عدد منخفض من حالات كوفيد ، بل ويتم إجراء اختبار جماعي في الأماكن التي تم الإبلاغ فيها عن حالات، وعزل المصابين إما في منازلهم أو من خلال وضعهم في مراكز الحجر الصحي بالمنشآت الحكومية، ويتم إغلاق الشركات والمدارس والمتاجر بالأماكن المصابة، وهو ما يدفع الملايين من المواطنين إلى العيش في إجراءات الإغلاق الكامل للمدن.
تعد أكثر المدن الصينية إصابة بجائحة كوفيد مدينتي قوانغتشو في الجنوب وتشونغتشينغ في الجنوب الغربي؛ إذ تسجل هاتان المدينتان من سبعة إلى ثمانية آلاف إصابة يوميًا. ويعد الوضع في بكين العاصمة أكثر استقرارًا؛ إذ يتم الإبلاغ عن أربعة آلاف حالة جديدة فقط يوميًا، لكن التخوف الحقيقي هو أن نسب التطعيم بلقاح الفيروس في الصين تظل منخفضة؛ فخمسين بالمئة تقريبًا من سكان الصين الذين تبلغ أعمارهم 80 عامًا أو أكثر لم يتلقوا التطعيمات الخاصة بالفيروس، وترتفع تلك النسبة إلى 60 % لفئات السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 60 – 70 عامًا، وهو الأمر الذي يزيد من خطورة زيادة حالات الوفاة؛ إذ إن كبار السن هم الأكثر عرضة للخطر.
لكن واحدًا من أهم التحديات في إجراءات الصين لاحتواء الجائحة هو احتمالية ألا تكون اللقاحات الأساسية المستخدمة في الصين فعالة في مواجهة الجائحة خاصة متحور أوميكرون؛ إذ تستخدم الصين لقاحي سينوفاك وسينوفارم، وقد سبق أن رفضت الصين عروضًا غربية بتوفير لقاحات أكثر فاعلية تجاه ذلك الفيروس.
الأثر الاقتصادي لسياسة صفر كوفيد
قد تكون سياسة “صفر كوفيد” فعالة من ناحية السياسات العامة؛ ما يظهر في انخفاض عدد حالات الوفاة في الصين إلى حالة واحدة فقط لكل مليون، مقابل 3000 لكل مليون في الولايات المتحدة الأمريكية، وحوالي 2400 لكل مليون في المملكة المتحدة.
لكن من الناحية الاقتصادية هناك اعتبارات أخرى؛ إذ تؤثر تلك السياسات بشكر مباشر على الصين من الناحية الاقتصادية، وحيث إن الصين هي ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم فإن تأثيرها يعبر الحدود الصينية إلى الاقتصاد العالمي، فمن بين المدن التي تم إغلاقها مدينة “شنتشن” التي يقدر عدد سكانها بنحو 17.5 مليون نسمة والتي تعد مركز الصناعات التكنولوجية بالصين، ومدينة شانغهاي والتي تعد موطنًا لحوالي 26 مليون نسمة وهي مركز عالمي صناعي وتجاري ومالي.
هذا بالإضافة إلى أن حالات الإغلاق لم تقتصر على المدن، بل شملت الموانئ أيضًا، وتمتلك الصين ثمانية من بين أكبر عشرين ميناءً على مستوى العالم، وهو ما يعني أنه لا يوجد سلعة في أي منزل بالعالم تقريبًا لم تعبر عبر أحد الموانئ الصينية. وعلى سبيل المثال، شملت حالات الإغلاق ثلاث مدن صينية لديها ثلاثة من أكبر الموانئ بالعالم وهي شنغهاي وشنتشن ونينغبو، وتمثل هذه الموانئ ثلاثة من بين أكبر خمسة موانئ في العالم، ويعد أهمها شنغهاي والذي يتعامل مع حوالي 40 % من صادرات الصين.
أفقدت سياسات “صفر كوفيد” ميناء شنغهاي 45% من طاقة عملياته فيما يتعلق بالنقل والشحن، مما أدى إلى تأخر حوالي 80% من السفن، وهي نسبة أكبر بكثير من التوقف الذي حدث في عام 2020 عام الجائحة الرئيس والذي أغلقت فيه 20% فقط من عمليات الميناء. وتؤثر قرارات الإغلاق المفاجئ التي تتبعها الصين بشكل جوهري وسلبي على عمليات المشتريات من الصين، فقد باتت هناك عدم قدرة على التنبؤ بمدد سلاسل التوريد، وهو أمر يزيد من الخسائر الاقتصادية، خاصة وأن العالم يعاني من تحديات أكبر على رأسها الحرب الروسية الأوكرانية.
تسببت قرارات الإغلاق الصينية في ارتفاع تكاليف الشحن البحري عالميًا، فوصلت في بعض الأحيان إلى عشرة أضعاف أو عشرين ضعف سعر ما قبل الجائحة في السوق الفورية. وقد نقل ذلك الازدحام إلى الموانئ في الولايات المتحدة الأمريكية وإلى أوروبا، حيث تسببت تكاليف الشحن المرتفعة في ارتفاع أسعار السلع، وبالتتابع ارتفاع آخر في معدلات التضخم عالميًا.
حتى الوقت الحالي تزال الشركات في الصين تحاول التكيف مع هذا الوضع، خاصة وأن الاقتصاد الصيني لم يظهر أي علامة تشير إلى التباطؤ؛ إذ لازالت تفضل الشركات المستهلكة والمستوردة عالميًا التعامل مع الصين مرتفعة تكلفة الشحن للتجارة مع دولة منخفضة تكاليف الإنتاج، وفي ذلك الأمر تحاول الشركات خفض عدد سلاسل القيمة من خلال الاقتراب من بعض أو كل سلاسل التوريد الخاصة بها، لكن وعلى الرغم من أن ذلك الأمر يبدو منطقيًا على الحسابات الورقية، لكن في الواقع ذلك الأمر ليس بالأمر اليسير.
يبدو أن الإجراءات الصينية تجاه تعاملها نحو الجائحة بتطبيق سياسة “صفر كوفيد” تدفع العالم نحو الركود الاقتصادي أكثر من أي وقت مضى، وهو أمر يحتم على قادة الأعمال إعادة النظر في التفاصيل الدقيقة لقرارات الإنفاق مما يضمن إنفاقها بشكل جيد، ويضع تحديًا جديدًا أمام قادة الدول لتوجيه جزءًا أكبر من الاستثمارات إلى سلاسل التوريد والتي تعد الحل طويل الأمد للتغلب على التضخم السائد اليوم، والذي يأتي جزء منه بسبب ارتفاع تكاليف الشحن.
.
رابط المصدر: