في ذكرى احداث 11 مارس، 26 ابريل مستقبل الطاقة النووية …الى اين؟

بقلم : د. عبدالسلام عبدالهادي – محاضر بقسم الفيزياء-جامعة جنوب الوادي

  • المركز الديمقراطي العربي

 

بالنظر الى المخاطر الصحية، والتكلفة المادية الباهظة الناجمة عن الحوادث النووية، فإن ذلك يستوجب على الحكومات الراغبة في امتلاك تلك التكنولوجيا ان تأخذ بعين الاعتبار ليس فقط التكلفة الانشائية لهذه المحطات، ولكن (وهو الأهم) على تلك الحكومات ان تكون على استعداد تام بتخصيص مبالغ مادية طائلة (توضع في حساب خاص، ولا تمس لأي سبب من الأسباب، وتحددها جهات مختصة). هذه المبالغ تكون جاهزة فوراً للاستخدام في حال وقوع اي كارثة نووية، سواء كانت هذه الكارثة ناشئة عن خطأ بشري كما في حالة محطة تشيرنوبيل، او نتيجة ظروف طبيعية مفاجئة، كما في حالة محطة فوكوشيما.

انها الطاقة يا اخي، كلمة السر الأعظم، نستخلص من تعريفها الذي اعتمده الفيزيائيون، انها تعادل الحياة، هي (فيما اعتقد) ظل الروح. بسببها نشأت حضارات ودول، وسببها اندثرت حضارات ودول، هي داعي الحرب والسلام. عرفها الإنسان، منذ وجوده على هذا الكوكب، وقدرها، ثم عبدها في صورة نار تارة، وفي صورة شمس تارة أخرى.  والإنسان كان ولا يزال في حالة بحث دائم عن مصادر جديدة للطاقة، يعوض بها الطلب المتنامي بسبب خطط التنمية المستدامة التي تطبقها البلدان.

امام الجلسة العامة للأمم المتحدة في 8 ديسمبر عام 1953 طالب الرئيس الأمريكي ايزنهاور بنزع الصبغة العسكرية عن السلاح النووي، ووضعه في الأيدي التي تعرف كيف توظفه للأغراض السلمية. ولا عجب اليوم ان نجد معظم البلاد (وخصوصاً من الدول النامية او دول العالم الثالث) التي تمتلك محطات نووية لتوليد الطاقة، تمتلك في نفس الوقت الأسلحة النووية.

تمر علينا هذه الأيام ذكرى حادثتين نوويتين صنفتا على انهما من الكوارث. ففي 11 مارس سنة 2011 كانت حادثة مفعل فوكوشيما الياباني. وفي 26 ابريل سنة 1986 كانت حادثة مفاعل تشيرنوبيل الروسي.

وظيفة النموذج المعاصر من المحطات النووية باختصار هي استخلاص أكبر قدر من الطاقة الحرارية الناشئة عن “الانشطار النووي” “nuclear fission” وتحويلها الى طاقة كهربائية.  يلعب نظام التبريد دورا محورياً في آداء تلك المهمة حيث يدخل سائل التبريد إلى قلب المفاعل عند درجة حرارة منخفضة ويخرج عند درجة حرارة أعلى بعد تجميع طاقة الانشطار. ثم يتم توجيه هذا السائل ذو درجة الحرارة المرتفعة إلى المكونات الديناميكية الحرارية التقليدية حيث يتم تحويل الحرارة إلى طاقة كهربائية.

ما حدث في فوكوشيما باليابان هو ان زلزالاً بقوة 9 على مقياس ريختر ضرب الساحل الشمالي الشرقي ، اعقب هذا الزلزال تسونامي عالي السرعة، مما ترتب على لك خسائر بشرية قدرت بما يقرب من 20000 ضحيه. لم تتوقف الخسائر عند ذلك، حيث كانت حالة العديد من محطات الطاقة النووية في هذه المنطقة مصدر قلق كبير في أعقاب الزلزال والتسونامي. فقد تم تلقائيًا وبشكل آمن اغلاق أربعة من تلك المحطات القريبة من مركز الزلزال. أما في محطة فوكوشيما دايتشيي، فقد تسبب الفيضان الناتج عن موجات التسونامي في إتلاف مولدات الطاقة الاحتياطية وتعطلت أنظمة التبريد في المفاعلات الثلاثة العاملة في تلك المحطة، أدى ذلك الى سخونة نوياتها لاحقًا، ثم حدث انهيار جزئي لقضبان الوقود. وفي 12 ، 14 ، 15 مارس حدثت انفجارات نتيجة زيادة الضغط في المباني الخارجية التي تحيط بالمفاعلات . وخوفاً من التسرب الإشعاعي حظرت الحكومة اليابانية الطيران في منطقة مداها 30 كيلو متر حول موقع الحادث، كما اخلت  74000 ساكن من مساحه قدرها حوالي 600 كيلو متر مربع.  ومع نهاية شهر مارس تم اكتشاف تلوث اشعاعي في مياه المحيط بالقرب من المحطة بمستويات عالية. وفي 12 أبريل، رفع المسؤولون مستوى خطورة حالة الطوارئ النووية من 5 إلى 7، وهو أعلى مستوى على المقياس الذي أنشأته الوكالة الدولية للطاقة الذرية  ( IAEA). استمرت عمليات الإخماد والتبريد حتى منتصف ديسمبر، حينها اعلن رئيس وزراء اليابان اكتمال عملية الإغلاق البارد للمحطة. ونتيجة لسرعة التحرك لاحتواء الموقف كانت الإصابات المباشرة بالإشعاع لدى المواطنين وعمال الإنقاذ والإطفاء محدودة. الا ان الإثر بعيد المدى الناجم عن التلوث الإشعاعي ظل الهاجس الأكبر حيث رجحت السلطات ان مناطق تحيط بالمحطة ستظل مهجورة لعقود. وبالنسبة للخسائر المالية، فحدث ولا حرج.، فوفقاً للمركز الياباني للأبحاث الاقتصادية فإن تكلفة تطهير موقع فوكوشيما تتراوح بين 470 الى 660 مليار دولار امريكي.

أما ما وقع في الإتحاد السوفياتي السابق (روسيا اليوم) فقد نجم عن خطأ بشري. فقد وقع الحادث في المفاعل رقم 4 في محطة تشيرنوبيل للطاقة النووية، وصنف بأنه أسوأ كارثة نووية في التاريخ من حيث التكلفة والخسائر، حيث شكلت مع حادثة فوكوشيما حادثتين فقط للطاقة النووية تم تقييمهما بالحد الأقصى من الخطورة. وقع الحادث عندما حاول الفنيون في وحدة المفاعل رقم 4 بالمحطة اجراء تجربة (وصفت بأنها سيئة التصميم). التجربة كانت عبارة عن محاكاة لحالة انقطاع التيار الكهربائي للمساعدة في تطوير إجراء أمان بغرض الحفاظ على دوران مياه تبريد المفاعل حتى تتمكن المولدات الكهربائية الاحتياطية من توفير الطاقة. كانت الفجوة الزمنية التي تستطيع خلالها المولدات الاحتياطية من استعادة دورة التبريد الى طبيعتها تبلغ دقيقة واحدة، حيث كانت هذه المدة تعد مشكلة في حد ذاتها. وكانت التجربة ترمي الى تقليلها. قام العمال بإغلاق نظام تنظيم الطاقة في المفاعل وأنظمة السلامة في حالات الطوارئ الخاصة به، وسحبوا معظم قضبان التحكم من قلبه مع السماح للمفاعل بمواصلة العمل بطاقة 7 بالمائة فقط. وفي صباح 26 أبريل سنة 1986، خرج رد الفعل المتسلسل في القلب عن السيطرة. اذ دوى انفجار قوي في المفاعل الرابع أدى إلى انصهار قلب المفاعل وأطلق سحبا من المواد المشعة فوق المنطقة المحيطة بالمحطة بينما اشتعلت نيران كثيفة عجز عمال الإطفاء عن إخمادها. وقد شارك حوالي 50000 ألف شخص من قوات الإطفاء والمهندسين وقوات الجيش والشرطة وعمال المناجم وعمال النظافة والفرق الطبية في عمليات مكافحة الحرائق والسيطرة على انصهار المفاعل ومنع انتشار المواد المشعة في البيئة في أعقاب الكارثة. وتشير التقارير الرسمية إلى أن 31 شخصا لقوا حتفهم في أعقاب انفجار المفاعل مباشرةً. ووفقاُ لموقع BBC فإن “تقديرات المركز الوطني لأبحاث الطب الإشعاعي في العاصمة الأوكرانية كييف، كشفت إلى أن عدد مواطني الاتحاد السوفيتي الذين تأثروا بالإشعاع في أعقاب كارثة تشيرنوبيل بلغ نحو خمسة ملايين شخص، منهم ثلاثة ملايين في أوكرانيا، ونحو 800 ألف في روسيا البيضاء.، وارتفعت معدلات الوفيات في المناطق الملوثة بالإشعاع مقارنة بالمناطق المحيطة بها في أوكرانيا. وطال الإشعاع مساحات شاسعة من الأراضي، إذ صنفت منطقة مساحتها إجمالا 150 ألف كيلومتر مربع من روسيا البيضاء وروسيا وأوكرانيا كمنطقة ملوثة بالإشعاع، ولا تزال منطقة الحظر التي تبلغ مساحتها 4,000 كيلومتر مربع، مهجورة بالكامل.” لم يقف الأمر عند هذا الحد بل انتشر الغبار المتساقط من السحب المشعة بفعل الرياح في النصف الشمالي من الكرة الأرضية وطال دولاً في شمال أوروبا. وقد قدرت تكلفة عمليات الإنقاذ واذالة آثار الإشعاع بما يقرب من 200مليار دولار أمريكي.

واليوم فإن الطاقة النووية تسهم بما قدره 10% من الطاقة العالمية، وذلك بانخفاض قدره 3% عن العام 2010 (13%) وقد يستمر هذا الانخفاض في المستقبل. فقد ساهمت الكوارث في الحد من التفاؤل الذي رافق خطاب ايزنهاور عام 1953. فمنذ تشغيل اول مفاعل تجريبي في عام 1951 فإن معدل انتشار المفاعلات كان يزداد بما مقداره 20 الى 30 مره كل عام. وبلغت الزيادة في الاعتماد على المحطات النووية ذروتها نهاية الستينات وبداية السبعينات. الا انه ومنذ العام 1951 وقع ما يربو عن 29 حادث نووي من بينها حادثتي فوكوشيما وتشيرنوبيل (للمزيد من المعلومات حول هذه الحوادث، والخسائر المتربة عليها ، انظر موقع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وموقع ويكبيديا) . ورغم ذلك فإنه من المنتظر ان تظل الطاقة النووية واحدة من مصادر الطاقة لعقود، وذلك لتعويض النقص المتوقع في امدادات الطاقة من الوقود الأحفوري (الفحم والبترول والغاز).

ويستمر التخطيط والعمل على انشاء محطات جديدة في الهند والصين وعدد من بلدان الشرق الأوسط. رغم ذلك فإن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لاحظت ان الاستهلاك الكلي للطاقة النووية في البلدان ذات الدخل المرتفع اقل مما تتطلبه خطط التنمية في هذه البلدان، مع ملاحظة زيادة في الاعتماد على الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ذات التكلفة المنخفضة. هذه المؤشرات تدل على ان بعض الدول قد تنبهت الى ان الاعتماد على الطاقة النووية، هو امر محفوف بالمخاطر.  وهو يؤدي ايضاَ الى ترجيح التراجع في الطلب على الطاقة النووية في المستقبل، ذلك وفقا لما أوردته مجلة “طبيعة” “ Nature”  المرموقة في افتتاحيتها (مارس 2021 ) والتي يمكن تعريب عنونها على النحو ” دور محدود للطاقة النووية في مستقبل طاقة العالم”  “ Nuclear power will have a limited role in the world’s energy.

والآن بالنظر، لكل من المخاطر الصحية، والتكلفة المادية الباهظة المترتبة على الأضرار الناجمة عن الحوادث النووية، فإن ذلك يستوجب على الحكومات الراغبة في امتلاك تلك التكنولوجيا ان تأخذ بعين الاعتبار ليس فقط التكلفة الانشائية لهذه المحطات، ولكن (وهو الأهم) على تلك الحكومات ان تكون على استعداد تام بتخصيص مبالغ مادية طائلة (توضع في حساب خاص، ولا تمس لأي سبب من الأسباب، وتحددها جهات مختصة). هذه المبالغ تكون جاهزة فوراً للاستخدام في حال وقوع اي كارثة نووية، سواء كانت هذه الكارثة ناشئة عن خطأ بشري كما في حالة محطة تشيرنوبيل، او كانت ناجمة عن ظروف طبيعية مفاجئة، كما في حالة محطة فوكوشيما.

وفي كل الأحوال فإن ذلك يستوجب من الدول التركيز على الطاقة المتجددة، كمصدر بديل للطاقة النووية، فهي تتميز بتكلفة انشائية منخفضة، ومن المتوقع ان تستمر هذه التكلفة في الانخفاض مستقبلاً، كما انها بدأت في الانتشار على المستوى التجاري المنظم. ومن الناحية البيئية فإن الطاقة المتجددة، هي من المصادر الصديقة للبيئة، حيث تري افتتاحية مجلة طبيعة ان الضمان الوحيدة لكي يصل العالم الى صافي مقداره صفر من الانبعاثات الكربونيةnet zero carbon emissions  ، يكمن في الاعتماد على الطاقة المتجددة. وهذ ما يدعونا الى مطالبة الدول للاستثمار في هذا المجال على المستوي الفردي وعلى المستوى الوطني. وأن تضمن الدعم والتمويل الازم للأبحاث العلمية في مجال انتاج وتوفير وايضاً الحفاظ على الطاقة. وللحديث في هذا الموضوع، وما يكتنفه من معوقات واعتراضات         (احياناً) من بعض الأكاديميين، تتمة.

 

 

رابط المصدر:

https://democraticac.de/?p=73632

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M