تدخل الأزمة اليمنية عامها التاسع في ظل عدد من المتغيرات التي طرأت على الساحة خلال الفترات الماضية، والتي شكلت انطباعًا بأن الأزمة اليمنية قد تشهد منعطفًا مغايرًا في ظل تكثيف الجهود نحو حلحلة الأزمة، حيث فرضت الأعوام الماضية وتضارب المصالح وتشابكها بين فواعل الداخل والأطراف الخارجية المؤثرة في المشهد حالة من الضبابية اسفرت عن إطالة أمد الأزمة، وفشل كافة الجهود الرامية لتحقيق نوع من التوافق الذي يفضي إلى فض الاشتباك بين مكونات المشهد واستعادة الاستقرار الذي لا يزال مفقودًا منذ سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر 2014.
متغيرات مؤثرة
ثمة متغيرات تشهدها الأزمة اليمنية يمكن أن تقود إلى انفراجه في المشهد أو على أقل تقدير تثبيت خطوط المواجهة على ما هي عليه وعدم الانجراف للتصعيد العسكري، ما يمكن الوقوف عليه من خلال جملة من المؤشرات وذلك على النحو التالي:
- خفوت صوت البنادق، على الرغم من استمرار العمليات العسكرية لميليشيا الحوثي في عدد من الجبهات – تعز ومأرب ولحج وغيرها- إلا أن الوضع العسكري لا يزال محكومًا بما يشبه الهدنة بين الطرفين، إذ لم يتحول التصعيد بعد لمواجهات مفتوحة أو حادة بين ميليشيا الحوثي والجيش اليمني كما كان في أوقات سابقة من عمر الأزمة، حيث تراجعت الضربات والهجمات الحوثية بشكل سواء في الداخل أو الخارج تجاه المملكة العربية السعودية، وهو المشهد الذي استمر لما يزيد عن عام، فرغم عدم تمديد الهدنة بين الطرفين -التي استمرت ستة أشهر في الفترة من أبريل وحتى أكتوبر 2022- بسبب تعنت الحوثيين ووضع عقبات وقيود امام استمرارها، ومن ثم عدم القبول بتمديدها، إلا أن ذلك لم ينقل المشهد العسكري للتصعيد، وظل الطرفان طيلة العام الماضي في وضع اشبه بالهدنة غير المعلنة، حيث خفت صوت البندقية وتراجعت معدلات العنف لأدنى مستوياته منذ اندلاع الأزمة، وفقًا لتقرير صادر عن مشروع بيانات الصراع المسلح التابع للأمم المتحدة في أبريل 2023، الأمر الذي حفز عدد من الأطراف والقوى الخارجية للمضي قدمًا في توظيف الجمود الميداني في بحث سبل تمديد الهدنة؛ كمقدمة لبحث فرص السلام.
- الرهان على التوافقات الإقليمية، وظفت الصين اللحظة الإقليمية ومساعي دول المنطقة لاختبار فرص التهدئة الإقليمية وبحث سبل التوافق في احداث أكبر اختراق سياسي ودبلوماسي في الشرق الأوسط في السنوات الماضية، وذلك في أعقاب نجاحها في وضع حد للخلاف الدبلوماسي والقطيعة بين طهران والرياض، ومن المتوقع أن تضفي الوساطة الصينية بين البلدين في مارس 2022 مزيدًا من الزخم على التفاعلات في المشهد اليمني، وذلك في ظل الانخراط الواضح للطرفين في الأزمة اليمنية وقدرتهما على الإمساك بزمام الأمور، ونظرًا للعلاقة الترابطية بين طرفي الصراع وكل من الرياض وطهران، فقد زادت الآمال المرتبطة بقدرة الطرفين على التأثير على الأطراف اليمنية ودفعهما تجاه الحوار الذي من شأنه أن يفضي لحل سياسي، ففي أعقاب توقيع الاتفاق، أعلنت الخارجية الإيرانية، أن الاتفاق قد يكون سببًا في حل الأزمة اليمنية، كما توقعت البعثة الدائمة لإيران لدى الأمم المتحدة أن استئناف العلاقات السياسية بين البلدين، سيسرع في تحقيق وقف إطلاق النار في اليمن. وعليه يمكن أن يسهم هذا التوافق في خلق بيئة إيجابية مواتية ومحفزة على بناء الثقة بين الأطراف المنخرطة في الصراع اليمني، لبحث سبل تسويته أو على أقل تقدير منع تجدده مرة أخرى.
- تكثيف جهود بناء الثقة، شهدت الفترة الماضية حراكًا وتفاعلًا ملحوظًا بين أطراف الازمة، وهو ما تجلي في عقد عدد من اللقاءات والمشاورات للوقوف على أرضية مشتركة تسمح بالانتقال لمرحلة أكثر تقدمًا في عمر الأزمة، وفي اعقاب الوساطة الصينية، كثفت عمان جهودها ومساعيها الحميدة لتوظيف المناخ الإقليمي الرامي للتهدئة الأزمات لتحقيق انفراجه في اليمن، ما ترجمته رعايتها للمباحثات بين السعودية والحوثيين، والتي ركزت بصورة رئيسية على وقف إطلاق النار وإعادة فتح الموانئ التي تقع تحت سيطرة الحوثيين وعودة الحركة لمطار صنعاء لطبيعتها. ولعل زيارة الوفد السعودي برئاسة السفير السعودي لدى اليمن للعاصمة صنعاء؛ لعقد مباحثات مع قادة الحوثيين في أبريل الماضي، كأول زيارة مباشرة بين الطرفين في اليمن منذ 2015، ولقاء مماثل عقده مع رئيس مجلس القيادة الرئاسي “رشاد العليمي” تشير لقدر من الانفتاح والرغبة الواضحة في حلحلة الوضع الراهن، وبحث سبل بناء الثقة. يضاف لذلك المشاورات بين السعودية والحوثيين والتي سعت لعقد صيغ تفاهميه لتثبيت وقف إطلاق النار.
يصب في ذات الاتجاه، المساعي التي قادتها الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر خلال شهر مارس الماضي بين الحكومة اليمنية والحوثيين في جنيف، والتي أفضت إلى ثاني أكبر عملية لتبادل الأسرى بين الطرفين منذ اندلاع الأزمة، حيث وافق الطرفان على تبادل نحو 887 أسيرًا، من بينهما نحو 706 من الحوثيين و181 من الحكومة اليمنية. ولا ينفصل عن هذا الحراك المتصاعد الجولة التي قام بها المبعوث الأمريكي لليمن مطلع مايو 2023 لعدد من الدول والأطراف المعنية بالأزمة اليمنية.
ويمكن ملاحظة أن كافة المساعي الإقليمي والدولية ترمي لتحقيق هدفين، الأول يدور حول تثبيت وقف إطلاق النار، وبحث تمديد الهدنة. في حين ينصرف الثاني إلى بناء الثقة بين أطراف الأزمة كمقدمة لوضع حل شامل والتفاهم حول المرتكزات التي يمكن أن تنطلق منها التسوية المنتظرة.
التسوية المنتظرة
يتوازى مع هذه المؤشرات والمتغيرات الإيجابية، ما كشفته عدد من المصادر بخصوص خطة سلام شاملة يتم الاعداد لطرحها على أطراف الأزمة، ومن الملامح الأولية للخطة، يبدو أنها ستتعامل مع المسار السياسي عبر مراحل متدرجة، بحيث تبدأ الأولى بوقف إطلاق النار، وفتح المنافذ البرية والبحرية والجوية والعمل على تبادل الأسرى وفقًا لمبدًا الكل مقابل الكل، وتستهدف تلك المرحلة تعزيز الثقة بين أطراف الأزمة، خاصة وأن الملفات التي ستتعامل معها تلك المرحلة يسهل تحقيق اختراق أو تقدم فيها، بما يحفز على الانتقال للمرحلة الثانية، والتي تركز على وضع صيغة معينة لحوار يمني حول شكل الدولة وطبيعة نظام الحكم وتوزيع السلطات والاختصاصات، وصولًا لمرحلة انتقالية قد تمتد لعامين أو ثلاثة حسب ما يتم الاتفاق عليه.
ورغم أن ملامح هذه الخطة لم تتضح بعد، إلا أن هناك مجموعة من العقبات والكوابح التي قد تحول دون استكمال جهود التسوية، ما لم يتم التعاطي معها بصورة مغايرة، ما يمكن تحديده فيما يلي:
- الانقلاب المستمر على التسويات: منذ اخضاع الحوثيين صنعاء لسيطرتهم اصطدمت كافة الجهود الرامية لتسوية الأزمة بتعنت الميليشيا وانقلابهم المستمر على كافة التفاهمات والاتفاقات السياسية، وعليه فليس هناك ما يضمن التزام الحوثي بالتسوية المنتظرة حال خروجها للنور، وهو ما تشير إليه الخبرة التاريخية لتعاطيهم مع كافة المشاورات التي خاضتها مع الحكومة الشرعية في اليمن، سواء عبر رفضهم مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، واتفاق السلم والشراكة، واتفاق ظهران الجنوب، بجانب الانقلاب على مباحثات الكويت، وجنيف، وأخيرًا، اتفاق ستوكهولم 2018.
والشاهد في كافة التفاهمات الماضية، أن ميليشيا الحوثي كانت تقبل بالجلوس على طاولة المفاوضات، وسرعان ما تنتهج سلوك تصعيدي وعدواني يتجاوز ما تم الاتفاق عليه، وهو نمط متكرر في الأزمة اليمنية، فكثيرًا ما كان الحوثي يلجأ للمشاورات أو التفاهمات المؤقتة؛ بهدف استجماع قوته العسكرية وتجاوز الإخفاقات أو الخسائر التي كانت تعرض لها، قبل أن يعود مرة أخرى لمواصلة المجهود العسكري والحربي في جبهات عديدة في اليمن.
- الانقسام الحوثي- الحوثي: قد تتعثر جهود التسوية أو على الأقل تأخذ وقت أطول في ظل حالة الانقسام داخل ميليشيا الحوثي وبين قادتها فيما يتعلق بفرص التسوية، حيث يسيطر على الجماعة اتجاهين في الوقت الراهن، الأول يؤيد فتح قنوات تواصل وبحث سبل التسوية على أساس أن ذلك يوقف النزيف والخسائر داخل الجماعة، ويضمن لها مكاسب سياسية عبر ادماجها في المشهد، في حين يرفض الطرف الثاني، الجلوس على طاولة مفاوضات ويرجح تغليب الأداة العسكرية على الحوار.
مع ذلك يرى البعض أن ما يجري داخل جماعة الحوثي لا يخرج عن كونه عملية منظمة لتبادل الأدوار والمهام بين تلك التيارات المتعارضة وأن التباين بينهما ما هو إلا تكتيك، بحيث يبدي طرفًا قدر من المرونة والتعاطي مع المفاوضات بصورة توحي بالرغبة في السلام، قبل أن ينقلب التيار الثاني على تلك التفاهمات حال عدم تلبيتها لطموح وتطلعات الميليشيا وقادتها.
- التباينات في جبهة الشرعية: على الرغم من أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في أبريل 2022 كان بهدف تشكيل جبهة موحدة وصلبة في مواجهة الحوثيين والتعاطي الجمعي المتكامل مع أية جهود يمكن أن تقود للتسوية عبر توحيد الصف، إلا أن العام الماضي أظهر قدرًا كبيرًا من التباين داخل جبهة الشرعية، وصل في بعض الأوقات لحالة الصدام بين مكونات الشرعية، ويعود ذلك بصورة أساسية لتباين مواقف وايديولوجيات ورؤى المكونات المختلفة داخل الشرعية.
ما يمكن الاستدلال عليه من خلال إعلان القوى الجنوبية في 8 مايو 2023، التوقيع على الميثاق الوطني الجنوبي، والذي يشبه في محتواه الوثيقة الدستورية، حيث وضعت القوى الجنوبية الموقعة عليها رؤيتها فيما يتعلق بمستقبل الجنوب اليمني، وطريقة التفاوض بشأن قضايا الجنوب، بحيث تصبح جزءًا أساسيًا من أية تسويات مستقبلية. هذا الموقف قد يؤدي إلى تعقيد جهود التسوية، حيث سيحتاج معه التوافق مبدئيًا داخل جبهة الشرعية، فيما يتعلق بشكل نظام الحكم، وشكل الدولة، وموقف الجنوب بشكل عام من التسوية، وهل سيتم العودة للصياغة القائمة قبل الوحدة؟ أم سيكون هناك نظام حكم فيدرالي؟ وغير ذلك من الأمور التي يمكن أن تنظم العلاقة بين الشمال والجنوب.
ماذا بعد؟
يبدو من التفاعلات المرتبطة بالأزمة اليمنية، أنها تدخل مرحلة جديدة، تستدعي معها مراقبة ما قد ستؤول إليه، وفي ضوء المتغيرات سالفة الذكر، وما قد يواجه عملية التسوية من كوابح وعثرات يمكننا تحديد المسارات المحتملة للأزمة فيما يلي:
- إقرار خطة التسوية الشاملة، يفترض هذا المسار التوافق بين الأطراف اليمنية بشأن الخطة الشاملة التي يتم الإعداد لها، وينطلق هذا المسار من عدد من الافتراضات من بينها: قناعة الطرفين بجدوى وقف إطلاق النار في ظل صعوبة الحسم العسكري خلال السنوات الماضية، علاوة على التعويل على التقارب بين الرياض وطهران وقدرته على اقناع الأطراف المنخرطة في الأزمة في القبول بالتسوية، ولا ينفصل عن ذلك الجهود والمساعي الدولية المكثفة في الفترة الأخيرة للضغط على طرفي الأزمة للحوار ومن ثم الوصول للتسوية السياسية.
ويدعم هذا المسار، ثبات وقف إطلاق النار بصورة كبيرة رغم عدم تمديد الهدنة رسميًا، بجانب وجود الصين باعتبارها ضامن لتعزيز العلاقات بين السعودية وإيران، ما ينعكس بشكل أساسي على التفاهمات في اليمن، فضلًا عن الجهود المحتملة للولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترات القادمة والتي تستهدف من خلالها احداث اختراق وإنجاز يحسب لها، خاصة وأن اليمن كانت على قمة أولويات البيت الأبيض منذ وصول الرئيس “جو بايدن” للحكم، وعليه قد تكثف واشنطن جهودها في هذا الصدد؛ للحيلولة دون اقتناص بكين للفرصة والترويج لنفسها باعتبارها صانع السلام في المنطقة. كما أن مساعي الرياض لوقوف الحرب في اليمن، ورغبة طهران في تجاوز العزلة المفروضة عليها واستثمار التقارب مع السعودية ولو مرحليًا يمكن أن يقود في نهاية الأمر للوصول لتلك التسوية.
- تسكين الأزمة وإطالة أمد التفاوض، يفترض هذا المسار نجاح جهود التسوية في الاتفاق على تمديد الهدنة وتسكين الصراع، مع إطالة أمد العملية التفاوضية، ويرتكز هذا المسار على عدد من الافتراضات، من بينها: غياب الثقة بين أطراف الأزمة ومن ثم صعوبة تحقيق انفراجه كاملة في هذا الصدد، حيث سيحتاج الطرفين لاختبار نوايا بعضهم البعض وجدية العملية التفاوضية، يضاف لذلك التباينات داخل كل جبهة، حيث أن التوافق داخل جبهة الشرعية، خاصة ما يتعلق بوضع الجنوب ستحتاج لحسم قبل الشروع في مفاوضات المرحلة الانتقالية، الأمر الذي قد يحتاج لمزيد من الوقت للتوافق عليه، كما أن إيران قد تتجه إلى الاحتفاظ بحقها في اختيار المسار المناسب سواء استمرار التهدئة أو عودة التصعيد وفقًا لمدى صلابة أو هشاشة الاتفاق مع الرياض وحدود ما يمكن إنجازه، علاوة على صعوبة تخليها عن ورقة الحوثيين التي تجيد المساومة بها في عدد من الملفات الأخرى.
- اخفاق جهود التسوية والعودة للتصعيد، يفترض هذا المسار تعثر مساعي تهدئة الصراع، واستغلال ميليشيا الحوثي للهدنة في تعزيز قدراتها العسكرية، ومن ثم العودة للتصعيد مرة أخرى، خاصة إذا ما رأت ميليشيا الحوثي أن ما قد تجنيه من المفاوضات لا يتوائم مع تطلعاتها بشأن حضورها في المشهد اليمني، ويدعم هذا المسار، التقارير الدولية التي تؤكد على استمرار تزويد إيران للحوثيين بالأسلحة والمعدات العسكرية، فضلًا عن مواصلة الحوثيين لجهود التعبئة والحشد في صفوفها، بجانب عدد من التقديرات التي تشير لعدم جدية الحوثيين في السلام.
في الأخير، رغم الحراك والزخم السياسي المتصاعد، ومحاولة استثمار جهود التهدئة الإقليمية والرغبة الدولية في تحقيق اختراق في الازمة اليمنية، إلا أن التفاعلات البينية للأطراف المنخرطة في الأزمة تشير لصعوبة الحسم بما سيكون عليه المشهد خلال الفترات القادمة، وستظل الانفراجة مرهونة بحدود التوافق الخارجي، وقدرة الفاعلين الدوليين والاقليميين على الضغط على الأطراف الداخلية للقبول بالتسوية أو الحيلولة دون خروج التصعيد عن السيطرة في حال إذا ما لجأت أطراف الأزمة للتصعيد مرة أخرى.
.
رابط المصدر: