عالم متغير: الأدوار المزدوجة لمنصات التواصل الاجتماعي

نسرين الشرقاوي

 

تعد منصات التواصل الاجتماعي اختراقًا تقنيًا أحدث تغييرًا جوهريًا في جميع أنحاء العالم، ما جعل البعض يصف هذه المنصات بأنها تشكل “إعلام العولمة” الذي لا يلتزم بالحدود الوطنية للدول، وإنما يطرح حدودًا افتراضية غير مرئية، ترسمها شبكات اتصالية معلوماتية على أسس سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية، لتقديم عالم من دون دولة ومن دون أمة ومن دون وطن. فتمكنا منصات التواصل من تأسيس مجموعة أو عدة مجموعات تتبنى مبادئ أو أفكارًا معينة بشكل مجاني دون الحاجة إلى أي تكلفة مادية. ونظرًا إلى أهمية منصات التواصل الاجتماعي في عالمنا المعاصر، تقدم هذه الورقة قراءة في تأثيرات استخدام منصات التواصل الاجتماعي على الأشخاص والأوطان.

جذور التواصل الاجتماعي

جذور التواصل ما قبل الإنترنت بدأت في 24 مايو 1844، بسلسلة من النقاط الإلكترونية والشرطات التي تم الضغط عليها يدويًا على “آلة التلغراف”، ثم بدأت الاتصالات الرقمية بظهور شبكة “أربانت ARPANET” أو وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة في عام 1969، والمستخدمة لأغراض علمية وأكاديمية؛ فسمحت هذه الشبكة الرقمية المبكرة التي أنشأتها وزارة الدفاع الأمريكية للعلماء في أربع جامعات مترابطة بمشاركة البرامج والأجهزة والبيانات الأخرى.

وفي عام 1987، ظهرت مقدمة مباشرة لإنترنت اليوم عندما أطلقت مؤسسة العلوم الوطنية شبكة رقمية أكثر قوة على الصعيد الوطني تُعرف باسم “NSFNET“. وبعد عقد من الزمان، أُطلقت أول منصة وسائط اجتماعية معروفة، وهو موقع “Six Degrees” في عام 1997، والذي مكّن المستخدمين من تحميل ملف تعريف شخصية وتكوين صداقات مع مستخدمين آخرين، مع إمكانية التعليق على الأخبار الموجودة على الموقع، وتبادل الرسائل.

https://cdn.broadbandsearch.net/2022/8/1661179080659-2._Social_Media_Timeline.png

وفي عام 1999، أصبحت مواقع التدوين الأولى شائعة، مما خلق إحساسًا بوسائل التواصل الاجتماعي لا يزال شائعًا حتى اليوم. وفي عام 2003، أُنشئ موقع “MySpace” وحقق نجاحًا هائلًا منذ إنشائه؛ إذ كان أكبر موقع للتواصل الاجتماعي في العالم من حيث عدد الزوار حتى 2008. وفي 2004، كانت العلامة الفارقة بظهور موقع “FaceBook” الذي يمكن مستخدميه من تبادل المعلومات فيما بينهم وإتاحة الفرصة أمام الأصدقاء للوصول إلى ملفاتهم الشخصية، وبعد ذلك توالى ظهور مواقع التواصل الاجتماعي تباعًا، ومنها: “تويتر” و “إنستجرام” و “تيك توك” إلى أن أنشئت منصة “كلوب هاوس” في 2020.

إحصاءات الواقع الافتراضي

أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تحظى باهتمام بالغ من قبل الأفراد في كافة أنحاء العالم، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك ” و”تويتر” و”إنستجرام” وغيرهـا مـن المواقع والتطبيقات التي تلقى إقبالًا كبيرًا بين أفراد المجتمعات.

وقد أصبحت أعداد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في تزايد مستمر؛ ففي عام 2012 كان أقل من 1.5 مليار شخص يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم، فيما وصل هذا العدد في عام 2015 إلى حوالي 2.1 مليار مستخدم في جميع أنحاء العالم، وفي عام 2020 وصلوا إلى حوالي 3.7 مستخدم، واليوم تضم منصات التواصل الاجتماعي أكثر من 4.1 مليار مستخدم، أي أكثر من نصف سكان العالم.

وفيما يتعلق بالعالم العربي، فقد وصل عدد مستخدمي مواقع التواصل عام 2019 إلى نحو 136.1 مليون شخص أي نحو 53% من عدد سكان الدول العربية. وتتفوق الدول العربية على الدول المتقدمة في فترة استخدام الإنترنت؛ حيث يبلغ متوسط الوقت المنقضي في أمريكا الشمالية ساعتين و6 دقائق؛ وفي أمريكا الجنوبية 3 ساعات و 24 دقيقة، وفي أوروبا ساعة و 15 دقيقة؛ وفي آسيا ساعتان و 16 دقيقة؛ وفي أفريقيا 3 ساعات و 10 دقائق.

أما في بعض الدول العربية على حدة فنجد أن متوسط مدة تصفح المستخدم في السعودية بلغ أربع ساعات و14 دقيقة، وفي مصر بلغ ثلاث ساعات و55 دقيقة، وفي الإمارات وصل إلى ثلاث ساعات و53 دقيقة، أما في المغرب فتبلغ المدة ثلاث ساعات و31 دقيقة، في حين نجد متوسط الوقت الذي يقضيه الأشخاص يوميًا على وسائل التواصل الاجتماعي حول العالم نحو 147 دقيقة وهو ما يعادل ساعتين وسبع وعشرين دقيقة.

كيف تم توظيف منصات التواصل الاجتماعي؟

رغم كثرة الإيجابيات التي تحملها مواقع التواصل الاجتماعي فإن استعمالها لا يخلو من سلبيات ومخاطر كثيرة أيضًا.

  • أولًا: توظيفات إيجابية

• حس التفاعل: إن لمواقع التواصل الاجتماعي فوائد متعددة لجميع فئات المجتمع في تنويع تدفق المعلومات، فيمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تضيف إبداعًا إلى التفكير، وتُمكن الناس من مشاركة آرائهم والعمل مع الآخرين، وتسمح للناس بالاستكشاف والمشاركة بنشاط دون خوف من الرفض.

• أهمية وظيفية: خلقت وسائل التواصل الاجتماعي أنماطًا جديدة للتواصل، مما كان له تأثير كبير على مستقبل الأشخاص. وجمعت كذلك ذوي الاهتمامات المشتركة معًا، ووسعت أفق الأفكار في جميع أنحاء العالم. ويُعد موقع LinkedIn أحد أعظم الأمثلة على كيفية مساعدة الشبكات عبر وسائل التواصل الاجتماعي للأشخاص في العثور على وظائف في مجال اهتماماتهم.

• اختراق الحدود: تمكن المنصات الاجتماعية الأفراد من إنشاء المحتوى ومشاركته وبناء علاقات طويلة الأمد واتصالات بعيدة المدى؛ حيث يمكن إرسال البيانات واستخدام الصور والفيديو والنصوص من أحد أطراف العالم إلى الطرف الآخر في غضون ثوانٍ.

• تشكيل الرأي العام: وسائل التواصل الاجتماعي لها دور كبير في مساندة قضايا مصيرية وتكوين رأي عام دولي حولها، عن طريق نقل الأفكار وتداولها بين عدد كبير من الأشخاص في مناطق مختلفة من العالم. وكذا قد تصبح القضايا المحلية عالمية؛ ففي يناير 2017 نمت مسيرة “المرأة في واشنطن” والتي كان غرضها الدعوة إلى التشريعات والسياسات المتعلقة بحقوق الإنسان وغيرها من القضايا بما في ذلك حقوق المرأة، لتصبح حدثًا عالميًا، حيث أقيمت مئات المسيرات الشقيقة ليس فقط في جميع أنحاء الولايات المتحدة ولكن في جميع أنحاء العالم. لو لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي سارية المفعول، فعلى الأرجح لم تكن المسيرة قد أصبحت معروفة على نطاق واسع كما كانت. فقد تعطي تغطية منصات التواصل الاجتماعي للبلدان الأخرى نظرة ثاقبة لما يحدث فيها، مما يؤثر على الطريقة التي قد يفهم بها الناس الثقافات الأخرى.

  • ثانيًا: توظيفات سلبية

• انعكاسات نفسية: أصبح من المستحيل تقريبًا تجنب الأخبار السيئة والتأثيرات السلبية المنتشرة على منصات التواصل على حياتنا. الأمر الذي يؤدي إلى تداعيات نفسية طويلة الأمد. وترتبط منصات التواصل الاجتماعي كذلك بالتسلط والإساءة عبر الإنترنت من قبل مستخدمين مجهولين، مما يؤدي إلى مشاكل احترام الذات والخصوصية. وقد أصبحت المقارنة مع حياة الآخرين سمة متلازمة بوسائل التواصل، بحيث يصبح الناس غير راضين عن ظروفهم الحالية، مما يؤدي إلى مشاكل احترام الذات والاكتئاب. إضافة إلى أن وسائل التواصل تؤدي إلى الغزو الفكري وخصوصًا لأصحاب الفكر السطحي.

• الانغماس في الواقع الافتراضي: مثلها مثل حالات الإدمان المرضي الأخرى، مما يؤدي إلى مشاكل شخصية واجتماعية، وقد ربطت بعض الدراسات إدمان مواقع التواصل بالاكتئاب واضطرابات النوم والسمنة وتعاطي الكحول. ويؤدي كذلك التنمر عبر وسائل التواصل وانتهاك الخصوصية إلى الاكتئاب الذي قد يصل إلى الانتحار.

• خلق الاستقطاب المجتمعي: من خلال ضعف الروابط الاجتماعية وتقسيم الناس إلى مجتمعات سياسية على الإنترنت قائمة بذاتها بشكل متزايد؛ فقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ساحة للاستقطاب وتوجيه الرأي العام نحو تغيير قناعات المجتمع في قضايا مصيرية ترتبط بمستقبل دولة ما، مما يفتح آفاقًا محتملة للتطرف تؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي.

وهذا ما شهدناه فيما سُميّ “أحداث الربيع العربي”؛ إذ كان لمنصات التواصل الاجتماعي دور حيوي في التعبئة السياسية التي بدأت في تونس ثم انتقلت إلى مصر وليبيا واليمن من خلال: الدعوة للمظاهرات والاحتجاجات، ونشر الأخبار والفيديوهات، والتحريض ضد الحكومات والدعوة إلى الإطاحة بها.

وفي اتجاه موازٍ؛ كشفت تقارير فرنسية عن مساعدة شركتي: “كامبريدج أناليتيكا” و”إجريجت آي كيو الكندية” في التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى فوز تيار الانفصال بالاستفتاء الذي حُسم بأقل من 2% من الأصوات. وكذلك من خلال منصات التواصل قد تستهدف بعض الجماعات أو المنظمات من أجل خدمة أجنداتهم قادة بعض الدول والحكومات باتهامات كاذبة محددة مثل الفساد أو عدم الولاء، أو حملات التشهير لتقويض مصداقيتهم.

• التحريض وانتشار الكراهية: تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي كأداة لنشر الكراهية والشائعات عبر الإنترنت، مما يؤدي إلى زيادة حالات العنف في المجتمع، نتيجة لتسهيل وتسريع وسائل التواصل الاجتماعي للأشخاص للنشر أو الانخراط في سلوك عنيف أو تحريضي تحت ستار الاختباء خلف شاشة الكمبيوتر.

وهذا ما شهدناه في الهند؛ حيث أدت الشائعات وخطاب الكراهية المنتشر على “واتساب” إلى عدد من الهجمات على المسلمين، فكان لوسائل التواصل الاجتماعي دور في تنشيط القومية الهندوسية العدوانية والإقصائية. بينما تصاعدت الأعمال العدائية بين الهند وباكستان في أعقاب مقتل 40 جنديًا هنديًا في كشمير، بسبب انتشار الوسوم “الهاشتاجات” العنيفة على “تويتر” من قبل القوميين في البلدين.

وكذلك لعب خطاب الكراهية والتحريض على الإنترنت في جمهورية أفريقيا الوسطى دورًا في تأجيج الفظائع بين المسيحيين والمسلمين في السنوات الأخيرة. أما في ميانمار فأظهرت كيف يمكن أن تنفجر الشائعات المزيفة على منصات التواصل من الواقع الافتراضي إلى الحياة الواقعية؛ فكانت حادثة 2014 علامة حمراء على “فيسبوك”، عندما نشر راهب على منصات التواصل بأن امرأة بوذية تعرضت للاغتصاب من زملائها المسلمين.

وأثبتت التحقيقات أن هذه القصة كانت مدبرة ولم تكن صحيحة، وأدين فيها خمسة أشخاص، ولكنها تسببت في غضب وعنف حقيقي في مدينة “ماندالاي” بين الأغلبية البوذية في ميانمار والأقلية المسلمة، ولم تتمكن السلطات من إعادة السلام إلا عندما تم حظر وصول مدينة ماندالاي إلى فيسبوك مؤقتًا. وكذلك وفر فيسبوك الخلفية وكان أحد العوامل لتصاعد العنف العرقي في ميانمار حيث فر أكثر من 700 ألف مسلم من الروهينجا منذ عام 2017.

• بوابة خلفية للإرهاب: تستخدم منصات التواصل الاجتماعي لنشر خطاب الكراهية والمعلومات المضللة والمحتوى المتطرف؛ فمنحت وسائل التواصل الاجتماعي لكل عنصري عنيف منصة عامة متاحة للاستخدام الدائم، بجانب أن إخفاء الهوية في وسائل التواصل الاجتماعي منح الدول القدرة على احتضان الكراهية والتحريض عليها عبر الحدود الدولية.

وكذلك تعتمد الجماعات الإرهابية على منصات التواصل الاجتماعي؛ في إضفاء الشرعية على العنف وتجنيد القتلة، وتمجيد الانتصارات؛ فعلى سبيل المثال كان لـ “تنظيم داعش” في العراق والشام أثناء صعوده وجود متطور على وسائل التواصل، بث من خلاله مقاطع الفيديو المصوّرة لعمليات الإعدام والهجمات والمحتويات الأخرى؛ الأمر الذي شجع أفراد الأقليات على الفرار من المنطقة الواقعة تحت سيطرتها.

وختامًا؛ يتضح أن استخدام منصات التواصل الاجتماعي التي أصبحت بديلًا عن التواصل الطبيعي، وأثرت على تماسك المجتمعات يحتاج إلى ضوابط، حيث لا يمكن لأي مجتمع منع العنف أو بناء السلام دون مراعاة دور منصات التواصل الاجتماعي.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/73432/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M