قطر والأردن: أسس التقارب ومجالاته

عبد العزيز الكيلاني

تعالج هذه الورقة زيارة أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، إلى الأردن الشهر المنصرم. وتتطرق إلى المؤشرات الرئيسية على أن العلاقات بين عَمَّان والدوحة تعود إلى طبيعتها تدريجيًّا عقب اتخاذ الأردن قرارًا بتخفيض تمثيله الدبلوماسي مع قطر بعد اندلاع الأزمة الخليجية. تتضمن الورقة ثلاثة محاور: المحور الأول: “إيران، وتركيا، والإسلام السياسي”، يفسر كيف أن الأسباب التي دفعت السعودية والإمارات والبحرين ومصر إلى فرض حصارها على قطر لا تنسجم بالضرورة مع الموقف السياسي الأردني. ولذلك، اتخذت عمَّان موقفًا أكثر استقلالًا بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة. المحور الثاني: “صفقة القرن وتحدياتها”، يتطرق إلى بعض تداعيات خطة السلام الأميركية للشرق الأوسط على الأردن. ويتحدث عن التقارب في وجهات النظر الأردنية والقطرية حيال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، التي تختلف مع مواقف بعض الدول الإقليمية كالسعودية والإمارات. المحور الثالث: “ضغوط اقتصادية مرهونة بالموقف السياسي”، ويدور حول الوضع الاقتصادي الأردني وتراجع المساعدات السعودية لعمَّان بسبب تعامل الأردن مع بعض القضايا الإقليمية.

منعطف الزيارات

أجرى أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، زيارة لمدة يومين إلى المملكة الأردنية الهاشمية، يومي 23 -24 فبراير/شباط الماضي. وجاءت الزيارة، التي كانت في إطار الجولة الخارجية الأولى لأمير قطر هذا العام، في أعقاب مؤشرات على تقارب في العلاقات بين عمَّان والدوحة خلال العامين الماضيين.

أحد هذه المؤشرات كان استقبال العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، في شهر أبريل/نيسان الماضي (2019) نائب رئيس مجلس الوزراء القطري وزير الدولة لشؤون الدفاع، خالد بن محمد العطية(1)؛ حيث أورد الديوان الملكي الأردني أن اللقاء تناول فرص التعاون بين البلدين، من خلال تفعيل اللجان المشتركة، وإقامة المشاريع بين الأردن وقطر(2). وقد شهدت تلك الزيارة توقيع العطية مع رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية –آنذاك- محمود عبد الحليم الفريحات، اتفاقيات تعاون عسكرية بين البلدين(3).

كما أن عودة العلاقات الدبلوماسية بين الأردن وقطر إلى مستواها الطبيعي أتت كمؤشر آخر على أن العلاقات بين البلدين تعود تدريجيًّا إلى طبيعتها؛ حيث كانت الحكومة الأردنية قد أعلنت، في شهر يونيو/حزيران 2017، تخفيض التمثيل الدبلوماسي مع قطر، في خطوة تأتي بعد إعلان كل من المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين، إلى جانب مصر قطع العلاقات مع الدوحة(4). لكن شهر سبتمبر/أيلول الماضي (2019) شهد تبادل السفراء بين الأردن وقطر؛ حيث وصل للعاصمة الأردنية، عمَّان، السفير القطري، الشيخ سعود بن ناصر آل ثاني، في حين وصل للدوحة، السفير زيد اللوزي، الذي كان يشغل منصب الرجل الثاني في وزارة الخارجية الأردنية(5).

وعلى الرغم من تخفيض الأردن لتمثيله الدبلوماسي مع قطر عند اندلاع الأزمة الخليجية، إلا أنه لم يقطع العلاقات بالكامل. كما أن التواصل بين عمَّان والدوحة بقي مستمرًّا خلال تلك الفترة. ولذلك، فإنه ليس من المستغرب أن يصف السفير القطري لدى الأردن، الشيخ سعود بن ناصر آل ثاني، في مقابلة على قناة “المملكة”، قبل أيام من زيارة الشيخ تميم إلى الأردن، فترة تخفيض التمثيل الدبلوماسي بـ”الدافئة”. ويمكن القول: إن استمرار التنسيق بين البلدين خلال تلك الفترة كان عاملًا مهمًّا لمنع إحداث أي شرخ دائم في العلاقات بين البلدين.

أضف إلى ذلك، أنه ليس من مصلحة عمَّان أن تكون المملكة جزءًا من أي صراع بين دول الخليج لأنها تجد مصلحتها في التعاون مع مختلف دوله، ولذلك يسعى الأردن للعب دور فعال في المنطقة، حتى لا يضطر إلى الانحياز، وللمحافظة على صورة إيجابية أمام المجتمع الدولي. وقد كان هذا النهج واضحًا في عدة مواقف سياسية تبنتها المملكة مثل تعاملها مع قضية الحرب في اليمن وكونها ثاني أكبر مستضيف للاجئين في العالم.

إيران، وتركيا، والإسلام السياسي

بعد نحو شهر من اندلاع الأزمة الخليجية، سلَّمت الكويت دولة قطر قائمة بمطالب دول الحصار(6). تضمنت المطالب خفض التمثيل الدبلوماسي مع إيران(7)، وتضمنت الإغلاق الفوري للقاعدة العسكرية التركية في قطر ووقف أي تعاون عسكري مع تركيا داخل الأراضي القطرية(8). فدول الحصار، وتحديدًا الرياض وأبو ظبي، ينظران إلى أنقرة وطهران على أنهما يشكِّلان تهديدًا مباشرًا لهما لكن هذا الأمر قد لا ينطبق على الأردن.

صحيح أن العاهل الأردني كشف في مقابلة أجراها مع قناة “فرانس 24” الفرنسية الشهر الماضي في رد على سؤال حول إمكانية استهداف إيران للأردن، أن بلاده تلقت تهديدات عديدة، مما جعلها تعلن حالة تأهب عسكري قصوى في 2019(9). لكن في الوقت نفسه، فإن طهران لا تشكِّل تهديدًا على أمن المملكة القومي بدرجة تضطر عمَّان أن تقوم بقطع علاقتها الدبلوماسية -مثلما فعلت السعودية والإمارات- مع قطر بسبب علاقات الأخيرة مع الجمهورية الإسلامية. كما أن الأردن لم يكن في مرمى نيران التصريحات الرسمية الإيرانية ذات النبرة المهددة مثلما كانت دول إقليمية كالسعودية.

ويرجع ذلك إلى أن الأردن ينأى بنفسه عن أن يكون جزءًا في محور ضد أية دولة أخرى، بما في ذلك إيران. فهو يتجنب أي صدامات سياسية يمكن أن تعرِّضه أو تعرِّض المنطقة للخطر وعدم الاستقرار. وقد ظهر ذلك من خلال انتهاجه سياسة خارجية معتدلة ومنفتحة على الحوار.

على نحو مماثل، لا تعيش العلاقات الأردنية-التركية التوتر ذاته الذي تعيشه دول الحصار مع أنقرة؛ حيث شهدت العلاقات بين الأردن وتركيا تطورات ملحوظة خلال العامين الماضيين. ولعل الزيارات المتبادلة التي جرت بين الجانبين مثال على هذا التطور في العلاقات بين عمَّان وأنقرة، لاسيما أنهما يتشاركان تقريبًا نفس الموقف من القضية الفلسطينية.

من ناحية أخرى، على الرغم من أن السعودية والإمارات تنظران إلى “الإخوان المسلمين” على أنها حركة إرهابية، إلا أن عمَّان لا تصنفها كذلك. فالعلاقة بين الدولة الأردنية وجماعة الإخوان المسلمين يمكن وصفها بالـ”تعايشية”، على عكس علاقة الرياض وأبو ظبي مع الحركة. وقد كشف نواب في كتلة الإصلاح النيابية في البرلمان الأردني المحسوبة على حزب جبهة العمل الإسلامي (الذراع السياسية للإخوان المسلمين غير المرخصة) في الأردن العام المنصرم عن عدة رسائل سياسية مطمئنة بعث بها الملك عبد الله الثاني في أول لقاء لهم معه في القصر الملكي، منذ فترة ما يُعرف بـ”الربيع العربي”(10). وقال عضو الكتلة، النائب صالح العرموطي: إن اللقاء كان “إيجابيًّا وتاريخيًّا”، ويشكِّل مرحلة جديدة من العلاقة بين الحركة والقصر(11).

لذلك، فإن بعض الأسباب الرئيسة التي دفعت السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر إلى فرض حصارها على قطر لا تنسجم بالضرورة مع الموقف الأردني من هذه القضايا. لكن عمَّان أقدمت على تخفيض التمثيل الدبلوماسي مع الدوحة بسبب ضغوط مورست عليها من قبل دول الحصار قبل أن تقرر عمَّان اتخاذ موقف أكثر استقلالًا بإعادتها إلى مستواها الطبيعي. وبالتأكيد، فإن تفهُّم قطر لهذا الأمر قد أسهم في إعادة العلاقات بين البلدين بشكل سلس.

من وجهة النظر الأردنية، يبدو أن زيارة أمير قطر ترسل رسالة مفادها أن المملكة تحرص على إبقاء نفس المسافة بينها وبين جميع الأطراف، وأن سياستها تنطلق من القيام بما يصب في مصلحتها الوطنية. أما بالنسبة لقطر، فإن الدوحة توجه رسالة أيضًا أنها منذ اندلاع الأزمة الخليجية، كانت تعيش مرحلة الصمود، لكنها بعد أن تجاوزت آثار الحصار، سواء سياسيًّا أو اقتصاديًّا، فإنها تحولت من مرحلة الصمود إلى مرحلة المبادرة واسترداد المناطق التي حاولت دول الحصار إخراجها منها.

“صفقة القرن” وتحدياتها

الزيارة تأتي بعد نحو شهر من إفصاح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن الشق السياسي من خطته للسلام في الشرق الأوسط، “السلام من أجل الازدهار”. لقد أكدت عمَّان مرارًا أن حل الدولتين هو السبيل الوحيد لتسوية القضية الفلسطينية. لكن واشنطن، بالإضافة إلى تجاهلها للدور الأردني في عملية السلام، فإن خطتها تنسف حل الدولتين، وهو ما سيمثِّل عدة تحديات مباشرة للأردن.

تفتقر الرؤية إلى إيضاح جليٍّ لدور الأردن كوصي على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس. وبما أن الخطة ترمي لوضع الأماكن المقدسة تحت السيادة الإسرائيلية، فإنها تُضعف على المدى الطويل دور المملكة التاريخي، الذي يُعتبر من ثوابت حكم النظام في الأردن.

كما أنه إضافة إلى عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجَّلين في الأردن والمقدر عددهم بنحو مليوني لاجئ، فإن ضم إسرائيل لغور الأردن ومستوطنات في الضفة الغربية، وهي خطوة تؤيدها الخطة، قد يؤدي إلى حملة جديدة من اللاجئين الفلسطينيين إلى الأردن، وهو ما سيكون له تداعيات سلبية على الاقتصاد الأردني.

وتأتي مسألة الضم في وقت تعيش فيه العلاقات الأردنية-الإسرائيلية حالة من الجمود غير المسبوق؛ ففي شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي (2019)، لم يُخْفِ العاهل الأردني أن علاقات بلاده مع تل أبيب في أسوأ حالاتها(12). وبالتالي، فإنه في حال مضي إسرائيل قدمًا بخطط الضم، والتي لا يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يود التراجع عنها، فإن ذلك سيؤثر سلبًا بشكل متزايد على العلاقات بين عمَّان وتل أبيب. ففي الثالث من مارس/آذار الجاري، كرَّر نتنياهو وعده بضم غور الأردن والمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، قائلًا لمؤيدين من حزب “الليكود” بعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات الإسرائيلية: “سنفرض سيادتنا على غور الأردن وسنضم المستوطنات”(13).

ليس من المستبعد أن تؤدي خطوة الضم إلى ارتفاع الأصوات المطالبة بإلغاء الاتفاقيات الموقَّعة مع إسرائيل بما في ذلك معاهدة السلام الأردنية-الإسرائيلية، المعروفة باسم “وادي عربة”، المبرمة عام 1994، مما سيضع الحكومة تحت ضغط كبير.

لقد أظهرت نتائج استطلاع للرأي، أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، أن 66% من الأردنيين مع إلغاء اتفاقية الغاز التي وقَّعتها شركة الكهرباء الأردنية مع شركة نوبل إنيرجي الأمريكية المستغلة للغاز الإسرائيلي(14). ومن المحتمل أن ترتفع هذه النسبة في حال إقدام نتنياهو على خطوة أحادية الجانب كضم الغور والمستوطنات؛ فالأردن يرفض تصفية القضية الفلسطينية على حساب المملكة.

هناك اختلاف بين موقف الأردن وإدارة الرئيس دونالد ترامب بشأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؛ ففي عام 2018، قال نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، أثناء تفقده قوات أميركية داخل قاعدة عسكرية عند الحدود السورية الأردنية في خضم زيارته للأردن، إنه والعاهل الأردني الملك، عبد الله الثاني، “اتفقا على أنهما مختلفان” على قرار ترامب بشأن اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل(15). وبالطبع، لم يكن مفاجئًا سماع ذلك؛ فالعاهل الأردني أوضح في أكثر من مناسبة موقف بلاده من القضية الفلسطينية، فيما أبدت الإدارة الأميركية انحيازًا كاملًا غير مسبوق لليمين الإسرائيلي المتطرف.

لقد تناولت المباحثات التي جرت بين ملك الأردن وأمير قطر عددًا من القضايا، في مقدمتها القضية الفلسطينية، وتأكيد دعم الشعب الفلسطيني وحل الدولتين(16). ومما لا شك فيه، أن هذا يدل على تلاقي وجهات النظر الأردنية والقطرية حيال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

ويبدو أن هذا الموقف الواضح بالنسبة للقضية الفلسطينية والرافض ضمنيًّا لخطة ترامب أصبح لا ينطبق على بعض حلفاء الأردن التقليديين في المنطقة. فوزارة الخارجية السعودية أصدرت بيانًا عقب كشف الرئيس ترامب عن “صفقة القرن” رحبت فيه بجهود الرئيس الأميركي ودعت لمفاوضات فلسطينية-إسرائيلية تحت رعاية الولايات المتحدة(17).

صحيح أن العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، هاتف الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وأكد وقوف المملكة إلى جانب الشعب الفلسطيني ودعم خياراته(18) لكن بيان الخارجية السعودية يبدو أنه كان موجهًا للاستهلاك الخارجي، على عكس المكالمة الهاتفية التي جمعت العاهل السعودي بالرئيس الفلسطيني التي بدت وكأنها موجهة للاستهلاك الداخلي.

كما أن صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية ذكرت في تقرير لها أن ولي العهد، محمد بن سلمان، عمل بشكل مقرب مع صنَّاع السياسة الأميركية حول الخطة، في وقت تمسك فيه والده، الملك سلمان، بالدعم الثابت للدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وهو ما أدى لحدوث صدع في السياسة الخارجية السعودية(19). ولعل ذلك يكون سببًا في تباين المواقف السعودية حيال هذه القضية.

هذا، واعتبرت السفارة الإماراتية في واشنطن في بيان نشرته على موقعها الرسمي أن “الخطة المعلنة… بمنزلة نقطة انطلاق مهمة للعودة إلى المفاوضات ضمن إطار دولي تقوده الولايات المتحدة”(20). ويبدو أن الأردن يدرك أن موقف الجامعة العربية الرافض للخطة ليس أكثر من حفظ لماء الوجه؛ فليس هناك انسجام بين مواقف بعض الدول فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وتصويتها.

وفي الوقت الذي يصعب فيه على الأردن الوقوف وحيدًا في مواجهة هذه الرؤية الأميركية، فإن دعم قطر لوصاية الأردن على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس وتأكيدها على موقف المملكة حيال القضية الفلسطينية لن يجعل الأردن يبدو في عزلة سياسية أمام التحديات التي يواجهها برفضه لـ”صفقة القرن”.

ولا غرو أنه رغم الحصار، فإن الدوحة قد استطاعت تنشيط حركتها الدبلوماسية طوال العامين الماضيين، وقد كان دورها جليًّا فيما يتعلق بعدة ملفات سياسية مهمة كالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وخصوصًا ملف التهدئة بقطاع غزة الذي تلعب فيه دورًا بارزًا ومكَّنها من أن تكون عامل هدوء واستقرار في قطاع غزة وعاملًا مهدئًا للتوترات الأميركية-الإيرانية، بالإضافة إلى استضافتها لمحادثات السلام بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، والتي أسفرت عن اتفاق تاريخي بين الطرفين في نهاية شهر فبراير/شباط المنصرم (2020).

ضغوط اقتصادية مرهونة بالموقف السياسي

يعاني الأردن من عدة تحديات اقتصادية في السنوات القليلة الماضية، منها: البطالة، والعجز في الموازنة، والمديونية والفقر. بالطبع، هذه التحديات ليست وليدة اليوم، لكن تراجع المساعدات الخارجية كان سببًا في ازديادها سوءًا في الأعوام القليلة الماضية، وبالتالي تأثيرها السلبي على الاقتصاد الأردني.

ففي الوقت الذي تحاول فيه عَمَّان تجنب صدام مباشر مع واشنطن لعدة أسباب منها اعتماد المملكة على أكثر من مليار دولار من المساعدات العسكرية والاقتصادية الأميركية، انتهجت دول إقليمية كالسعودية تحديدًا، سلوكًا فيما يتعلق بمساعداتها للأردن بدا وكأنه مرهون بمواقف عمَّان السياسية.

على سبيل المثال، بعد انتهاء مدتها، لم تتجدد المنحة التي أقرها المجلس الأعلى لمجلس تعاون دول الخليج العربية، في عام 2011، بتخصيص خمسة مليارات دولار لتمويل مشاريع تنموية في الأردن على مدى خمسة أعوام(21). كما أنه يبدو أن المساعدات المتعلقة بالصندوق السعودي-الأردني للاستثمار الذي تم إنشاؤه عام 2017 قد شهدت تأخيرات. هذا، وعندما أدت الاحتجاجات العارمة التي شهدها الأردن، في يونيو/حزيران 2018، إلى استقالة رئيس الوزراء، هاني الملقي، تعهدت كل من السعودية والإمارات والكويت بتقديم مساعدات إلى عمَّان تبلغ قيمتها 2.5 مليار دولار في قمة عُقدت بمكة المكرمة بحضور الأردن، لكن هذه المساعدات لم تصل بأكملها إلى الأردن حتى اليوم.

لا ينحصر هذا الأسلوب بالتعامل مع الأردن وحده؛ فقد أُفيد بأن ثمة تراجعًا حادًّا في مساعدات السعودية بالإضافة إلى الإمارات للمغرب كذلك(22). وليس سرًّا القول: إن موقفي عمَّان والرباط من الحرب في اليمن والأزمة الخليجية قد أزعجا الرياض، وبالتالي يبدو أنهما كانا عاملًا أساسيًّا في تراجع المساعدات الموعودة.

صحيح أن علاقات السعودية جيدة مع كل من الأردن، والمغرب، ومصر، إلا أن معاملة الرياض للقاهرة فيما يتعلق بالمساعدات تختلف عن طريقة تعاملها مع عمَّان والرباط؛ فقد قدمت الرياض عشرات المليارات من الدولارات على شكل مساعدات وإمدادات وقود لمصر مقابل تعهد القاهرة بدعمها الدبلوماسي، والسياسي والعسكري الكامل للسعودية(23).

إن المعضلة تكمن في أن سياسة السعودية في عهد الأمير محمد بن سلمان، الذي يُعتبر الحاكم الفعلي للمملكة، لم تتخل فقط عن نهج “الدبلوماسية الهادئة” التي عُرفت بها طويلًا، ولكن أيضًا يبدو أنها لم تعد تلتزم بمساعداتها للدول “الشقيقة” إيمانًا منها بضرورة مساندة تلك الدول لارتباطات طويلة، ولكن باتت صفقات ظرفية للحفاظ على نفوذها على بعض تلك الحكومات. لكن الأردن لم يقبل أن يتبنى كل المواقف السعودية وحتى وإن كانت مضرَّة بمصلحته من أجل الحصول على المساعدات الاقتصادية.

بعد يومين من تعهد الدول الخليجية بتقديم مساعداتها للأردن في قمة مكة، أعلنت قطر في 13 يوليو/تموز من عام 2018، تخصيص عشرة آلاف وظيفة للأردنيين للعمل على أراضيها، وتعهدت باستثمار 500 مليون دولار في مشاريع في المملكة(24). وخلال زيارته إلى المملكة الشهر الماضي، وجَّه الشيخ تميم بن حمد بتوفير 10 آلاف فرصة عمل للمواطنين الأردنيين، إضافة إلى العشرة آلاف وظيفة التي وفرتها الدوحة سابقًا، كما وافقت قطر على دعم صندوق التقاعد العسكري الأردني بمبلغ 30 مليون دولار(25).

خاتمة

غرَّد أمير دولة قطر حول زيارته إلى المملكة قائلًا: “سعدت بزيارتي إلى الأردن التي ستعزز العلاقات الأخوية وتزيد التعاون بين البلدين في مجالات عدة كالاستثمار والرياضة والطاقة وتبادل الخبرات”، مضيفًا أن الزيارة “ستعزز مسيرة العمل العربي المشترك ومصالح شعوب المنطقة، المتطلعة لتعزيز التكاتف لمواجهة التحديات التي تحيط بنا جميعًا”(26).

ولعل ذلك ينبئ أن المرحلة المقبلة ستشهد تعاونًا أكبر بين البلدين في شتى المجالات؛ إذ أصبح جليًّا أن هناك تقاربًا متزايدًا في المصالح ووجهات النظر بين عمَّان والدوحة. فلا شك أن العلاقات بين قطر والأردن اليوم أفضل مما كانت عليه حتى قبل تخفيض التمثيل الدبلوماسي. ولعل ما سنراه قريبًا هو تداعيات هذا التفاهم الأردني-القطري على تصحيح بعض الاختلالات في قضايا المنطقة، وفي مقدمتها القضية المركزية الفلسطينية.

مراجع

(1) الملك يستقبل العطية، صحيفة الرأي،17  أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول1 مارس/آذار2020 :

http://alrai.com/article/10479721/ 

(2) اتفاقيات عسكرية… ماذا وراء زيارة وزير دفاع قطر إلى الأردن؟، وكالة سبوتنيك،18  أبريل/نيسان   2019، (تاريخ الدخول1 مارس/آذار2020): bit.ly2v15wMu

(3) يوسف، أحمد: مباحثات قطرية أردنية لتعزيز التعاون العسكري، وكالة الأناضول،8  ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول  2مارس/آذار2020): bit.ly/2TMMCBs

(4) الأردن يقرر تخفيض التمثيل الدبلوماسي في قطر وسحب تراخيص الجزيرة، سي إن إن العربية، 6 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول 2 مارس/آذار 2020): https://arabic.cnn.com/middle-east/2017/06/07/jordan-qatar-diplomacy

(5) فضيلات، أيمن، الأردن وقطر.. عودة السفراء تكسر جدران الحصار، الجزيرة نت،4  سبتمبر/أيلول2019، (تاريخ الدخول 2 مارس/آذار 2020): bit.ly/38orjLt

(6) وثيقة تكشف مطالب دول الحصار من قطر، الجزيرة نت،23  يونيو/حزيران2017 ، (تاريخ الدخول 2 مارس/آذار 2020): bit.ly/2VOJFD2

(7) المصدر السابق.

(8) المصدر السابق.

(9) حصري- الملك عبد الله الثاني: لا يمكننا أن نترك المنطقة في حالة عدم استقرار، فرانس 24،13  يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020): bit.ly/2IpEyRA

(10) غبون، هديل، في اجتماع “إيجابي”.. الإخوان المسلمون يشكرون العاهل الأردني لعدم إدراجهم على قوائم الإرهاب، سي إن إن العربية، 16 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020): https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2019/04/16/muslim-brotherhoo…

(11) المصدر السابق.

(12) الملك: العلاقات الأردنية مع تل أبيب في أسوأ حالاتها الآن، رؤيا، 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020):   https://royanews.tv/news/197565

(13) أرناؤوط، عبد الرؤوف، نتنياهو: سنضم غور الأردن والمستوطنات، وكالة الأناضول، 3  مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020):  bit.ly/3atKwNobi

(14) “الدراسات الاستراتيجية”: غالبية الأردنيين مع إلغاء اتفاقية الغاز، صحيفة الغد، 5 فبراير/شباط 2020، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020): bit.ly/3czHide

(15) قادمًا من الأردن.. أمير قطر يزور تونس ويجري مباحثات مع رئيسها، الجزيرة نت،24  فبراير/شباط 2020، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020):   bit.ly/2TFTFf9

(16) بنس: أنا والعاهل الأردني متفقان على اختلاف وجهات النظر بشأن القدس، روسيا اليوم، 21 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020):  bit.ly/2Imtu83

(17) “صفقة القرن”.. السعودية “تقدر” جهود ترامب وتدعو لمفاوضات مباشرة، وكالة الأناضول، 29 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020):   bit.ly/2ToJ8pE

(18) الملك سلمان لمحمود عباس: نقف بجانب الشعب الفلسطيني وندعم خياراته، المواطن، 29 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020):  bit.ly/3azB2jU

(19) وول ستريت جورنال: دعم دول عربية لخطة ترامب يعكس تقاربها مع إسرائيل وتغير أولوياتها، القدس العربي، 30 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020):  bit.ly/2TFnIU9

(20) الإمارات تعلن دعمها خطة “صفقة القرن” المزعومة، وكالة الأناضول، 29 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020):  bit.ly/2VO1rGs

(21) مجموع المبالغ المحولة من المنحة الخليجية 1،6 مليار دينار، صحيفة الرأي، 19 أبريل/نيسان 2017، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020):  http://alrai.com/article/10386945/

(22) قماس، مصطفى، تراجع حاد في مساعدات السعودية والإمارات للمغرب، العربي الجديد، 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020): bit.ly/38wDuGe

Haykal, Bernard (2017), Saudi Arabia And Egypt: An Uneasy Relationship, Hoover(23) Institution, March 14, accessed at https://www.hoover.org/research/saudi-arabia-and-egypt-uneasy-relations… 01 March 2020

(24) قطر تخصص 10 آلاف وظيفة للأردنيين وتقدم 500 مليون دولار على شكل استثمارات، فرانس 24، 13 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول 4 مارس/آذار2020): bit.ly/2VNW5uP

(25) قمة قطرية أردنية.. الدوحة تدعم صندوق التقاعد العسكري الأردني وتوفر 10 آلاف فرصة عمل للأردنيين، الجزيرة نت، 24 فبراير/شباط 2020، (تاريخ الدخول 4 مارس/آذار 2020):

bit.ly/2xfx0i9

(26) أمير قطر: زيارتي إلى الأردن ستعزز التعاون الثنائي، المملكة، 24 فبراير/شباط  2020، (تاريخ الدخول 4 مارس/آذار 2020):   bit.ly/39tWR48

 

رابط المصدر:

https://studies.aljazeera.net/ar/article/4597

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M