د. محمد عباس ناجي
رغم أن المبعوث الأمريكي الخاص إلى إيران روبرت مالي، أكّد في جلسة استماع علنية بمجلس الشيوخ في 25 مايو الجاري، على أن “فرص الوصول إلى اتفاق ضعيفةٌ في أحسن الأحوال”؛ إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الغربية بشكل عام، ما زالت تُعوِّل على إمكانية الوصول إلى صفقة في المفاوضات التي توقفت مع إيران في فيينا منذ 11 مارس الماضي. وفي رؤية واشنطن، فإن هذه الصفقة التي بات احتمال إبرامها ضعيفًا، وفقًا لرؤية مالي، يمكن أن تجنب العالم ومنطقة الشرق الأوسط مخاطر جمة. ومن هنا فإنها بدأت في الاعتماد على خيارين رئيسيين لممارسة ضغوط أقوى على إيران لدفعها إلى الوصول لصفقة بشروط أقل حدة لا تتضمن، على سبيل المثال، شطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية.
الأول: يتمثل في فرض مزيد من العقوبات على الشبكات التي تستخدمها إيران لتهريب النفط والحصول على عائدات من العملة الأجنبية لتمويل الأنشطة التي يقوم بها “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري وحزب الله اللبناني. وهنا، فإن الرسالة واضحة ومفادها أن البديل للاتفاق هو مزيد من العقوبات التي لن تكون أمريكية فقط، بل ستكون غربية في المقام الأول، بعد أن تنضم إليها الدول الأوروبية أيضًا. ومن دون شك، فإن نجاح إسرائيل في توجيه ضربات أمنية جديدة إلى إيران داخل حدود الأخيرة، على غرار اغتيال العقيد في “فيلق القدس” حسن صياد خدايي، في 22 مايو الجاري، يضيف، وفقًا للرؤية الأمريكية، مزيدًا من الضغوط على إيران في هذا السياق.
والثاني: ينصرف إلى الاعتماد على متغير الوقت. إذ تحاول إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن توجيه تحذيرات لإيران من أن إهدار مزيد من الوقت يضعف من فرص الوصول إلى صفقة نووية جديدة تعزز من احتمال استمرار العمل بالاتفاق النووي خلال المرحلة القادمة.
وهنا، يمكن القول إن الإدارة الأمريكية ترى أن الوقت يمضي في غير صالح إيران. ووفقًا لذلك، فإن إيران لن تستطيع تحمل ضغوط العقوبات على المديين المتوسط والبعيد، بدليل تصاعد حدة الاحتجاجات الحالية التي تجتاح مدنًا عديدة في إيران نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية التي انعكست في ارتفاع أسعار السلع الأساسية بعد قرار حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي توحيد سعر الصرف. وقد بدأت هذه الاحتجاجات تُمثّل متغيرًا ضاغطًا على الحكومة، خاصةً أن المحتجين بدأوا -كالمعتاد- في الربط بين تردي الأوضاع الاقتصادية والتوجهات العامة التي يتبناها النظام الحاكم، ولا سيما استنزاف الموارد الإيرانية في دعم الحلفاء الإقليميين من الأنظمة والمليشيات المسلحة الموجودة في دول الأزمات.
تأثير محدود
لكنّ التمعن في قراءة هذين الخيارين يكشف أنهما لن يكون لهما تأثير كبير على الموقف الإيراني. إذ لن تُضيف أية عقوبات أوروبية محتملة على إيران أعباء جديدة على الاقتصاد الإيراني الذي يُعاني من العقوبات الأمريكية. فضلًا عن أن التعاملات الثنائية بين إيران وتلك الدول محدودة في الأساس، في ظل تعويل الأولى على العلاقات الثنائية مع الصين وروسيا إلى جانب دول الجوار، كما بدا واضحًا في الزيارتين اللتين قام بهما أمير قطر تميم بن حمد إلى إيران، في 12 مايو الجاري، والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى سلطنة عمان، في 23 من الشهر نفسه.
بالتوازي مع ذلك، فإنّ تعويل الإدارة الأمريكية على عامل الوقت كورقة ضغط على إيران يواجه -بدوره- إشكاليات عديدة. إذ يمكن القول إن الوقت أيضًا لا يمضي في صالح الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية بشكل عام، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
نجاح إيران في امتلاك التكنولوجيا: إن مُضِيّ الوقت دون الوصول إلى صفقة جديدة معناه السماح لإيران باكتساب المعرفة النووية الكافية لامتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية، وهو ما يمثل خطرًا كبيرًا. فإذا كان من الممكن، وفقًا لأي اتفاق محتمل، التعامل مع الإجراءات التصعيدية الأخرى التي اتخذتها إيران، ولا سيما كميات اليورانيوم المخصب بنسبتي 20 و60%، وأجهزة الطرد المركزي من طرازات أكثر تطورًا مثل “IR4” و”IR6″، عبر آليات عديدة مثل تدميرها أو نقلها إلى الخارج، أو تخزينها تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ فإن ذلك لن يطبق في حالة اكتساب المعرفة Know How، التي تبدو أكثر أهمية بشكل واضح من المكونات التكنولوجية الأخرى للبرنامج النووي الإيراني. وبمعنى أدق، فإنه لا يوجد ما يمكن من خلاله نزع تلك المعرفة من إيران حتى في حالة الوصول إلى اتفاق نووي، وهو ما يمكن أن تستثمره إيران في مرحلة لاحقة. فالمعرفة تبقى في العقول وليس في منشآت تخصيب اليورانيوم. وربما يمثل ذلك أسباب اهتمام إسرائيل باستهداف علماء نوويين إيرانيين في مرحلة سابقة كان آخرهم رئيس منظمة الأبحاث والتطوير في وزارة الدفاع محسن فخري زاده الذي اغتيل في 27 نوفمبر 2020.
إطالة أمد الحرب الروسية-الأوكرانية: افتتحت الحرب الروسية-الأوكرانية شهرها الرابع، في 24 مايو الجاري، دون أن تكون هناك مؤشرات توحي بأنها تشرف على النهاية. فلا روسيا حققت أهدافها المعلنة من البداية، ولا أوكرانيا أبدت استعدادها للاستجابة لها، ولا الدول الغربية تراجعت عن تقديم مزيد من الدعم العسكري للأخيرة، بل إنها تمعن في رفع مستوى هذا الدعم، كدلالة على أنها تتوقع استمرار الحرب خلال المرحلة القادمة.
إذ أقر الكونجرس الأمريكي، في 19 مايو الجاري، حزمة ضخمة من المساعدات إلى أوكرانيا تبلغ قيمتها 40 مليار دولار. وهنا، فإنه كلما طال أمد الحرب في أوكرانيا، مثّل ذلك متغيرًا ضاغطًا في اتجاه الوصول إلى تسوية للأزمة النووية الإيرانية بدلًا من المجازفة بإشعال حرب جديدة في المنطقة، قد تحدث في حالة فشل المفاوضات وعودة إيران إلى تنشيط برنامجها النووي من جديد والإسراع في الوصول إلى نسبة 90% اللازمة لإنتاج القنبلة النووية.
فمع افتراض فشل المفاوضات النووية في فيينا، فإن ذلك يعزز من احتمال اتجاه إيران إلى تطوير برنامجها النووي، واستهداف المصالح الأمريكية والإسرائيلية، خاصة بعد إصرار تل أبيب على مواصلة عملياتها الأمنية ضدها، وكان آخرها اغتيال صياد خدايي في 22 مايو الجاري. وهنا، فإن المواجهة المباشرة، التي وقعت في مدينة أربيل العراقية، في 13 مارس الماضي، ربما لن تكون الأخيرة، وقد تتكرر على نطاق أوسع في منطقة أو دولة أخرى، على نحو يهدد بإشعال حرب جديدة في المنطقة سوف تقترب منها الولايات المتحدة الأمريكية، إن لم تنخرط فيها بشكل مباشر، بشكل سوف يفرض في النهاية تهديدات جدية لأمن ومصالح الدول الغربية بشكل عام، ويفرض عليها إدارة أزمتين، أو بمعنى أدق حربين في آن واحد.
تزايد ثقة إيران في التعايش مع الأزمة: بمرور الوقت، تتزايد ثقة النظام في إيران، ولا سيما الحرس الثوري وتيار المحافظين الأصوليين الذي يسيطر على معظم دوائر صنع القرار، بأنه يمكن التعايش مع احتمال انهيار المفاوضات وفشل الصفقة. ويبدو ذلك واضحًا، سواء في تصريحات المسئولين الإيرانيين أو تقارير وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الإيرانية. فعلى سبيل المثال، قال محسن خجسته مهر، الرئيس التنفيذي لشركة النفط الوطنية الإيرانية، في 4 أبريل الماضي، إن “إنتاج النفط وصل إلى أرقام ما قبل العقوبات بمعدل 3.8 ملايين برميل يوميًا، على الرغم من الضغوط الاقتصادية”. وأعلن وزير النفط جواد أوجي، في تصريحات لصحيفة “كيهان”، في 6 أبريل الفائت، أن الحكومة نجحت في الأشهر السبعة الماضية، في توقيع عقود في قطاع النفط بقيمة 16.5 مليار دولار مع شركات محلية وأجنبية بدون رفع العقوبات أو الانضمام لاتفاقية “فاتف” (اتفاقية مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال).
ومن دون شك، قد لا يقارن ذلك بما يمكن أن تحصل عليه إيران من عائدات بالعملة الأجنبية في حالة الوصول إلى صفقة ورفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها في مجال الصادرات النفطية والتعاملات المصرفية. لكنّ هناك اتجاهًا في إيران بات يرى أن البحث عن بدائل لتصدير النفط والالتفاف على العقوبات الأمريكية ورفع مستوى العلاقات الثنائية مع الدول المختلفة، لا سيما دول الجوار، يمثل خيارًا أفضل من الوصول إلى صفقة نووية يمكن أن تدفع إيران إلى تقديم تنازلات كبيرة ونوعية. بل إن هذا الاتجاه يركز على أن إبرام هذه الصفقة المحتملة بدون شطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية يفرغها من مضمونها، لأن بقاء الحرس على القائمة سوف يدفع الشركات الأجنبية إلى العزوف عن الانخراط في استثمارات داخل إيران مجددًا خشية التعرض لعقوبات أمريكية.
تعزيز المحور الصيني-الروسي-الإيراني: ربما تدفع الضغوط الغربية الحالية كلًا من روسيا والصين وإيران إلى تعزيز العلاقات فيما بينها كأحد الخيارات المتاحة لمواجهة هذه الضغوط واحتواء تأثيراتها. وبالطبع، فإن ذلك قد لا يعبر عن توجه جديد تتبناه الدول الثلاث، التي بدأت بالفعل في اتخاذ إجراءات تنفيذية لتحقيق ذلك على غرار اتفاقية الشراكة الاستراتيجية التي وقعت بين الثانية والثالثة لمدة 25 عامًا وتقضي بأن تقوم الصين بضخ استثمارات في إيران بقيمة 400 مليار دولار، ولكنه سوف يحظى بأهمية أكبر في حالة تصاعد حدة العقوبات الغربية على روسيا وتزايد الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيون لأوكرانيا، بالتوازي مع إمكانية اندلاع أزمة أخرى محتملة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية حول تايوان بدأت مؤشراتها تتوالى في الفترة الماضية.
وفي ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن باتت أمام مأزق حرج في إدارة أزمة الملف النووي الإيراني. فإما أن تُصر على إبرام صفقة مع إيران تتعرض بسببها لضغوط داخلية وخارجية لا تبدو هينة من جانب نواب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وحلفائها الإقليميين في الشرق الأوسط؛ وإما أن تغامر بانهيار المفاوضات التي تجاوزت عامها الأول، وتدفع إيران إلى الحصول على المعرفة اللازمة لامتلاك القنبلة النووية في مرحلة لاحقة.
.
رابط المصدر: