تسليع اللاجئين: دوافع وتداعيات توقيع “شراكة الهجرة والتنمية” بين بريطانيا ورواندا

هايدي الشافعي

 

وقّعت وزيرة الداخلية البريطانية “بريتي باتيل”، يوم الخميس 14 إبريل، اتفاقية شراكة مع وزير الخارجية الرواندي “فينسنت بيروتا” لمدة 5 سنوات، لإرسال المهاجرين وطالبي اللجوء الذين يعبرون القنال الإنجليزي إلى الدولة الواقعة في شرق إفريقيا. وبموجب ترتيب شراكة اللجوء الجديدة، سيتم إرسال الأشخاص الذين يصلون إلى المملكة المتحدة بشكل غير قانوني أو الذين وصلوا منذ 1 يناير 2022 إلى رواندا لمعالجة طلبات اللجوء الخاصة بهم، وذلك بهدف تقليل حجم عبور المهاجرين في القناة الإنجليزية، ووقف تهريب البشر، وتعزيز الاستثمار والتنمية في رواندا من خلال الاستثمار في تطوير المهارات والمشاريع التي تعود بالفائدة على المهاجرين ومضيفيهم. وأثارت هذه الاتفاقية انتقادات داخلية وخارجية واسعة، بين رافضين للاتفاق ذاته، ومؤيدين له لكنهم متحفظون على الدولة المضيفة (رواندا).

وترسخ هذه “الصفقة” وغيرها من الصفقات المشابهة لفكرة مفادها أن الدول يمكن أن تدفع للتخلي عن مسئولياتها، وإلقائها على عاتق طرف آخر مقابل مبالغ مالية أو صفقات شراكة اقتصادية واستثمارات، وهو ما يهدد بإعادة تشكيل نظام حماية اللاجئين العالمي وتحويله من نظام مدفوع بالالتزام الأخلاقي المشترك إلى نظام معاملات تجارية، حيث تعمل البلدان الغنية التي ترغب في التخلص من التزاماتها تجاه طالبي اللجوء، على إبرام صفقات مع الدول الفقيرة، تبيعها اللاجئ كسلعة، وهو ما سيؤدي إلى تضييق فرص طالبي اللجوء، ويدفعهم أكثر إلى أيدي المهربين. فعندما تم إرسال اللاجئين من إسرائيل إلى رواندا، قرر الكثيرون عدم البقاء في رواندا واغتنام فرصة السفر إلى أوروبا عبر السودان وليبيا وعبر البحر الأبيض المتوسط، وخلقت الصفقة الإسرائيلية سوقًا جديدة للمهربين، ومن ثم فمن المرجح أن تفعل صفقة المملكة المتحدة مع رواندا الشيء نفسه تمامًا.

في هذا السياق، ستتناول الورقة توضيح السوابق المتعددة لاتفاقيات “تسليع اللاجئين”، ومضمون اتفاق الشراكة الجديد، وأهداف كل من المملكة المتحدة ورواندا من عقد هذه الصفقة، والانتقادات والتحديات التي تواجه تطبيقها.

سوابق مهمة

إن المعالجة الخارجية لطالبي اللجوء ليست مفهومًا جديدًا، وبالتالي لم تكن صفقة نقل المهاجرين وطالبي اللجوء بين لندن وكيجالي هي الأولى من نوعها، حيث نفذت الدنمارك وإسرائيل وأستراليا تفويضات مماثلة في السنوات الأخيرة. فمنذ عام 2001، أرسلت أستراليا الآلاف من “الوافدين البحريين غير الشرعيين” إلى ناورو وبابوا غينيا الجديدة، فيما يعرف بـ”حل المحيط الهادئ”، وهو آلية صاغتها الحكومة الأسترالية في عام 2001 لردع طالبي اللجوء الذين يصلون بالقوارب، وخلق نظام من مستويين لتقييم طلبات اللجوء، وتم إرسال طالبي اللجوء إلى بابوا غينيا الجديدة وناورو، وعلى الرغم من إلغائها في نهاية عام 2007، إلا أنها أعيدت للحياة في عام 2012.

بالإضافة لذلك، في عام 2016 وقع الاتحاد الأوروبي صفقة مع تركيا وافقت بموجبها تركيا على التصدي للمهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى أوروبا، واستضافتهم مقابل مساعدات تصل إلى 7 مليارات يورو، وتخفيف شروط التأشيرات للأتراك وتوسيع الاتحاد الجمركي بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. وفي غضون ذلك، تجري الدنمارك محادثات مع دول مختلفة، منها إثيوبيا وتونس ورواندا، من أجل إيجاد شريك لنقل المهاجرين وطالبي اللجوء، بعد أن أقرت قانونًا في عام 2021 ينص على أنه يمكن نقل اللاجئين في الدنمارك إلى مراكز اللجوء في دول شريكة.

وبالنسبة للدولة المضيفة ذاتها، أصبحت رواندا وجهة رئيسية للدول الراغبة في التخلص من طالبي اللجوء، حيث شاركت رواندا سابقًا في صفقة سرية مع إسرائيل لقبول طالبي اللجوء الأفارقة الذين تم ترحيلهم بين عامي 2014 و2017، ووصل عددهم إلى حوالي 4000 طالب لجوء، معظمهم من السودانيين والإريتريين، وألغت إسرائيل الصفقة في نهاية المطاف، وكذا في عام 2019 استقبلت رواندا ما يزيد على 900 لاجئ إفريقي كانوا موجودين في ليبيا، بموجب آلية العبور في حالات الطوارئ، التي تم الاتفاق عليها بالشراكة مع مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين (UNHCR) والاتحاد الإفريقي، بتمويل من الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء. بالإضافة لاستقبال رواندا وأوغندا عددًا من اللاجئين الأفغان لحين إعادة ترحيلهم لدول أخرى. وتجدر الإشارة إلى أنه من المفارقات أن الدنمارك والمملكة المتحدة كانتا من بين أول 11 دولة وقعت على اتفاقية اللاجئين لعام 1951، وكلاهما يعمل الآن على جعل إرسال طالبي اللجوء إلى الخارج أمرًا قانونيًا، وهو ما يفتح الباب أمام الدول الأخرى لفعل الشيء نفسه.

إجراءات معقدة

وفقًا للشراكة الجديدة الموقّعة بين المملكة المتحدة ورواندا، فإنه فور وصول طالبي اللجوء إلى رواندا سيتم وضعهم في سكن مؤقت أثناء النظر في طلباتهم، وإمكانية قبولهم كلاجئين من عدمه، وهي عملية ستستغرق حوالي ثلاثة أشهر للبتّ فيها. ويوضح الشكل التالي مسارات التعامل مع طالبي اللجوء المعاد توطينهم في رواندا وفقًا لما تنص عليه اتفاقية شراكة الهجرة والتنمية الاقتصادية بين رواندا والمملكة المتحدة.

بناءً على اتفاق شراكة الهجرة والتنمية، سيكون لدى المهاجرين الذين يصلون إلى رواندا عدة خيارات؛ إما التقدم بطلب للحصول على اللجوء وإعادة التوطين هناك لمدة 5 سنوات قابلة للتجديد، أو مساعدتهم على العودة إلى بلدهم الأصلي إذا رغبوا في ذلك. وفي حالة الاعتراف بهم كلاجئين، فسيتم منحهم حق اللجوء ومعاملتهم وفقًا لاتفاقية اللاجئين والمعايير الدولية والقوانين الرواندية، وسيتم تسهيل اندماجهم في المجتمع، أما بالنسبة لأولئك الذين لم يتم الاعتراف بهم كلاجئين، فستنظر رواندا فيما إذا كان الفرد المعاد توطينه يحتاج إلى حماية إنسانية أخرى، مثل أن تؤدي العودة إلى بلدهم الأصلي إلى خطر حقيقي على حياتهم، وفي حالة وجود هذه الحاجة، فسيسمح لهم بالبقاء في رواندا ويتم منحهم حقوقًا ومعاملة مساوية لأولئك المعترف بهم كلاجئين.

في سياق متصل، سيمنح الأفراد الذين لم يتم الاعتراف بهم كلاجئين ولا يحتاجون إلى الحماية، الحق في تقديم طلب للحصول على إذن للبقاء في رواندا على أي أساس آخر وفقًا لقوانين الهجرة المحلية لرواندا، أو ستقوم رواندا بنقل مثل هؤلاء الأشخاص إلى بلد ثالث لهم الحق في الإقامة فيه. ويذكر أنه إذا تم رفض طلب اللجوء المقدم من فرد تم إعادة توطينه في رواندا، فسيكون له حق الوصول إلى الإجراءات القانونية للاستئناف وفقًا للقوانين الرواندية، وليست قوانين المملكة المتحدة.

وعلى الرغم من صلاحية تطبيق الاتفاقية على كل الأشخاص الذين وصلوا المملكة المتحدة بطرق غير قانونية منذ 1 يناير 2022، وعلى مدار السنوات الخمس التي تلي بدء التنفيذ، إلا أن رواندا اشترطت استثناء بعض الفئات وعدم السماح بإعادة توطينهم على أرضها بموجب هذه الاتفاقية، وتضمنت هذه الفئات المستثناة أي شخص قاصر، أو له سجل إجرامي، وكذلك لن يتأهل المهاجرون غير الشرعيين في المملكة المتحدة من جيران رواندا الإقليميين للبرنامج وهم: جمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي، وأوغندا، وتنزانيا، لأن هذه الدول لديها بالفعل قنوات رسمية واتفاقيات مع رواندا، يمكن لمن يريد أن يصبح لاجئ استخدامها، وكذا لن تشمل هذه الاتفاقية المهاجرين وطالبي اللجوء الفارين من روندا، وأي لاجئ ترى المملكة المتحدة عدم إرساله.

في غضون ذلك، سيتم إيواء طالبي اللجوء المعاد توطينهم مؤقتًا في نزل أو فنادق في كيجالي أثناء النظر في طلبات لجوئهم، ومن بين هذه النزل بيت ضيافة على بعد ميل واحد من وسط كيجالي، يعرف باسم hope guest house، ويتسع لحوالي 100 شخص، إلى جانب بنايتين إضافيتين يخططون لبنائها من 50 غرفة، ولم تصرح الحكومة الرواندية بعد عن الأماكن الأخرى التي ستستضيف فيها اللاجئين، الذين قد يصل عددهم إلى عشرات الآلاف.

إلى جانب هذا، سيتمتع طالبو اللجوء المعاد توطينهم بحماية كاملة من القانون الرواندي، وسيتم الاعتناء بجميع احتياجاتهم أثناء النظر في طلبات اللجوء الخاصة بهم في رواندا، وسيكون لديهم وصول كامل إلى المترجمين، وسيكونون قادرين على الحصول على الدعم القانوني من أجل استئناف القرارات في محاكم رواندا، حتى يحين الوقت الذي يتم فيه تسوية وضعهم كلاجئين في رواندا، أو مغادرتهم إلى المملكة المتحدة، أو يتم ترحيلهم لبلد ثالث.

الدوافع البريطانية 

تسعى المملكة المتحدة لإرسال عشرات الآلاف من طالبي اللجوء إلى رواندا، بموجب اتفاقية شركة الهجرة والتنمية الاقتصادية، وذلك تحقيقًا لعدد من الأهداف، أبرزها:

  • الحد من تدفق المهاجرين عبر القنال الإنجليزية:

على الرغم من إنفاق المملكة المتحدة ملايين الجنيهات الإسترلينية على تدابير مختلفة للحد من الأعداد المتزايدة للمهاجرين الذين يعبرون القنال الإنجليزية من فرنسا إلى بريطانيا في قوارب صغيرة، إلا أنها لا تزال في ارتفاع، ففي عام 2021 دخل أكثر من 35000 شخص إلى المملكة المتحدة بشكل غير قانوني، بينهم حوالي 28500 بالقوارب، هذا مقارنة بـ 8466 في عام 2020 و1843 في عام 2019 و299 في عام 2018. بالإضافة لذلك، عبر أكثر من 4500 مهاجر القنال خلال الفترة من يناير وحتى إبريل 2022، وهو ما يمثل أربعة أضعاف العدد في الفترة نفسها من العام الماضي، ومن المتوقع أن تصل الأعداد إلى نحو 60000 مهاجر وطالب لجوء بنهاية عام 2022.

ودفع هذا الارتفاع الحاد في الأعداد إلى سلوك حكومة جونسون العديد من الطرق لردع هؤلاء المهاجرين وطالبي اللجوء، ومن بين هذه الطرق إعادة توطينهم في بلد آخر، وبعد البحث عن هذه الإمكانية في أكثر من دولة منهم، وقع الاختيار في النهاية على رواندا، على أمل أن يكون ذلك رادعًا لأولئك الآملين في البقاء بالمملكة المتحدة، عندما يجدون أن الأمر سينتهي بهم في بلدة فقير بشرق إفريقيا.

إلى جانب هذا، ترى بريطانيا أن هذه الأعداد الهائلة من المهاجرين غير القانونيين تستنفد الكثير من موارد الدولة وأموال دافعي الضرائب، التي كان من المفترض أن يتم توجيهها لحماية ودعم المحتاجين الحقيقيين الذين تسمح لهم المملكة المتحدة باللجوء عن طريق القنوات الشرعية، لذا فمثل هذه الصفقة ستساهم في جعل نظام اللجوء أكثر عدلًا، من وجهة نظر بريتي باتيل وزيرة داخلية بريطانيا، التي ترى أن نظام اللجوء في المملكة المتحدة لا بد أن يعتمد على الحاجة، وليس على القدرة على الدفع لمهربي البشر.

  • تدعيم الخطة الكبيرة لاحتواء ظاهرة اللجوء:

تأتي هذه الصفقة في أعقاب مشروع قانون “الجنسية والحدود”، الذي من المنتظر أن يُجري تغييرات جذرية على نظام اللجوء في المملكة المتحدة، ومن شأنه أن يجعل الدخول غير القانوني إلى المملكة أكثر صعوبة، وبموجب هذا القانون فإن من يتم العثور عليهم ممن دخلوا بشكل غير قانوني قد يواجهون السجن لمدة تصل إلى أربع سنوات، ويواجه هذا القانون معارضة قوية، حيث تم رفضه عدة مرات، إلا أن إصرار حكومة بريطانيا عليه جعلهم يجرون الكثير من التعديلات، في انتظار إقراره من البرلمان، ويهدف مشروع القانون، من بين أهداف أخرى، إلى ثني الناس عن دخول المملكة المتحدة لطلب اللجوء من خلال وسائل غير قانونية أو غير شرعية، وعلى وجه الخصوص إنهاء عبور القوارب الصغيرة عبر القنال الإنجليزية. بناء عليه، فإن صفقة رواندا هي جزء أساسي من استراتيجية أوسع لتقليل عدد الأشخاص الذين يدخلون المملكة المتحدة عن طريق عبور القنال في قوارب صغيرة، وتساعد في تفعيل واحد من أهم أهداف مشروع قانون “الجنسية والحدود”.

  • إحراز مكاسب سياسية لحكومة حزب المحافظين:

يجادل بعض المعارضين للاتفاق بأن السبب الرئيسي من هذه الصفقة سياسي بالأساس، حيث يحاول جونسون صرف الانتباه عن الدعوات المتجددة له للاستقالة بعد تغريمه من قبل الشرطة لحضوره تجمعًا في عيد ميلاده في يونيو 2020، عندما كان الاختلاط الاجتماعي محظورًا بموجب الإجراءات الاحترازية التي أدخلتها حكومته لمكافحة انتشار كوفيد-19، لذا كانت الاتفاقية فرصة لشغل الرأي العام الغاضب بنقطة نقاش أخرى.

بالإضافة لذلك، استخدم بوريس جونسون قضية الهجرة غير الشرعية لكسب دعم الناخبين، حيث كانت المخاوف بشأن الهجرة عاملًا هامًا في التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، وجادل جونسون في حملته الانتخابية عام 2019 بأن الخروج سيسمح للمملكة المتحدة باستعادة السيطرة على حدودها، ووعد بتحقيق ذلك، وهو ما ثبت عكسه بزيادة أعداد طالبي اللجوء، مما أدى إلى زيادة الضغوط على جونسون للوفاء بوعده، ومن هنا تمثل صفقة رواندا فرصة لتحسين صورة جونسون أمام الناخبين إذا نجحت حكومته في تقليل عدد طالبي اللجوء.

من جهة أخرى، تمثل شخصية “بريتي باتيل” وزيرة الداخلية في حكومة جونسون، التي وقعت الصفقة، وتتولى مسئولية تنفيذها، جزءًا من عوامل إتمام الصفقة لا يمكن إغفاله، فبالرغم من أنها مولودة لأبوين أصولهما هندية وولدا في أوغندا وهاجرا إلى المملكة المتحدة في الستينيات، إلا أنها من الشخصيات البارزة التي تعرف برفضها المتشدد للهجرة غير الشرعية، ودعمها نظام تصنيف واختيار اللاجئين وفقًا لاحتياجات المملكة المتحدة، وحاولت على مدار ثلاث سنوات إبرام العديد من الصفقات لدعم أهدافها، لكن لم يحالفها النجاح، وكان آخرها صفقة مع فرنسا لإعادة القوارب التي تقترب من المملكة المتحدة عبر القنال الإنجليزية إلى فرنسا، وتم رفضها، واستمرت محاولات باتيل حتى استطاعت أخيرًا عقد صفقة رواندا، ولتمرير الصفقة دون انتظار إقرار قانون “الجنسية والحدود”، اضطرت باتيل إلى إصدار “توجيه وزاري”، وهي صلاحية لم تستخدمها وزارة الداخلية البريطانية سوى مرة واحدة خلال ثلاثين عامًا، وهذه هي المرة الثانية، مما يؤكد إصرارها على إتمام الصفقة.

الدوافع الرواندية 

من المثير للاهتمام معرفة لماذا قبلت رواندا بهذه الصفقة التي تواجه الكثير من الانتقادات، فمن المؤكد أن الاعتبارات الإنسانية على أهميتها ليست السبب الرئيسي في قبول رواندا صفقة إعادة التوطين واستقبال طالبي اللجوء الذين سيتم إرسالهم من المملكة المتحدة، بل إن الاعتبارات الاقتصادية والسياسية حاضرة بقوة في هذا الملف.

  • الحصول على عوائد اقتصادية:

بموجب اتفاقية شراكة الهجرة والتنمية الاقتصادية ستقدم المملكة المتحدة استثمارات كبيرة لتعزيز تنمية رواندا، بما في ذلك الوظائف والمهارات والفرص لإفادة المهاجرين والمجتمعات المضيفة على حد سواء، وبالتالي سيستفيد المواطنون الروانديون من برامج التدريب والرعاية وفرص التوظيف التي ستكفلها المملكة المتحدة، وتتضمن الشراكة استثمارًا أوليًا قدره 120 مليون جنيه إسترليني (158 مليون دولار)، مخصصة “للتنمية الاقتصادية والنمو”، وبالإضافة لذلك ستمول المملكة المتحدة أيضًا تكاليف المعالجة، والإقامة، والطعام، والرعاية الصحية، والمشورة القانونية، والمترجمين، لكل شخص يتم نقله، فضلًا عن حزمة متكاملة من البرامج لمساعدتهم على التأقلم وبدء حياة جديدة، ومن المتوقع أن يكون المبلغ مشابهًا لتكاليف المعالجة المتكبدة في المملكة المتحدة، والتي تصل إلى نحو 30 ألف جنيه إسترليني للفرد، على أن يتم توفير التمويل فقط أثناء بقاء الشخص في رواندا، وهذه التكلفة ستوفر دفعة كبيرة لاقتصاد رواندا، بشكل خاص بعد الخسائر التي تكبدها الاقتصاد من جراء وباء كوفيد-19، وعلى الرغم من معدلات التنمية التي حققتها رواندا في عام 2021، إلا أن تبعات الجائحة لا تزال تؤثر بشكل كبير على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.

كما تطمح رواندا في أن تنطوي شراكة الهجرة مع المملكة المتحدة على تعاون أوسع مع رواندا في العديد من القضايا المشتركة، بما في ذلك الجهود المبذولة لمكافحة تغير المناخ، وتقديم المساعدات البريطانية، فضلًا عن الاستثمار في مشروعات كثيفة العمالة لتوفير وظائف للمهاجرين وللشعب المضيف، مما قد يساعد في تخفيض البطالة التي ارتفعت بنسبة 13 نقطة مئوية من جراء الجائحة، ويسهم بشكل جزئي في تحقيق هدف حكومة رواندا في عكس اتجاه الهجرة الجماعية للشباب من البلاد.

  • تحقيق مكاسب سياسية داخلية وإقليمية:

يمكن القول إن الاعتبارات السياسية كانت عاملًا رئيسيًا في قبول رواندا لصفقة المملكة المتحدة، حيث تسهم الاتفاقية في تحقيق أهداف سياسية عدة لرواندا، أبرزها تحسين صورة رواندا، حيث يسعى الرئيس الرواندي “بول كاجامي” منذ عقود إلى تلميع صورة رواندا في المجتمع الدولي، في شتى المجالات، ومحو الانطباعات السيئة عنها نتيجة تاريخها الدموي في فترة التسعينيات أثناء أحداث الإبادة الجماعية بين قبيلتي الهوتو والتوتسي، والتي راح ضحيتها ما يزيد على 800 ألف رواندي؛ وقد تساعد سياسته المنفتحة على اللاجئين في تحسين هذه الصورة.

هذا بجانب تخفيف الانتقادات السياسية للنظام الرواندي. فقد واجهت رواندا انتقادات دولية عدة خلال السنوات الماضية بسبب تعاملها في ملف حقوق الإنسان، بما في ذلك في يناير 2021، طلبت حكومة المملكة المتحدة من كيجالي معالجة “القيود المستمرة على الحقوق المدنية والسياسية وحرية الصحافة”، ولكن بعد توقيع الصفقة، تغير خطاب رئيس الوزراء بوريس جونسون بشكل كبير، واصفًا رواندا بأنها “واحدة من أكثر البلدان أمانًا في العالم، ومعترف بها دوليًا لاستقبالها واندماجها للمهاجرين”. فدائمًا ما كان ملف الهجرة حاضرًا بقوة في اعتبارات السياسة الدولية، وبالتالي قد يتطلع الرئيس كاجامي إلى الاستفادة من هذه الاتفاقية كتصويت على الثقة في سجله في مجال حقوق الإنسان، وتخفيف الانتقادات الموجهة لحكومته.

يضاف إلى ذلك، كسب الدعم الدبلوماسي، حيث تأمل رواندا من تعزيز شراكتها مع المملكة المتحدة في الحصول على دعم دبلوماسي من المملكة عندما يتم تقديم قرارات ضد رواندا ومناقشتها أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. إلى جانب التخوفات التي أثارها بعض معارضي الصفقة بشأن إمكانية سعي رواندا إلى استغلال ملف اللاجئين، واستعماله بصفته ورقة ضغطٍ في وجه المجتمع الدولي، كما فعلت تركيا، التي هددت مرارًا وتكرارًا بإطلاق سراح اللاجئين السوريين إلى أوروبا.

تحديات التطبيق

على الرغم من كونها ليست نهجًا جديدًا، تواجه الصفقة بين لندن وكيجالي عددًا من الانتقادات والتحديات، التي قد تؤدي إلى عرقلتها، أو على الأقل تأجيل تنفيذها، أبرزها:

  • ضعف قدرة رواندا على التنفيذ الكامل لالتزاماتها:

تستضيف رواندا بالفعل ما يزيد على 130 ألف لاجئ وطالب لجوء، معظمهم من الكونغو الديمقراطية وبوروندي، ويعيش تسعون بالمائة من اللاجئين في رواندا في ستة مخيمات، أكبرها هو مخيم “ماهاما” الذي يستضيف أكثر من 55 ألف لاجئ، ويدعي معارضو الصفقة وجود أزمة إيواء، حيث إن الكثافة السكانية المرتفعة في رواندا، بالإضافة للعدد الكبير من اللاجئين المتواجدين، لن يسمح إلا بإعادة توطين بضع مئات أخرى، خاصة وأن الحكومة لم تكشف بعد سوى عن أماكن كافية لتوطين ما يقرب من 500 طالب لجوء فقط، ولكن في عام 2018 كان يعيش في رواندا ما يزيد على 173 ألف لاجئ، أي أكبر بنحو 43 ألف عن الأعداد الموجودة الآن، وبالتالي لن توجد مشكلة في أماكن الإيواء، على الأقل مؤقتًا. وعلى الرغم من أن الاتفاقية لم تذكر عددًا محددًا للأفراد الذين سيعاد توطينهم في رواندا، لكن أفادت تصريحات “جونسون” بأن رواندا ستستقبل عشرات الآلاف من طالبي اللجوء خلال السنوات الخمس القادمة.

وبالرغم من أن رواندا تستضيف بالفعل عشرات الآلاف من اللاجئين وطالبي اللجوء، وهي إحدى الدول العشر التي وقعت على “الإطار الشامل للاستجابة للاجئين”، والذي يدعو لإدماج اللاجئين في المجتمعات، لكن هناك فجوات كبيرة بين السياسة والممارسة، فعلى الرغم من التشريعات التقدمية في رواندا والرؤية الطموحة، يظل معظم اللاجئين في الواقع معتمدين بشكل كبير على المساعدات الإنسانية، بينما كان الوصول إلى الفرص الاقتصادية بطيئًا، حيث يفتقر العديد من اللاجئين إلى الشبكات الاجتماعية أو التجارية أو الموارد الأخرى التي قد يحتاجون إليها للوصول أو خلق فرص عمل. بالإضافة لذلك، فإن مشكلات مثل الفقر (حوالي 38% من السكان يعيشون تحت خط الفقر)، وانعدام الأمن الغذائي الحاد الذي يعاني منه حوالي 20% من الشعب الرواندي، فضلًا عن معدل البطالة التي وصلت بدافع من كوفيد-19 إلى حوالي 24%، تهدد بتفاقم أزمة توزيع الموارد (المحدودة)، والتي ظهرت على السطح في عام 2018 عندما نظم اللاجئون احتجاجات ضد تخفيض الحصص الغذائية، بسبب نقص تمويل العمليات الإنسانية، مما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة راح ضحيتها 12 لاجئًا، وهو ما يهدد استدامة الصفقة ما لم تعمل حكومة رواندا على الإدارة الكفء والفعالة للصفقة.

  • ارتفاع تكاليف الصفقة على الجانب البريطاني:

انتقد معارضو الصفقة في بريطانيا تكاليف الشراكة الجديدة، التي زعموا أنها ستكون باهظة الثمن، مما دفع وزيرة الداخلية البريطانية بيريتي باتيل للتبرير بأن تكاليف خطة رواندا منخفضة مقارنة بالتكاليف الإجمالية طويلة الأجل التي يتحملها دافعو الضرائب في المملكة المتحدة لنظام اللجوء الحالي والتي تصل إلى نحو 1.5 مليار جنيه إسترليني سنويًا، ولذا فهي تمثل نسبة محدودة للغاية مقارنة بتكاليف عدم معالجة العدد المتزايد من الأشخاص الذين يصلون عن طريق عبور القنال الإنجليزية في قوارب صغيرة. مؤكدة أنه في ظل التدفق الهائل لطالبي اللجوء غير النظاميين عبر القنال، في الوقت الذي لا يزال فيه عشرات الآلاف من طالبي اللجوء يشغلون الفنادق البريطانية على حساب دافعي الضرائب؛ فسيؤدي إلى نقص حاد في المساكن الاجتماعية المناسبة، وربما سنة أو سنتين أخرى من الزيادات الإضافية غير المقيدة في ظاهرة التنقل بين القنوات سوف تطغى تمامًا على قدرة الدولة على التأقلم.

  • مشكلات الفاعلية والعجز عن الحد الكامل لتدفق اللاجئين:

جادلت حكومة بريطانيا بأن الصفقة مع رواندا ستردع طالبي اللجوء عن عبور القنال، عندما يعلمون أن الأمر سينتهي بهم في رواندا، وبالفعل انخفضت الأعداد بعد أيام من إعلان الاتفاق، واعتقدت بريطانيا أن خطتها نجحت، ولكن عاودت الأعداد في الزيادة، ولم يردعهم الاتفاق، وإنما الطقس السيئ هو ما منعهم على مدار 11 يومًا، وفور تحسنه استأنفت القوارب رحلاتها، ومن غير المرجح أن يردع ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا أولئك الموجودين في شمال فرنسا الذين يأملون في عبور القنال في قوارب صغيرة، حيث وجدت دراسة استقصائية أجرتها مؤسسة Care4Calais أن ثلاثة أرباعهم سيحاولون الوصول إلى المملكة المتحدة على الرغم من خطط الحكومة لنقلهم إلى الخارج.

  • إبراز الانحيازات العنصرية لسياسة الهجرة البريطانية:

يتناقض موقف وزارة الداخلية المتشدد تجاه بعض طالبي اللجوء الذين سيتم إرسالهم إلى رواندا لإعادة توطينهم فيها مدة تصل إلى خمس سنوات، مع ترحيب بريطانيا بالأوكرانيين الفارين من الحرب الروسية، ومنح المزيد من التأشيرات لمتخصصي تكنولوجيا المعلومات الهنود وغيرهم، مما يشير إلى أن المملكة المتحدة تنتهج سياسة في الهجرة منحازة فيما يتعلق بالعرق والجنسية والدين، ففي الوقت الذي تفتح فيه بريطانيا أبوابها للأوكرانيين، تغلقه في وجه الفارين من الحروب والصراعات والأزمات الاقتصادية في الشرق الأوسط أو دول جنوب الكرة الأرضية الأخرى، الذين يواجهون تهديدات مماثلة، ومن هنا تأتي فكرة العنصرية المطلقة والتنميط العرقي والديني، حيث لن تُجبر حكومة المملكة المتحدة اللاجئين الأوكرانيين الذين يدخلون الأراضي البريطانية على السفر إلى رواندا، والعيش في نزل ببلد بعيد حتى معالجة طلباتهم، لكنها ستفعل مع مواطني دول أخرى.

وتكمن المشكلة هنا في أن نظام اللجوء في بريطانيا لم يكن يسمح للحكومة بالتحكم في هوية طالبي اللجوء، بينما تمنحهم الخطة الجديدة هذا الحق.

  • الاصطدام بتحديات قانونية عديدة:

منذ اليوم الأول من إعلان الصفقة، واجهت تحديات قانونية تطعن في صحتها، وعدم توافقها مع القوانين البريطانية والمواثيق الدولية التي وقعت عليها المملكة المتحدة، وأبرزها اتفاقية اللاجئين لعام 1951، والميثاق العالمي بشأن اللاجئين، مما دفع الكثير من المحامين إلى رفع دعاوى قضائية لبطلان الصفقة ووقف العمل بها. وترى مجموعة مناصرة للاجئين في المملكة المتحدة، أن الخطة تنتهك مبدأ منح طالبي اللجوء جلسة استماع عادلة على الأراضي البريطانية، وهو ما يتعارض مع مبادئ اتفاقية اللاجئين لعام 1951، التي تنص أيضًا على أن الأشخاص لهم الحق في طلب اللجوء في أي بلد وأن الدولة التي يفعلون فيها ذلك يجب أن تفحص طلباتهم، دون التمييز بين المهاجرين بطرق شرعية أو غير شرعية، وفقًا للمادة 31 (1) من اتفاقية اللاجئين، التي تعفي اللاجئين من العقاب على الدخول غير القانوني.

جانب آخر من الاشكاليات القانونية للاتفاق متعلق بمسألة الولاية القضائية، حيث تنص الاتفاقية مع رواندا على أن طالبي اللجوء الذين سيتم إرسالهم سيخضعون للولاية القضائية لرواندا، بينما كان هؤلاء الأفراد يخضعون للولاية القضائية للمملكة المتحدة، باعتبارهم طالبي لجوء فيها، وبالتالي يستفيدون من التزامات المملكة المتحدة بموجب قانون اللاجئين وقانون حقوق الإنسان. من جهة أخرى، أكدت حكومة بوريس جونسون أن الاتفاق مع رواندا لا يخالف القوانين والاتفاقيات الدولية الموقعة عليها المملكة المتحدة، وأن هذه الإجراءات ليست سوى عراقيل يحاول بها المحامون تأخير تنفيذ الصفقة لبضعة شهور وتحقيق مكاسب شخصية.وفي الختام، على الرغم من المكاسب المتبادلة التي تحققها الصفقة لكل من المملكة المتحدة ورواندا، إلا أنها تمثل صورة أخرى من عدم العدالة التي تمارسها الدول الكبرى على الدول الضعيفة، التي تصدر إليها المسئولية مستغلة احتياجها بدلًا من مساعدتها في تحقيق التنمية، وبالإضافة لذلك فإن القيود لا تمنع الناس من الفرار من الحرب أو الاضطهاد بحثًا عن مستقبل أفضل، فإذا كانت المملكة المتحدة جادة في تقليل حاجة اللاجئين للقيام برحلات محفوفة بالمخاطر، فمن الأجدر بها الاستثمار في المساعدات الإنسانية والإنمائية لهم في البلدان التي يفرون منها، قبل أن يخاطروا بحياتهم بالسفر إلى المملكة المتحدة، وفي حين أنه من غير المرجح أن تؤدي اتفاقية المملكة المتحدة ورواندا إلى عمليات نقل كبيرة أو ردع الهجرة غير النظامية لبريطانيا، على المدى القصير، لكنها مجرد ترس في ماكينة لصياغة سياسة هجرة جديدة، تتكون من مجموعة تروس أهمها سيكون قانون الجنسية والحدود. وبغض النظر عن نتائج الردع أو إعادة التوطين، فسيكون لصفقة المملكة المتحدة ورواندا آثار بعيدة المدى على بنية النظام العالمي لحماية اللاجئين، فإن أي ضربة لمبدأ اللجوء الإقليمي ستكون خطيرة، وستفتح الباب للبلدان الأخرى لنسخ هذا النهج.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19512/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M