لماذا عادت إفريقيا إلى إسرائيل

مصطفى قطبي

 

يعد التغلغل الإسرائيلي في القارة الأفريقية من أهم القضايا التي شغلت صانعي القرار في الكيان الصهيوني منذ عام 1948 وحتى اليوم. وتعتبر رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة جولدا مائير، أول مهندسة للعلاقات الإسرائيلية-الإفريقية، فقد حرصت مائير أثناء إدارتها لدفة وزارة الخارجية الإسرائيلية (1956-1966) على أن تكون بلادها حاضرة في المناسبات الإفريقية وبتمثيل رسمي كبير، وأخذت العلاقات في زمن مائير منحى تصاعديا مضطردا، وفي عهدها تم إنشاء إدارة مكلفة بالتعاون مع إفريقيا علي مستوى وزارة الخارجية سنة 1958، وفي سنة 1960 تم إنشاء قسم خاص للمساعدات الخارجية لإفريقيا علي مستوى نفس الوزارة.

واليوم، تواصل إسرائيل تطبيق استراتيجية الزحف والاختراق والتسلط العسكري، والسيطرة السياسية والاقتصادية على أفريقيا، في ظل غياب كلي للدور الإقليمي العربي، وانشغال الأنظمة العربية بالحروب المتنقلة العربية ـ العربية، التي تديرها أمريكا على نار حامية في جلّ المنطقة العربية، والتي تعبد الطريق لإبرام صفقة القرن حيث تتقاطع مصالح إسرائيل مع البعض العربي الآخر. وتسعى إسرائيل إلى أن تكون عضوا في الاتحاد الإفريقي كعضو مراقب أو كامل العضوية، وهذه هي مهمة الموساد الإفريقية التي تغلغلت في معظم الدول الإفريقية، وباتت تحظى بأهمية متقدمة في أولويات الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي، لا سيما بعد أحداث 11سبتمبر 2001، واشتداد الصراع التنافسي الجديد بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين على السيطرة على موارد وثروات إفريقيا الطبيعية، الأمر الذي دفع القيادة الإسرائيلية إلى اتباع سياسية خارجية نشطة لتحقيق استراتيجيتها لتتمدد في القارة الإفريقية، وتكسب مزيد الأنظمة الإفريقية…

لقد حرصت إسرائيل على وضع مجموعة دول القارة الإفريقية، على قمة استراتيجية سياستها الخارجية، نظراً لامتلاكها الممرات والمنافذ البحرية الحيوية المطلة على المحيط الهندي والبحر الأحمر، والذي يشكل أهمية بالغة للمصالح الصهيونية التجارية والاستراتيجية، حيث يمر 20 في المائة من هذه التجارة أمام سواحل دول القرن الإفريقي، وعبر مضيق باب المندب، والذي تعتمد عليه إسرائيل في تجارتها مع إفريقيا، وآسيا، وأستراليا. وتسعى الاستراتيجية الإسرائيلية إلى تأمين نطاق الأمن الحيوي لإسرائيل (المدخل الجنوبي إلى البحر الأحمر)، لممارسة استراتيجية التطويق والمحاصرة للدول العربية بالمنطقة (مصر، السودان، والسعودية، واليمن)، وعزلها عن القارة الأفريقية، مع إمكانية التأثير في القرار الإفريقي من خلال اختراق منظمة الوحدة الإفريقية، ثم الاتحاد الإفريقي بوجودها في إثيوبيا. إضافة إلى ذلك، تستهدف الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية تهديد أمن الدول العربية المعتمدة على مياه نهر النيل وهما مصر والسودان بالدرجة الأولى، والحال هذه تمثل دول حوض النيل إحدى المصالح الأمنية الكبرى لدولة إسرائيل. فاستراتيجية إسرائيل تتمحور حول الالتفاف حول هذه الدول (إثيوبيا، وأوغندا، وكينيا، ورواندا، والكونغو، وإريتريا).

علينا أن نعترف، أنّ التقارب الإسرائيلي ـ الأفريقي لم يأت في يوم وليلة، فمنذ خمسينيات القرن الماضي إسرائيل تسعى لخلخلة التكتل الإفريقي ذي الـ55 دولة، والذي يمثل 31 في المائة من الكتلة التصويتية في الأمم المتحدة، ومحاولة كسر السياسات الرامية لفرض العزلة الدولية على إسرائيل. فقد استطاعت إسرائيل أن تتغلغل داخل القارة الإفريقية عن طريق العمل في المجالات الثقافية والتكنولوجية والطبية إلى جانب المجالات الاقتصادية، وقد شهدت الأعوام الثلاثة الأخيرة نشاطا دبلوماسيا إسرائيليا مكثفا في إفريقيا، فقد زار نتنياهو عدة دول أفريقية، وعقد لقاءات مع 18 من قادة الدول الإفريقية، ولم يخفِ نتنياهو رغبته الملحة في حصول إسرائيل على وضع دولة مراقب داخل الاتحاد الإفريقي، ومع بدء التقارب مع أطراف الصراع العربي، ضمنت إسرائيل مطالبها الأمنية الخاصة بالبحر الأحمر، والذي يعتبر بوابة إسرائيل لقارة إفريقيا، كما ضمنت حرية تنقل سفنها في مضيق باب المندب، ما سهل لها التبادل التجاري المتنامي مع الأفارقة.

وللأسف المأسوف على شبابه، أنه في الوقت الذي كان العرب مشغولين بالتنديد والمقاطعة كانت إسرائيل تتغلغل بقوة داخل القارة الأفريقية، ونالت من المصداقية والمكانة الرفيعة لدى الشارع الأفريقي، حيث تطرح نفسها نموذجا فريدا بالنسبة لهم، في إقامة المشاريع الزراعية التي تهدف إلى محاربة التصحر، وخلق بيئة مواتية للزراعة الدائمة، وهو ما تعاني منه أفريقيا، كذلك في الوقت الذي كان العرب فيه يحاربون إسرائيل بالميكروفونات، استطاعت إسرائيل خلال الأربعة عقود الماضية استقدام أكثر من 30 ألفا من أفريقيا، تلقوا تدريبات من قبل مراكز التدريب الإسرائيلية.

وقد يكون معروفا لكثيرين أن ركائز السياسة الإسرائيلية في كسب الهيمنة والنفوذ في أفريقيا اشتملت منذ البداية على ثلاثة مجالات أساسية وهي: نقل المهارات التقنية وغيرها عن طريق برامج تدريبية معينة، وتزويد الدول الإفريقية بخبراء إسرائيليين لمدة قصيرة أو طويلة المدى وإنشاء شركات مشتركة أو على الأقل نقل الخبرات والمهارات الإدارية للشركات الإفريقية. وقد قامت إسرائيل بإعادة تقويم أداء المراكز التدريبية الخاصة بإفريقيا ومنها مركز جبل كارمل الذي ينظم حلقات دراسية للمرأة الأفريقية في ميدان التنمية، ومركز دراسة الاستيطان الذي يوفر تدريبات في البحوث الزراعية والتخطيط الإقليمي، والمركز الزراعي الذي يوفر الخبراء والمساعدة الفنية لتعظيم استخدام الموارد المتاحة، والمعهد الأفروآسيوي للهستدروت والذي يهتم بأنشطة الاتحادات العمالية.

إن استقراء التغلغل الإسرائيلي في القارة الأفريقية، والتداعيات التي أفرزتها في المستويين العربي والأفريقي، تستوجب طرح أسئلة مهمة، من بينها:

هل اعتمد التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا على جهود السياسة الإسرائيلية وحدها، أم عبر التنسيق مع قوى خارجية أخرى؟ وما هي دوافع التمسّك الأفريقي بالعلاقات مع إسرائيل؟ وهل مرد ذلك إلى ضعف التعاون العربي الأفريقي، أم إلى عوامل ذاتية تتصل بالكيان الإسرائيلي نفسه؟ وما هو دور واشنطن في تعزيز هذا التغلغل؟ وما أهم مناطق التركيز الإسرائيلي في أفريقيا؟ وما هي أدوات إسرائيل؟ وإلى أي مدى يؤثر هذا التغلغل على المصالح العربية؟ وكيف يمكن مواجهته؟.

في الواقع إن أول أمر يجب تقصيه هو تحليل وتقييم البعد التاريخي للعلاقات الإسرائيلية- الأفريقية عبر رصد مظاهر القوة ودوائر الضعف، وتحديد مناطق التماس والمصالح المشتركة، وتقييم الاستراتيجية الإسرائيلية في بعض مناطق القارة الأفريقية، وبشكل خاص في غرب القارة، والقرن الأفريقي، ودور الراعي الأمريكي. إذ يتبيّن أن هناك علاقة طردية بين الضغط الأمريكي الفعال على السياسة الأفريقية تحت تأثيرات النظام الدولي أحادي القطبية، وتوطيد العلاقات الإسرائيلية الأفريقية، كما أن اعتماد إسرائيل على عدة مرتكزات ومداخل جديدة غير تقليدية، في تحركها السياسي والأمني تجاه أفريقيا، انعكس بالإيجاب على حجم وكثافة العلاقات الإسرائيلية الأفريقية. وهناك تفاوت في مدى تأثر الأمن القومي العربي على وجه العموم، طبقاً لاختلاف كثافة النفوذ الإسرائيلي في الأقاليم الأفريقية المختلفة، وثمة تأثير كبير لبعض القنوات غير الرسمية في حجم وكثافة العلاقات الإسرائيلية الأفريقية، سواء على المستوى الأمني، أو السياسي، أو الاستراتيجي.

إن حجم وتطور العلاقات الاقتصادية الإسرائيلية الأفريقية يرتبط بالعائد السياسي لهذه العلاقات، أكثر من ارتباطه بالعائد الاقتصادي. لقد طرحت إسرائيل نفسها أمام الدول الأفريقية على أنها نموذج للدولة النامية، والتي استطاعت أن تتخطى المشاكل نفسها التي تعاني منها الدول الأفريقية، خصوصاً في مجال التنمية، ومن وسائل إسرائيل لتكريس التغلغل لجوءها إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع أكبر عدد ممكن من الدول الأفريقية، لهذا تركز الوجود الإسرائيلي في القارة الأفريقية في المناطق الاستراتيجية المهمة والحساسة في القارة. كما حاولت إسرائيل بكل الوسائل تنمية إمكاناتها الاقتصادية عبر إقامة علاقات اقتصادية مع الدول الأفريقية، وذلك عن طريق توسيع تجارتها الخارجية، وتنويع أسواقها، سواء في التصدير، أو استيراد بعض حاجاتها، وإيجاد مجالات لاستثماراتها، وتشغيل بعض أموالها في تسهيلات ائتمانية لهذه الدول. ولعل قيام الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء قيادة عسكرية في أفريقيا، في شهر شباط عام 2007، باسم أفريكوم، يكشف مدى تطابق المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية الأمريكية في أفريقيا، وبخاصة في منطقة القرن الأفريقي الكبير.

وإذا دققنا في مضمون العلاقات الاسرائيلية مع دول إفريقيا، نجد أن الجانب العسكري والاستخباراتي هو الغالب فيها، سواء لبيع الأسلحة الإسرائيلية أو لإقامة قواعد تجسسية عسكرية، أو للتغلغل في جيوشها والنفاذ إلى الأجهزة والمرافق الحساسة فيها. وتمثل النشاط العسكري في إيفاد البعثات بأعداد كبيرة لتنظيم الوحدات العسكرية وتدريبها، واستقدام العسكريين الأفارقة إلى فلسطين المحتلة لتدريبهم في المعاهد العسكرية الإسرائيلية، وإقامة العلاقات مع كبار القادة العسكريين الأفارقة، وإنشاء مدارس عسكرية تديرها اسرائيل مثل مدرسة للمظلات في الكونغو، ومدارس عسكرية في سيراليون، وعقد اتفاقيات عسكرية وأمنية، وإعادة بناء الجيوش وتسليحها مع رواندا وبورندي على سبيل المثال، كما حصلت إسرائيل على تسهيلات عسكرية بإقامة قواعد عسكرية وأمنية وبحرية وتجسسية في أماكن استراتيجية في إفريقيا، ومنها على البحر الأحمر، وفي أثيوبيا وغيرها لأغراضها العسكرية العدوانية.

ومع الكونغو الديمقراطية وقّعت اسرائيل عام 2002 نحو12 اتفاقية للتعاون الشامل، منها اتفاقية عسكرية سرية أمنية، تقوم بمقتضاها اسرائيل بتدريب وتسليح الجيش الكونغولي والقوات الخاصة، والمشاركة في إعداد بناء قوات الشرطة والأمن. وما أكثر الدول الإفريقية التي لها علاقات عسكرية مع إسرائيل، كما توجد مكاتب للموساد الإسرائيلي في أوغندا وأرتيريا وأثيوبيا والكونغو وكينيا ورواندا وغيرها، وفق اتفاقيات أبرمتها اسرائيل مع تلك الدول. إضافة إلى هذا تقوم شركات الأمن الإسرائيلية بدور خطر في القارة الأفريقية وهناك شركات تتولى تنفيذ المخططات الإسرائيلية في إفريقيا مملوكة لعناصر يهودية، تستخدم لإحداث الصراعات وإسقاط الأنظمة التي تسعى إلى التقارب مع الدول العربية، ولإحكام السيطرة الاقتصادية والسياسية على تلك الدول. واستكملت إسرائيل مشروعاً للتجسس في أفريقيا، بوضع القمر الصناعي عاموس 1 فوق مدار القمر العربي عرب سات فوق أجواء كينيا، للتجسس على الاتصالات العربية والأفريقية.

وبالرغم من كون التواجد الإسرائيلي في إفريقيا يمثل حقيقة واقعة، إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في تزايد تغلغل إسرائيل داخل القارة الأفريقية دون أن أي مقاومة عربية أو أفريقية على الإطلاق، فالدول العربية تهمل تماماً استغلال أي من أدواتها التي بإمكانها استخدامها ليس للتصدي للتغلغل الإسرائيلي في أفريقيا، وإنما على الأقل التصدي لإمكانية استغلال إسرائيل لهذا التغلغل في المسّ بالأمن القومي العربي والأفريقي، وهو ما يشكل تهديداً واضحاً ومباشراً للمصالح العربية والأفريقية. والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها، أن الوجود الإسرائيلي في أفريقيا يشكل خطراً مباشراً على الشعوب الأفريقية والدول العربية، ويمنع العلاقات الودية والاقتصادية والسياسية وغيرها بينهما، الأمر الذي يحتاج إلى استنهاض طاقات الجميع وتنظيمها بشكل موضوعي ومدروس للوقوف أمام الطغيان الإسرائيلي عدو الشعوب، قبل أن تتحول أفريقيا إلى مستوطنة إسرائيلية، وقبل إحداث المزيد من التدمير في الوطن العربي. ولأجل وضع حد لأدوات وآليات التغلغل الإسرائيلي في القارة السمراء، من المفيد وضع استراتيجية التصدي للتغلغل الإسرائيلي في أفريقيا تنطلق من:

ـ تفعيل الدور الأفريقي في الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي الذي أصبح حاجة ملحة، بخاصة أن الدول الأفريقية تمثّل قرابة نصف عدد الأعضاء، في كلتا المنظمتين الأخيرتين، نظراً لوجود مكتب لمقاطعة إسرائيل في كلتيهما، وهو ما يملأ الفراغ الذي يخلقه ضعف الصوت المعارض لـ إسرائيل داخل منظمة الوحدة الأفريقية لغياب مكتب مقاطع مماثل بها، وهو ما يعد مظهراً من مظاهر التأثير الدولي الإسرائيلي عليها.

ـ تأسيس آلية عربية أفريقية مشتركة للأمن الجماعي لمكافحة الإرهاب بين الدول المطلة على البحر الأحمر، تأسيساً على الاتفاقيات العربية لمكافحة الإرهاب القاهرة 1998″، والأفريقية لمنع ومكافحة الإرهاب الجزائر 1999، ومعاهدة منظمة المؤتمر الإسلامي لمكافحة الإرهاب الدولي واغادوغو 1999.

ـ دعم وتعزيز التعاون الاستراتيجي بين دول حوض النيل، والعمل على إجهاض المشروعات الإسرائيلية على هضبة الحبشة، وفي باقي دول المنابع.

ـ إعادة النظر في قوانين المنظمات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية، والاتحاد الأفريقي، لأنها أصبحت غير صالحة بالنسبة للمتغيرات، فليس معقولاً للجامعة العربية التي نشأت في ظروف الأربعينيات أن تواجه تطورات المواقف القطرية والإقليمية والدولية في القرن الحادي والعشرين، وكذلك الحال مع الاتحاد الأفريقي.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/23673

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M