كورونا 19: تخبط دولي واختناق اقتصادي

مركز الجزيرة للدراسات

مع منتصف مارس/آذار (2020)، تجاوز عدد الحالات المؤكدة للمصابين بالمرض الذي يُسبِّبه فيروس كورونا المستجد، أو كورونا 19 (Covid-19) المئة والستين ألفًا. أغلب الإصابات سُجِّلت في الصين، التي يُعتقد أنها منبع المرض؛ ولكن عددًا من الدول الأخرى أعلن عن عدة آلاف من الحالات، مثل: إيران، وكوريا الجنوبية، وإيطاليا، وإسبانيا، والولايات المتحدة، وألمانيا. ولأن أغلب دول العالم التي أعلنت عن إصابات، وقد قاربت 160 دولة، لا يقوم بفحوصات منهجية وواسعة النطاق للسكان، يعتقد علماء الأوبئة أن حجم الإصابات عبر العالم يفوق مئات الآلاف.

في 13 من مارس/آذار، أعلنت منظمة الصحة العالمية، المنظمة الدولية المسؤولة عن مراقبة الأوبئة وتنسيق جهود دول العالم لمكافحتها، أن مرض كورونا 19 أصبح بالفعل وباء عالميًّا. وكانت المنظمة ترددت في تبني مثل هذا الإعلان تجنبًا لإطلاق حالة عالمية من الهلع، بدون أن يعفيها ذلك من الانتقاد. في اليوم التالي، أكدت المنظمة أن أوروبا أصبحت بالفعل بؤرة لانتشار للوباء (epicenter)، مثلها مثل الصين وإيران.

في 14 مارس/آذار، وبعد استخفاف وارتباك استمر لأسابيع، أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حالة الطوارئ القومية لتسهيل إجراءات الحكومة الفيدرالية في مواجهة الوباء. وقد جاءت هذه الخطوة بعد يوم واحد فقط من نشر تقدير لمديرة الصحة العامة في ولاية أوهايو، التي قدَّرت أن عدد الإصابات في الولاية تجاوز ربما المئة ألف إصابة؛ بالرغم من أن رقم الحالات المؤكدة عبر الولايات المتحدة لم يكن تجاوز الأَلْفَي حالة بكثير.

إنسانيًّا، أدى الوباء حتى منتصف مارس/آذار إلى وفاة الآلاف من البشر. أغلب الوفيات سُجِّل في الصين؛ ولكن دولًا أخرى، مثل إيران وإيطاليا، تسجل هي الأخرى أعدادًا متزايدة من الوفيات كل يوم. ولأن بعض الدول لا تكترث بإجراء فحوصات على من أظهروا أعراضًا شبيهة بأعراض كورونا 19، فلابد أن أعداد الوفيات أكبر بكثير مما أُعلن حتى الآن.

اقتصاديًّا، تتزايد المؤشرات على أن الوباء يدفع الاقتصاد العالمي إلى ركود لا يقل فداحة، إن لم يزد، عن الركود الذي ولدته أزمة 2008 المالية-الاقتصادية. بتراجع عجلة الإنتاج الصينية، وتراجع الطلب عبر العالم، يُتوقع أن يجر الاقتصاد الصيني، باعتباره قاطرة رئيسة للاقتصاد العالمي، العالم معه إلى الركود. ولكن الصين ليست وحدها.

ثمة دول أُغلقت كلية أو بصورة شبه كلية، ولأجل غير محدد، مثل: الكويت، وأوكرانيا، وتشيكيا، وفرنسا. كما أن حركة الأعمال والتجارة والطيران والسياحة عبر العالم أُصيبت في مقتل. ولترافق الوباء مع انخفاض كبير في أسعار النفط، تبدو الدول المنتجة للنفط وكأنها مقبلة على سنوات عجاف. وربما يؤشر الانهيار الفادح، خلال الفترة بين 10 و13 مارس/آذار، في أسواق المال العالمية، إلى أزمة اقتصادية متفاقمة وطويلة المدى.

أي وباء هذا؟ كيف فاجأ العالم بهذه الصورة المرعبة؟ ومن أين جاء؟ لماذا تتباين سياسات الدول المختلفة في مواجهته؟ وكيف يؤثر سلوك دولة ما على دول العالم الأخرى وشعوبها؟ وإلى أي حد يمكن للمجتمع الإنساني مكافحة الوباء والحد من مخاطره في الشهور القليلة المقبلة؟

سريع وفتاك
طبقًا للغارديان البريطانية (14 مارس/آذار 2020)، ظهرت الحالة الأولى من مرض كورونا 19، بمدينة ووهان الصينية، في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أي قبل شهر كامل من الإعلان الصيني الرسمي عن ظهور المرض. وفي نهايات ديسمبر/ كانون الأول 2019، كما هو معروف، اعترفت السلطات الصينية بوجود مرض مُعدٍ خطير، يصيب الجهاز التنفسي، في ووهان ومحيطها، وذلك بعد ضغوظ داخلية وخارجية تعرضت لها بيجين. كما احتاج الأمر عدة أسابيع أخرى، قبل أن تبدأ السلطات الصينية فحوصات منهجية في منطقة انتشار الوباء وللمشتبه بإصابتهم، ويتضح حجم انتشار الوباء في الصين، ومخاطره القاتلة، وسرعة انتقال الفيروس الكبيرة نسبيًّا.

المؤكد الآن أن هذا مرض يتسبب به فيروس من نوع كورونا لم يسبق التعرف عليه من قبل. هناك العديد من أصناف الكورونا المعروفة لعلماء الفيروسات، أغلبها لا يتسبب سوى بإصابات لا تتعدى ما يُعرف بنزلة البرد العام. خلال العقدين الماضيين، شهد العالم بروز صنفين جديدين من الكورونا، تسبب الأول في مطلع القرن بما يُعرف بمرض سارس (SARS)، والثاني، بعد ذلك بسنوات قليلة، بمرض ميرس (MERS). يُعتقد أن منبع الأول كان الصين، ومنبع الثاني كان العربية السعودية؛ وأن كليهما انتقل من الحيوانات إلى الإنسان. امتاز سارس بسرعته المتوسطة في الانتشار، وتسببه في موت ما يقارب 7 بالمئة من المصابين؛ بينما كان ميرس أشد وقعًا، مع معدل انتشار أبطأ بكثير.

في المقابل، يبدو أن كورونا 19 لا يقل قدرة على القتل من سارس، ولكنه أسرع انتشارًا بدرجات ملموسة. بكلمة أخرى، لم يُعرَف هذا الصنف من كورونا، كما سابقيْه، من قبل؛ وهو ما يعني أن البشرية لم تكتسب أي مستوى من المناعة ضده. ولكن، وبخلاف سابقيه، يتمتع كورونا 19 بسرعة انتشار فائقة وبأثر قاتل كبير في الوقت نفسه. فما مصدر هذا الفيروس؟

إنْ أُخذت المعرفة المتعلقة بفيروس الإنفلونزا، الذي يتسبب هو أيضًا بإصابة الجهاز التنفسي، وسبق أن أحدث أكثر من موجة وبائية منذ مطلع القرن العشرين، في الاعتبار، فالأرجح أن فيروس كورونا المستجد قد تطور في الحيوان. وبالرغم من أن معرفتنا بهذا الفيروس لم تزل محدودة، يعتقد قطاع من علماء الفيروسات أن كورونا 19 وُلد ربما في الخفافيش، ومنها انتقل للإنسان في الصين، حيث بدأ انتقالًا بطيئًا بين البشر، بدون حتى التسبب بأعراض مرضية واضحة، إلى أن تأقلم وراثيًّا وأصبح أكثر قدرة على الانتشار وأكثر أثرًا في إحداث المرض.

فيروس إنفلونزا 1918–1920، الذي يُقدَّر بأنه قتل ما يزيد عن العشرين مليونًا من البشر، وعُرف بالإنفلونزا الإسبانية (H1N1)، يُعتقد أن مصدره الأول كان حظيرة خنازير بكنساس، ومنها انتقل الفيروس للإنسان، محدثًا وباء قاتلًا في الولايات المتحدة وأوروبا، وعدد آخر من دول العالم. وكذلك كان وباء إنفلونزا 1968 (H2N3)، الذي ظهر للمرة الأولى قرب حظيرة خنازير في تايوان. علميًّا، تلعب حيوانات، مثل الخنازير، وبعض الحيوانات البرية، والطيور المهاجرة، دور حاضنة للفيروسات؛ حيث يمكن أن يمر نوع ما من هذه الفيروسات بما يُعرف بالتحور الجيني، الذي يفضي إلى ولادة صنف مستجد من هذا الفيروس. ولكن عوامل أخرى لابد أن تتوفر قبل أن ينتقل الفيروس الجديد للإنسان، أو الحيوان، ويصبح قادرًا على الانتشار والتسبب في المرض.

الحديث، الذي ألمح إليه ناطقون صينيون وإيرانيون، بأن كورونا 19 لم يكن سوى فيروس وُلد في مختبر أميركي للحرب البيولوجية، وأن الأميركيين هم من نشر المرض، ليس عليه دليل واحد، ويدحضه انتشار الفيروس بأمريكا وعجز الإدارة الأمريكية عن السيطرة عليه. فمنذ بدايات المعرفة بسلوك هذا الفيروس أصبح واضحًا أنه سريع الانتشار وأنه في سبيله لإحداث وباء عالمي. وليس ثمة شك في أن كورونا 19، وبعد أسابيع فقط من تسجيله للمرة الأولى، بدأ في توليد أزمة صحية عالمية، ليس للصين وإيران وإيطاليا وحسب، ولكن لمعظم دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة كذلك.

يهاجم كورونا 19 الجهاز التنفسي، محدثًا أعراضًا شبيهة بالإنفلونزا الموسمية، ولكن الخطر يبدأ عندما يمتد الفيروس من أعلى الجهاز التنفسي إلى الرئتين، محدثًا التهابًا رئويًّا حادًّا. حتى الآن، وفي ضوء المعرفة المحدودة بالفيروس، يبدو أن الأطفال وصغار السن هم الفئة الأقل عددًا بين المصابين، وأن كبار السن، سيما من هم فوق السبعين، ومن لديهم أمراض مزمنة خطيرة مسبقة، هم الأكثر عرضة للإصابات شديدة الوطأة أو المفضية إلى الوفاة.

ويتعلق التفسير الوحيد المتاح حتى الآن لهذا التفاوت بالتفاوت في كفاءة جهاز المناعة. ولكن لابد أن يمر زمن قبل التعرف الأدق علميًّا على سلوك الفيروس واستجابات الأفراد المختلفة للمرض الذي يتسبب به.

إن أُخذت الأرقام الصينية في الاعتبار، يبدو أن كورونا المستجد يُحدث موت ما لا يزيد عن 2 بالمئة من المصابين به. ولكن الأرقام الإيرانية والإيطالية تفيد بنسبة موت أعلى بين المصابين، ربما تصل إلى ما يزيد عن 5 بالمئة. ولكن، حتى إن أُخذ رقم 2 بالمئة مقياسًا، تظل نسبة القتل بفعل كورونا 19 أعلى بعشرين مرة من الإنفلونزا الموسمية، التي تقتل ما يقارب 400 ألف إنسان في العام.

بصورة عامة، يتماثل زهاء 80 بالمئة من المصابين بالفيروس للشفاء بدون الحاجة لدعم طبي. بين العشرين بالمئة الآخرين تتفاوت درجات المرض بين الأعراض شديدة الوطأة، والحاجة لرعاية طبية فائقة، والموت. وإن وضعت درجة الانتشار السريعة في الاعتبار، فلابد أن تمثل هذه الأرقام تحديًا هائلًا للمجتمع الإنساني، ولمؤسسة الدولة على السواء.

الدولة والوباء
ثمة عدد من العوامل التي تحدد طبيعة استجابة مؤسسة الدولة الحديثة للوباء، منذ بدأت المعرفة العلمية للأوبئة في التراكم في بدايات القرن العشرين. ولا يختلف التفاوت في تعامل دول العالم خلال الأشهر الأربعة الأولى لوباء كورونا المستجد عن تصور الدولة لأوبئة سابقة في القرن الماضي.

يعتبر الوباء، أولًا، مناسبة للتمرد على الحكم وفقدان مؤسسة الدولة الحديثة قدرتها على التحكم؛ وتلعب تيارات المعارضة لسياسات الدولة تجاه الوباء دورًا رئيسًا في تحديد طبيعة استجابة الدولة للوباء. مثلًا، تجاهلت الدولة الصينية وباء كورونا المستجد لعدة أسابيع؛ ولكن الأصوات المعارضة لسلوك الدولة الصينية ومقاربتها للوباء سرعان ما أجبرت بيجين على الاعتراف بطبيعة الوباء وحجمه. في الوقت نفسه، لم تتوان الدولة الصينية عن اتخاذ إجراءات صارمة لتوكيد سيطرتها على شعبها وإنفاذ سياستها الوبائية.

مصر، أيضًا، لم تعلن عن إقفال المدارس والجامعات كإجراء لمواجهة الوباء، الذي اتخذته عدة دول أخرى من قبل، إلا بعد أن أُطلقت حركة مطالبة بهذا الإجراء من قوى معارضة، وجدت استجابة سريعة من عموم المصريين. وقد أظهرت إدارة ترامب استهتارًا بالوباء طوال أشهره الأولى؛ ولما أدرك الرئيس الأميركي أن سياساته للتعامل مع الوباء قد تقوِّض حظوظه الانتخابية أعلن حالة الطوارئ وبدأ اتخاذ إجراءات جذرية.

وتعتبر العواقب الاقتصادية للوباء المحدِّد الرئيس الثاني لسلوك الدولة، لكنها تواجه معضلة الموازنة بين ما ينجم عن الوباء عادة من آثار إنسانية، تتعلق بالموت والفقدان والوحدة والمرض الشديد، فتضطر إلى التشدد في الإجراءات الحمائية كي تمنع انتقال الفيروس، وآثار اقتصادية، تتعلق بعجلة الإنتاج والتبادل التجاري وتراجع موارد الدولة.

لمواجهة وباء ما، سيما الوباء الفيروسي، يمكن للدولة أن تبادر إلى اتخاذ إجراءات جذرية وشاملة، بما في ذلك منع الحركة والسفر والتجمع وعزل مدن أو مجتمعات بأكملها، انتظارًا لنجاح العلماء في التوصل للقاح يقي من المرض، طالما أن ليس ثمة علاج ناجع للأمراض الفيروسية عمومًا. وتُتخذ مثل هذه الإجراءات القاسية عادة بغضِّ النظر عن الآثار الهائلة على عجلة الإنتاج والاستهلاك والتبادل ومعدلات النمو الاقتصادي والانخفاض في مستوى إيرادات الدولة.

في المقابل، يمكن أن تضع الدولة الأثر الاقتصادي للوباء على رأس جدول أولوياتها، وتُنحي الأثر الإنساني إلى مرتبة ثانية. بمعنى، أن تلجأ الدولة إلى أدنى مستوى ممكن من الإجراءات المقيِّدة، لتجنب الخسائر الاقتصادية، وإفساح المجال بالتالي لانتشار المرض إلى أن يتولد ما يُعرف بمستوى مناعة القطيع (herd immunity)، بغضِّ النظر عن العواقب الإنسانية للوباء. في حالة كورونا المستجد، الذي تفوق درجة تفشيه مستوى السارس وتقل عن الحصبة، مثلًا، لابد من انتشار المرض بين 60 بالمئة من السكان قبل أن يكتسب مجتمع ما درجة مناعة كافية لانحسار الوباء ورفع مستوى قدرة الدولة على السيطرة على الأزمة الصحية، سواء توفر اللقاح المناسب أو لا.

هناك تقديرات يأن هذه هي السياسة التي تبنتها الصين وإيطاليا وإيران في الشهرين الأولين من الوباء، وهي ذاتها المقاربة التي حددت طبيعة استجابة حكومة بوريس جونسون في بريطانيا وإدارة ترامب في الولايات المتحدة. لكن لما بدأت الآثار الإنسانية في التفاقم وتصاعدت الضغوط السياسية، لجأت الصين وإيطاليا وإيران وفرنسا لاتخاذ إجراءات مقيِّدة واسعة النطاق. دول أصغر وأكثر ثراء، مثل الكويت وقطر، لم تتردد من البداية في تبني مقاربات جذرية للحد من انتشار الوباء، مع اتخاذ التدابير لمعالجة الاختلالات الاقتصادية الناتجة.

أما العامل الثالث، فيتعلق بكفاء أجهزة الدولة وتوفر المقدرات الضرروية للتعامل مع الوباء. تتفاوت قدرات دول العالم، بما في ذلك الدول الأكثر تقدمًا علميًّا واقتصاديًّا، في التعامل مع الأوبئة وتوفير الخدمات الصحية، مثل فحص المشتبه بهم، وتجهيز المعازل الطبية، وعدد الأَسِرَّة وغرف العناية الفائقة، وإتاحة وسائل وأدوات علاج المرضى. ألمانيا، مثلًا، الأكثر اهتمامًا بالخدمات الصحية بين دول الاتحاد الأوروبي، سجلت ما لا يزيد عن موت واحد بالألف بين المصابين، وهي النسبة الأقل لوفاة المصابين في أنحاء العالم الأخرى.

ويُعتقد أن مستوى الخدمات الصحية الفقير هو السبب الرئيس خلف نسبة الوفيات العالية في إيران وإيطاليا، وأن مخاوف بريطانيا والولايات المتحدة من إغراق مؤسسة الخدمة الصحية وكشف عجزها أمام الرأي العام، دفعت الدولتين لاتباع سياسة متراخية في التعامل مع الوباء ومحاولة تأجيل ذروة انتشار الفيروس إلى أشهر الصيف حيث يتراجع الضغط على منظومة الخدمات الصحية. من جهة أخرى، هناك تقديرات بأن إدراك دول، مثل مصر وإيران، لضعف خدماتها الصحية وعجزها عن التعامل مع الوباء كان الدافع الرئيس خلف انتقائها للأخبار المطمئنة عن انتشار الوباء في بلادها طوال شهور؛ بل والفشل في التكفل بالمشتبه بإصابتهم بالمرض وعدم إجراء الفحوص إلا في نطاق ضيق ومحدود.

آمال معقودة
ثمة أمل يحدو مجتمع علماء الأوبئة بأن يكون فيروس كورونا 19 بين الفيروسات التي تتأثر بدرجة حرارة الطقس، مما قد يؤدي إلى انحسار، وليس بالضرورة اختفاء، الوباء مع دخول موسمي الربيع والصيف. ولكن، ليس هناك حتى الآن ما يؤكد هذا التوقع، سيما أن سلوك أصناف كورونا المعروفة سابقًا أظهر تفاوتًا في تأثر الفيروس بالمناخ، وأن الفيروس لم يزل ينتشر في مناطق مثل دول الخليج والمغرب العربي، حيث بدأت درجات حرارة الجو في الارتفاع بالفعل.

الآمال الأخرى في مواجهة الوباء معقودة على جهود العلماء في التعرف على دواء مناسب لتقليل شدة الإصابة، طالما أن ليس ثمة دواء للقضاء على الأمراض الفيروسية كلية، وتطوير لقاح فعَّال لحماية الأكثر عرضة للإصابة أو الأضعف قدرة على تحمل المرض بين البشر. والواضح أن معظم هذه الجهود محصورة بمجتمع علماء دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وبدرجة أقل باليابان والصين، وهي الدول الأكثر تقدمًا علميًّا، والأكثر ثراء، والأكثر اهتمامًا بالبحث العلمي أصلًا. تركيا، التي قطعت خطوات في مجال المنافسة العلمية، كانت الوحيدة بين دول الصف الثاني التي قامت شركة طبية فيها بطرح أجهزة كشف عن المرض، تعطي نتائج سريعة نسبيًّا وبمستوى ثقة عال.

ثمة دواء طورته شركة أميركية من قبل لعلاج كورونا سارس، بالحد من تكاثر الفيروس في الجسم، وبالتالي حماية المصابين من تفاقم المرض. وتجري الآن تجربته على مرضى كورونا المستجد للتعرف على مدى فعاليته. كما تبذل فرق من العلماء في بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة جهودًا حثيثة لتطوير لقاح فعال، للوقاية من المرض. ولكن، ولأن تطوير اللقاح وتجربته يأخذان زمنًا طويلًا، فليس ثمة من يتوقع طرح اللقاح قبل ربيع أو صيف العام المقبل، 2021. وحتى عندما يبدأ إنتاج اللقاح بصورة تجارية، فمن غير المتوقع أن يصبح متوافرًا لكافة دول العالم بصورة متساوية.
حتى ذلك الحين، ينبغي للعالم، ربما، رؤية الدروس الضرورية التي يطرحها هذا الوباء.

خطر الأنظمة الأحادية والقومية الإقصائية
يكشف الأول من هذه الدروس عن عدم جاهزية المجتمع الدولي ومنظماته المتخصصة للتعامل مع وباء قاتل وسريع التفشي، مثل كورونا المستجد. تفتقد منظمة الصحة العالمية، كما الأمم المتحدة، منظمتها الأم، المقدَّرات الكافية لتوفير المساعدات الضرروية والسريعة للدول غير القادرة على التعامل مع الوباء. كما أن المنظمة لا تملك سلطة الضغط على الدول للكشف عن مستوى انتشار الوباء فيها وكيفية مكافحته. ففي الوقت الذي كان الجميع يعرف أن الصينيين لا يقولون الحقيقة، كان الناطقون باسم المنظمة يشيدون فيها بالصين وجهودها. ولا تملك المنظمة كذلك السلطة على فرض التعاون بين الدول، ولا بين دوائر علماء الدول المختلفة، أو على تنسيق جهودها.

أما الدرس الثاني، فيتعلق بالموجة القومية الجديدة، التي أوصلت أنظمة حكم قصيرة النظر، تتبنى سياسات تكتسي بثوب المصالح الحصرية للأمم، إلى الحكم، كما في هنغاريا، وبولندا، والولايات المتحدة، وبريطانيا. حملت توجهات العولمة الجامحة، التي سيطرت على السياسة والاقتصاد العالميين منذ ثمانينات القرن الماضي، الكثير من الظلم لشعوب وفئات اجتماعية مختلفة، وهددت البيئة وسلامة الكوكب الذي يعيش عليه ومنه البشر. ليس في هذه المآخذ على عقود العولمة من شك ولكن ردَّ الأنظمة القومية الجديدة على تجاوزات العولمة بإقفال الحدود، والتمييز بين البشر، وفرض القيود العمياء على الحركة والتجارة، والانسحاب من أطر التعاون الدولي والإقليمي، مثَّل ويمثِّل خطرًا على المجتمع الإنساني برمَّته.

ثمة تطور في وسائل الاتصال والانتقال والحركة لا يمكن تجاهله، ولا علاقة مباشرة به بسياسات العولمة الاقتصادية. يضاعف هذا التطور من مخاطر الأوبئة والإضرار بالبيئة على الأمم والشعوب وعلى المجتمع الإنساني ككل؛ ولا يمكن مواجهة هذه المخاطر بدون تعاون وثيق بين الأمم والشعوب. ما أظهره وباء كورونا المستجد أن التهديد الجيوستراتيجي للوباء لا يقل عن التهديد العسكري؛ وإلا فكيف يمكن تحوُّل الصين، القوة الاقتصادية والتجارية الهائلة، إلى منبع لانتشار فيروس بالغ الخطر على كافة البشر، وتحول إيران إلى منبع لتفشي الوباء في كل محيطها، والدور الذي لعبته إيطاليا في انتقال المرض إلى دائرة جوارها الأوروبي.

أما الدرس الثالث، فيرتبط بالمخاطر الهائلة للصمت على الأنظمة الديكتاتورية، القمعية، المناهضة للحريات والشفافية. تمثل هذه الأنظمة، على الدوام، تهديدًا داهمًا لشعوبها وجوارها والعالم بأسره. ولكن خطر هذه الأنظمة يزداد بأضعاف لا حد لها في مواجهة الأزمات العابرة للحدود. كشفت أزمة وباء كورونا 19 عمَّا يعنيه غياب الشفافية، ونزعة نظام حكم الحزب الواحد الرافض للأصوات المخالفة للرواية الرسمية كما هو سائد في الصين، لأمن العالم كله. ولم يتخذ نظام حكم ديكتاتوري، كما النظام المصري، إجراءات توقف سفر العشرات من المصابين بالمرض لجواره ولدول العالم الأخرى، في الوقت الذي كان يؤكد أن الوباء لم يتفشَّ في مصر بعد، أو أن عدد المصابين به لم يزل محدودًا.

إن يكن لهذا الوباء من تداعيات، فهي إبراز الحاجة إلى شروط جديدة لمتطلبات العيش المشترك، بما تعنيه للتعاون الدولي، ولما تفرضه المسؤولية الإنسانية الواحدة للوقوف في مواجهة الأنظمة الديكتاتورية والتسلطية التي أظهرت أن خطرها يتجاوز شعوبها إلى بقية دول العالم.

 

رابط المصدر:

https://studies.aljazeera.net/ar/article/4604

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M