كيف عادت مصر إلى خريطة الغاز العالمية من بوابة الطلب الأوروبي؟

د. أحمد سلطان

 

تواجه منظومة الطاقة الأوروبية أزمة غير مسبوقة، فقد انقطع عنها هذا العام ما يزيد على 80% من إمدادات الغاز الروسي اللازم لأغراض التدفئة والعمليات الصناعية وتوليد الكهرباء، وارتفعت أسعار الكهرباء والغاز بنحو 15 ضعفًا منذ أوائل عام 2021، مما أثر تأثيرًا حادًا على الأسر والشركات. وقد تزداد المشكلة سوءًا، فأوروبا ستواجه العام الثاني لها بدون الغاز الروسي، وهو الأمر الذي ينطوي على مخاطر حدوث نقص حاد في الغاز وركود اقتصادي كبير.

وعلى الرغم من انخفاض الأسعار، فإن أوروبا لم تخرج من دائرة الخطر حتى الآن؛ وذلك لأنه من المتوقع حدوث فجوة في العرض والطلب تبلغ نحو 30 مليار متر مكعب وفقًا للبيانات المعُلنة، أي ما يعادل نصف الغاز اللازم للحصول على مخزون بنسبة 85% ممتلئًا بحلول بداية الشتاء المقبل. ولكن السؤال الذي نحاول الإجابة عليه هو كيف لعبت مصر دورًا كبيرًا في خطة القارة الأوروبية بهدف توفير إمدادات وبدائل آمنة من الغاز المسال العام الماضي؟

إمدادات الغاز المسال إلى أوروبا

سعت دول الاتحاد الأوروبي إلى تنويع إمدادات الغاز خلال 2022، والدخول بقوة إلى سوق الغاز المسال؛ في محاولة منها للتخلي على الصادرات الروسية عقب الأزمة الأوكرانية، حيث زاد إنفاق الاتحاد الأوروبي على شراء الغاز المسال وعبر خطوط الأنابيب من بقية العالم في العام الماضي بمقدار حوالي 3.3 مرة؛ أي ما يُعادل حوالي 208 مليارات يورو. ولذلك نجد صادرات الغاز المسال في العام الماضي سجلت أعلى مستوى لها على مدار تاريخها الممتد لأكثر من 50 عامًا، حيث بلغ إجمالي صادرات سوق الغاز الطبيعي المسال عالميًا حوالي 396.4 مليون طن، وذلك مقابل 377.3 مليون طن في عام 2021، وذلك بنسبة حوالي 5% على أساس سنوي، وهذا يعنى استمرار الدور الحيوي والمحوري للغاز في تلبية الطلب العالمي على الطاقة، وبالأخص دول الاتحاد الأوروبي كما هو موضح في الشكل التالي.

ونجد أنه على مستوى الدول المصدرة للغاز المسال، ارتفعت صادرات الغاز المسال الأمريكية خلال الربع الرابع من العام الماضي لتسجل حوالي 19.7 مليون طن، مقابل حوالي 19.2 مليون طن خلال الربع المماثل لعام 2021، وذلك بنسبة نمو حوالي 2.6%. أما على مستوى الدول العربية، فسجلت صادرات الغاز المسال قفزة كبيرة خلال العام الماضي بدعم من شحنات مصر وقطر وسلطنة عمان، وذلك على الرغم من تراجع الإمدادات من الجزائر. وكما موضح في الشكل التالي نجد أن الدول العربية حققت أداءً متميزًا خلال الربع الرابع، يُعد الأفضل مقارنة بالأوقات السابقة من العام الماضي؛ إذ بلغ إجمالي صادرات الغاز المسال العربية نحو حوالي 30 مليون طن، مقابل 29 مليون طن خلال الربع المماثل من عام 2021، وذلك بنسبة نمو على أساس سنوي حوالي 3.4%.

طفرة مصرية في صادرات الغاز المسال

تفوقت صادرات مصر من الغاز المسال في العام الماضي على قطر والجزائر وسلطنة عمان وذلك من حيث نسبة النمو في إجمالي الصادرات مقارنة بعام 2021، حيث سجلت في الربع الأخير من العام الماضي نسبة نمو حوالي 13% على أساس سنوي (تقرير أوابك لعام 2023)، حيث سجلت صادرات مصر من الغاز المسال في إجمالي عام 2022 النسبة الأعلى على مستوى الدول العربية؛ إذ تفوقت على سلطنة عمان التي ارتفعت صادراتها بنسبة حوالي 6.6%، وقطر حوالي 2% فقط.

وسجلت صادرات مصر من الغاز المسال خلال 2022 حوالي 7.4 ملايين طن، مقابل حوالي 6.6 ملايين طن في عام 2021. وقد حققت مصر رقمًا قياسيًا في صادرات الغاز لتصل إلى 8 ملايين طن -تشمل صادرات الغاز عبر خطوط الأنابيب- في العام الماضي مقارنة بنحو حوالي 7 ملايين طن في عام 2021. وقد حققت المركز الثاني عربيًا والخامس عالميًا في التصدير للدول الأوروبية كما هو موضح في الشكل التالي.

ووفقًا للبيانات المُعلنة، تصدرت تركيا قائمة الوجهات المستقبلة لصادرات وشحنات الغاز المسال المصري من محطة دمياط بحصة حوالي 27%، ثم جاءت إسبانيا بحصة حوالي 21%، وهولندا بحوالي 9%، وكوريا الجنوبية بحوالي 6%، وفرنسا بحوالي 8%، وتوزعت الحصة المتبقية على عدة أسواق أخرى. واستحوذت الأسواق الأوروبية مجتمعة بما فيها المملكة المتحدة وتركيا على نحو حوالي أكثر من 82% من إجمالي صادرات محطة دمياط للإسالة خلال العام الماضي، كما موضح في الشكل التالي.

بالإضافة إلى أن قيمة إيرادات صادرات مصر من الغاز بلغت حوالي 8.4 مليارات دولار العام الماضي وذلك مقارنة بحوالي 3.5 مليارات دولار خلال عام 2021، أي بنسبة زيادة حوالي 170%، وذلك بسبب زيادة أسعار تصدير الغاز المسال عالميًا.

ووفقًا لما سبق، حققت مصر معدلات وأرقامًا قياسية على مدار السنوات الماضية في قطاع الغاز الطبيعي، وذلك بداية من البحث والاستكشاف والإنتاج والتصدير، حيث يُشكل التطور الذى تحقق في نشاط استقبال ونقل وتوزيع الغاز الطبيعى قيمة مضافة ويأتي مواكبً الما يتم تحقيقه في قطاع الغاز الطبيعي من اكتشافات وتنمية وإنتاج. ويأتي حفاظ مصر على أحجام الغاز المصدرة مقارنة بالمدة نفسها من العام الماضي بفضل العديد من العوامل ومنها:

● زيادة حجم الاستثمارات الأجنبية في قطاع البحث والاستكشاف عن الغاز الطبيعي وطرح العديد من المزايدات العالمية. وذلك لأن ترسيم الحدود خلق حالة من الاستقرار في المنطقة ومزيد من التعاون الإقليمي بين دول المنطقة.

● مستويات الإنتاج المحلي المرتفعة، وذلك بعد تطوير وتنمية العديد من حقول الغاز الطبيعي المصرية في منطقة شرق المتوسط.

● معاودة تشغيل محطة الإسالة في دمياط مطلع العام الماضي، والتى باتت تؤدي دورًا مهمًا في تصدير عدة شحنات من الغاز الطبيعي المسال إلى الأسواق الأوروبية، وقد شكلت تلك المحطات في دمياط والبحيرة نقطة تحول رئيس في تحول قطاع الغاز الطبيعي المصري إلى قوة إقليمية وعالمية في المنطقة، وبمثابة نقطتي ارتكاز وسبق قويتين في مشروع تحويل مصر لمركز إقليمى لتجارة وتداول الطاقة، ما فتح آفاقًا جديدة نحو تعظيم دور مصر في تجارة وتخزين وتداول الغاز الطبيعى، وتحقيق عائدات لصالح الاقتصاد المصرى، وتأمين إمدادات الطاقة للسوق المحلى ومشروعات التنمية. والشكل التالي يوضح أهمية محطات الأسالة المصرية في صناعة الغاز الطبيعي.

واستكمالًا لما سبق، حققت محطة الإسالة في دمياط أداءً متميزًا خلال العام الماضي؛ إذ بلغ إجمالي ما تم تصديره من شحنات خلال العام نحو حوالي 4.14 ملايين طن، وهو أعلى معدل يتم تصديره من المحطة منذ انطلاق تشغيلها في عام 2005. وقد نجح مجمع إسالة الغاز في دمياط، خلال فبراير الماضي، في إنتاج وتصدير حوالي 500 شحنة، منذ بدء تشغيله. وعلى الرغم من توقف العمل في مصنع إسالة الغاز الطبيعي في دمياط لمدة 8 سنوات، فإنه عاد للعمل بكامل طاقته منذ فبراير من عام 2021، حيث نجح منذ إعادة تشغيله في تصدير حوالي 7.2 ملايين طن من الغاز الطبيعي المسال، منها ما يزيد على حوالي 4 ملايين طن العام الماضي فقط.

بشكل عام، تبلغ القدرة الإنتاجية الحالية لمصر من الغاز الطبيعي سنويًا حوالي 73.4 مليار متر مكعب، وذلك بفضل العديد من مشروعات تنمية وتطوير الغاز الطبيعي، ويتمثل أبرز تلك المشروعات في مشروع تنمية حقل ظهر بقدرة إنتاجية سنوية تبلغ حوالي 28 مليار متر مكعب، ومشروع تنمية حقل ريفين بقدرة إنتاجية سنوية تبلغ حوالي 8.7 مليارات متر مكعب، ومشروع تنمية حقل نورس بقدرة إنتاجية سنوية تبلغ حوالي 4.6 مليارات متر مكعب.

والجدير بالذكر، أن مصر قد حققت الاكتفاء الذاتي في سبتمبر من عام 2018، مما انعكس علي عودة مصر إلى الخريطة العالمية لتصدير الغاز الطبيعي والمسال، حيث سجلت عام 2018-2019 إنتاجًا بحوالي 66.1 مليار متر مكعب، مع معدل استهلاك وصل إلى حوالي 61.8 مليار متر مكعب كما هو موضح في الشكل التالي.

وهنا تجب الإشارة إلى النقص الحاد في الغاز الطبيعي والذي يُعد من الأزمات الأكثر إلحاحًا التي واجهها الاقتصاد المصري في الفترة من عام 2011 إلى 2014 بالإضافة إلى دفع النمو السكاني المتزايد والسريع في مصر كما هو موضح في الشكل التالي، والمصحوب بتهافت شديد على استخدام الكهرباء، بالاستهلاك إلى بلوغ الذروة مع حوالي 5.09 مليارات قدم مكعب في اليوم في عام 2012.

وتزامن ذلك مع التباطؤ الشديد في إنتاج الغاز الطبيعي وتوقف الحكومة عن إبرام عقود جديدة للتنقيب عن الغاز في فترة أحداث يناير عام 2011 وحتي نهاية عام 2013 مما ترتب على ذلك انتهاء الفائض من الغاز الطبيعي المصري، مما انعكس على خسارة مصر لمكانتها كمصدرة للطاقة في تلك الفترة وقبل أن تعود لخريطة الغاز العالمية وتحتل المرتبة الثانية عربيًا والخامسة عالميًا في صادرات الغاز المسال إلى القارة الأوروبية.

ولذلك وبفضل ما قطعته الدولة المصرية من خطوات في ملف الغاز الطبيعي والطفرة الكبيرة التى تحققت، نال قطاع البترول المصري العديد من الإشادات الدولية، كما موضح بالشكل التالي.

ختامًا، مرت مصر برحلة طويلة في التحول من دولة مستهلكة للغاز الطبيعي ولديها عجز في هذا العنصر المهم للطاقة لتصبح دولة مصدرة له، حيث غيرت اكتشافات الغاز الطبيعي التي شهدتها الدولة في الفترة الممتدة من 2014 إلى 2023 المشهد المصري للطاقة بشكل كامل، مما انعكس على وضع مصر في صناعة الغاز الطبيعي، مما أدى إلى تغيير مكانتها على خريطة الطاقة العالمية، فبرزت كقوة كبرى في إنتاج الغاز ليس على مستوى المنطقة بل العالم بأسره، ولتؤكد بذلك أهميتها ودورها الرئيس في السوق العالمية للغاز الطبيعي المسال وذلك ما تُدل عليه الأرقام الحالية في تلك الصناعة والصادرات الأعلى منذ عام 2011.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/76093/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M