ليبيا: المسار السياسي بعد تولي عبد الله باتيلي رئاسة البعثة الأممية لتسوية الأزمة

وقع تعيين السنغالي، عبد الله باتيلي، مبعوثًا خاصًّا للأمين العام للأمم المتحدة لليبيا بعد خلاف بين أعضاء مجلس الأمن كونهم من يملك سلطة اعتماد المبعوثين الخاصين، واستمر الخلاف قرابة العام بعد عدم الاتفاق على ثلاثة مرشحين للمنصب اعتُبروا محسوبين على أعضاء المجلس المنقسمين حول الأزمة الليبية؛ فقد تحفظت روسيا على استمرار تكليف ستيفاني يليامز بالبعثة، كما رفضت المرشح البريطاني، ولم يتم التوافق على المرشح البرتغالي.

النزاع بين من يملكون حق الفيتو في المجلس أعطى براحًا للحراك الإفريقي حيث تقدم الاتحاد الإفريقي باقتراحات عدة لاختيار شخصية إفريقية لتولي المنصب؛ فقد رشحت أمانة الاتحاد دبلوماسيًّا جزائريًّا وثانيًا من غانا(1)، إلا أن الترشيحات قوبلت بالرفض.

استمرار النزع داخل المجلس والذي تمظهر في رفضت قرارات التمديد للبعثة لفترة طويلة وعدم التوافق على مرشحي الأطراف المتنازعة عزز من حظوظ الأفارقة فكان عبد الله باتيلي، السنغالي، البديل لإنهاء الانقسام داخل مجلس الأمن بعد أن نشطت الدبلوماسية الإفريقية ونجحت في ملء الفراغ وجسر الهوة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في طرف، وروسيا في الطرف الآخر.

مقاربة باتيلي للنزاع الليبي

استلم عبد الله باتيلي منصبه وفي جعبته مقاربة لاحتواء النزاع بين الفرقاء الليبيين قامت على إعطاء فرصة لمجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، المعنييْن بالتسوية السياسية والوصول إلى الانتخابات، فقد كان هذا محور إحاطته الأولى أمام مجلس الأمن، في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2022، والتي أكد فيها أنه سيحث المجلسين على متابعة حوارهما لإنجاز المطلوب لإجراء الانتخابات(2).

في حال إخفاق المجلسين في المهمة الموكلة إليهما يُنشئ باتيلي جسمًا يقوم باللازم، أُطلق على هذا الجسم “اللجنة رفيعة المستوى” التي تتكون من ممثلين عن القوى السياسية والاجتماعية والمجتمعية الليبية، دون أن يتحدث عن تركيبتها من حيث العدد ولا عن سبيل إنجاز مهمتها.

بعد الإحاطة الثانية لباتيلي أمام مجلس الأمن، والتي كانت في يناير/كانون الثاني من العام 2023، والتي عرض فيها خطته لتحريك العجلة السياسية وإنجاز استحقاقات الانتخابات، شهد المسار السياسي الليبي انطلاقة بعد توقف ونشاطًا بعد فتور؛ إذ سرعان ما التأم شمل المجلسين، وتم الإعلان عن توافقهما على القاعدة الدستورية التي تؤسس للانتخابات، والتي أُطلق عليها التعديل الدستوري الثالث عشر، لحق ذلك الاتفاق على تشكيل لجنة تضم 6 أعضاء عن كل مجلس من المجلسين، أسند إليها مهمة وضع قوانين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، والتي أعلنت عن توافق أعضائها على القوانين، ويقضي التعديل الدستوري الثالث بأن تصبح القوانين التي تتوافق عليها لجنة 6 زائد 6 نهائية وغير قابلة للنقض، غير أن الخلاف حول بعض مضامين مخرجات اللجنة عطَّل القوانين وأدخل المسار إلى دهليز الجمود من جديد.

أي نفوذ لباتيلي على أطراف الأزمة الليبية؟

بدا لكثيرين أن باتيلي نجح في تحقيق اختراق في الأزمة الليبية واستطاع جر الفرقاء الليبين إلى التوافق بعد أن كانا بعيدين عنه، فوقع الاتفاق على التعديل الدستوري الثالث عشر، وتم التوافق على لجنة وضع قوانين الانتخابات، وذلك في بضعة أشهر بعد تعثر وخلاف حول هذه الملفات قرابة العامين.

يرى مراقبون أن باتيلي كان الواجهة لحراك غربي وضغوط أميركية أوروبية هي التي دفعت أطراف النزاع، خاصة جبهة الشرق التي يقودها سياسيًّا مجلس النواب، إلى تحقيق تقدم على مسار التسوية والاتفاق على متطلبات إجراء الانتخابات(3).

نزلت واشنطن بثقلها قليلًا بقدوم مدير جهاز المخابرات، ويليام بيرنز، إلى ليبيا ولقائه بأهم قطاب النزاع في الغرب والشرق، ثم جاءت نائبة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، ولقد كان دورهما واضحًا وأثرهما جليًّا في تحييد المعرقلين للمسار السياسي مرحليًّا، فكان أن تحركت عجلة التوافق ووقع الاتفاق على أهم الملفات.

أسباب تعثر المسار بعد التوافق

ما إن أعلنت لجنة 6 زائد 6 عن قوانين الانتخابات التي توافقت عليها حتى تكتلت مجموعتان ضمن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة رفضًا لتلك القوانين. كتلة مجلس النواب التي ضمت ما يزيد عن 60 عضوًا، بيد أن موقفها جهوي يتعلق بالتغييرات التي توافق عليها أعضاء اللجنة بخصوص عدد أعضاء مجلس النواب القادم والدوائر الانتخابية التي يتكون منها. وكان أعضاء اللجنة قد اتفقوا أن يتكون مجلس النواب الجديد من 297 عضوًا، بزيادة 97 عضوًا عن المجلس الحالي(4). كتلة النواب الرافضة لهذا التغيير بحجة أن اللجنة انحرفت عن مسارها وتجاوزت صلاحياتها تتخوف من أن يقع تبدل في وزن واتجاه المجلس الجديد على حساب تمثيل جهويتهم فيه، ويبدو أن أعضاء الشرق الليبي هم من يقف وراء هذا الموقف ويؤيدهم فيه نظراؤهم في بعض مناطق البلاد خاصة الجنوب.

انطلقت كتلة المجلس الأعلى للدولة من رفضها مخرجات لجنة 6 زائد 6 من موقفها المتشدد حيال التعديل الدستوري الثالث عشر؛ حيث اعتبرت هذه الكتلة أن التوافق الذي وقع بين رئاسة المجلسين ومن يؤيدهما مطعون في شرعيته، بل هو باطل، ولم يتأسس على الضوابط الحاكمة والمنظِّمة لعمل المجلسين، واتهموا رئيسي المجلسين بالتورط في ممارسات عبثية تصادم الإعلان الدستوري(5).

تلكأ رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، في إصدار القوانين؛ حيث إنه المخول بذلك، وصرَّح بتحفظه على عدد من بنودها(6)، خاصة النقاط المتعلقة بفرض جولتين في الانتخابات الرئاسية حتى لو تأكد فوز أحد المترشحين بنسبة تزيد عن 50% من الأصوات، كما تحفظ على النقاط المتعلقة بشروط الترشح للانتخابات الرئاسية والتي تتعلق بتخلي حاملي الجنسيات غير الليبية عنها قبل تقديم أوراق ترشحهما، وتخص هذه النقطة خليفة حفتر تحديدًا، كونه حاملًا للجنسية الأميركية بجانب الجنسية الليبية، وكان عقيلة صالح قد اقترح قبل مباشرة لجنة 6 زائد 6 أعمالها أن يكون تخلي المترشح للانتخابات الرئاسية عن الجنسية الأجنبية بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية وقبل القَسَم وتولي المنصب.

موقف باتيلي من توافقات المجلسين

لم يظهر في ردود فعل المبعوث الأممي الخاص لليبيا ما يعبِّر عن ارتياحه لاتفاق مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة على التعديل الدستوري الثالث عشر، فقط أشار إلى أن التعديل لم يعالج بعض المسائل المهمة بشكل مباشر وتجاهل المسائل الخلافية(7)، كما أنه لم يدعم مخرجات لجنة 6 زائد 6، حتى إنه لم يحضر مراسم الإعلان عن قوانين الانتخابات بمدينة بوزنيقة المغربية، وأشاد باتيلي في إحاطته الثالثة أمام مجلس الأمن بمخرجات اللجنة لكنه اعتبرها “غير كافية لحل القضايا الأكثر إثارة للخلاف والتمكين من إجراء انتخابات ناجحة”(8). ولخَّص باتيلي في إحاطته المشار إليها أسباب الخلاف حول قوانين الانتخابات في:

  1. شروط الترشح بالنسبة للمترشحين للانتخابات الرئاسية.
  2. الأحكام التي تنص على جولة ثانية إلزامية من الانتخابات الرئاسية حتى لو حصل المترشح على أكثر من 50 في المئة من الأصوات في الجولة الأولى.
  3. الأحكام التي تنص على عدم إجراء الانتخابات البرلمانية في حال فشلت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية.
  4. الأحكام القاضية بتشكيل حكومة مؤقتة جديدة قبل إجراء الانتخابات.

 في تصريح لاحق، أكد المبعوث الأممي الخاص على ضرورة أخذ أسباب الخلاف حول قوانين الانتخابات التي أعلنت عنها اللجنة في الاعتبار وحث المجلسين على استكمال النقص ومعالجة القصور في العملية السياسية.

مواقف باتيلي كشفت عن عدم ارتياحه للتطورات الأخيرة، ويبدو أنه تماهى مع الموقف الأميركي/البريطاني الذي تحفظ على السماح لكل الفرقاء السياسيين بالترشح للانتخابات؛ حيث تتحفظ واشنطن ولندن على ترشح سيف الإسلام القذافي، كونه مطلوبًا للعدالة من قبل المحكمة الجنائية الدولية.

بالمقابل، فإن باتيلي لم يصادم استمرار المجلسين في التفاوض طلبًا لمعالجة الخلافات بين الأطراف السياسية والاستدراك على القصور في قوانين الانتخابات، بل حثهما على ذلك، كما سبقت الإشارة، ولم يشر من قريب أو بعيد إلى المسار البديل واللجنة رفيعة المستوى التي بادر بها في إحاطته الثانية أمام مجلس الأمن. ويبدو أن تسارع الأحداث بخصوص المسار السياسي واستمرار التفاوض الذي أفرز القاعدة الدستورية والقوانين الانتخابية وخارطة الطريق فرض على المنتظم الدولي المعني بالشأن الليبي الانتظار وترقب نتائج هذا المسار، وهذا ما جعل باتيلي مرتبكًا في التعاطي مع توافقات المجلسين حتى مع اضطرابها والغموض الذي يكتنفها والخلاف الذي دار حولها.

انعطاف في المسار السياسي

أعلن رئيس المجلس الأعلى للدولة السابق، خالد المشري، مؤخرًا عن اتفاقه هو وعقيلة صالح حول خارطة طريقة شاملة تتضمن تحديد موعد للانتخابات وتغيير رئاسة المفوضية العليا للانتخابات والاتفاق على حكومة بديلة لحكومة الوحدة الوطنية يسند إليها إجراء الانتخابات مهمةً رئيسية.

ويقف خالد المشري موقفًا عدائيًّا من رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة؛ فقد اتهمه بالفساد مرات وأنه يسخِّر المال العام لتمويل مجموعات مسلحة تؤمِّن بقاءه في السلطة ونفوذه في العاصمة، ووعد المشري باتخاذ إجراءات إضافية في حال لم يقبل الدبيبة بتوافق المجلسين حول الحكومة البديلة عن حكومة الوحدة الوطنية(9).

يشاطر عقيلة صالح المشري في موقفه العدائي للدبيبة، والدافع عدم خضوع الأخير لسلطة مجلس النواب ورئيسه، وعدم استجابته لمطالب قيادة الجيش التابع لمجلس النواب، خاصة فيما يتعلق بإسناد وزارة الدفاع لشخصية موالية لحفتر وتوفير الدعم والتمويل الذي يطلبه قائد عام الجيش.

خارطة الطريق الجديدة قوبلت بتأييد حفتر لها، ويؤكد مراقبون أن دعم حفتر لتغيير الدبيبة أتى بعد تعثر المفاوضات بين ممثلين عنه وعن الدبيبة بخصوص إعادة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وفق طلبات حفتر، فقد يكون دعم توافق عقيلة والمشري لتغيير الدبيبة من قبيل الضغط على الأخير لقبول التعديل الوزاري الذي يطالب به حفتر، وفي حال استمرار تعنت الدبيبة يكون تغييره ضروريًّا.

نجح خالد المشري في تمرير الخارطة داخل المجلس الأعلى للدولة، ولم يخل الأمر من تجاوزات قانونية أكد عليها عدد من أعضاء المجلس تتعلق بخروق في آلية التصويت والنِّصاب كما تقرره اللائحة المنظمة لعمل المجلس(10) إلا أن شيئًا مماثلًا لم يقع من قبل مجلس النواب، كما لم تعلن البعثة موقفًا واضحًا من الخارطة وكذلك سفراء الدول المؤثرة في المشهد الليبي.

تصاعد النزاع حول عوائد النفط

استخدام النفط ورقة في النزاع الليبي يعود إلى العام 2013 بعد أن أقدم رئيس حرس المنشآت النفطية وعدد من تابعيه وأنصاره على غلق حقول وموانئ تصدير النفط تلبية لرغبة جمهرة من النشطاء وغيرهم بحجة أن وزير النفط، المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، يقوم بسرقة النفط عبر التلاعب بعدادات حسابه. وتكرر الأمر مرات في مناطق عدة وذلك حتى تدخل الأطراف الدولية وتقييدها عملية إخضاع تدفق النفط للصراع الداخلي.

منذ فشل الهجوم على العاصمة، طرابلس، صار الحديث عن التوزيع العادل للثروة والدخل في صلب التدافع والتفاوض، ولأن إيرادات النفط قفزت إلى مستوى غير مسبوق بعد تعديل سعر صرف الدينار من 1.4 دينار للدولار إلى 4.46 دينارات للدولار، ولتوسع حكومة الوحدة الوطنية في الإنفاق حيث اعتبره خصومها من قبيل الدعاية الانتخابية الممولة من خزانة الدولة. تصاعد النزاع حول إدارة عوائد النفط وصار هذا ضمن مطالبات الأطراف الدولية لتسوية النزاع الليبي؛ حيث وصل الأمر إلى تهديد حفتر بالتحرك إذا لم يتم تشكيل لجنة عليا تشرف على إدارة المالية العامة للدولة والإيرادات والنفقات.

أصدر المجلس الرئاسي قراره رقم 18 لسنة 2023 القاضي بتشكيل لجنة عليا برئاسة رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، ونيابة رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، فرحات بن قدارة، وضمت عددًا من الوزراء في حكومة الوحدة الوطنية المقربين من الدبيبة ومحافظ المصرف المركزي، وعددًا من الشخصيات المقربة من حفتر.

وبغضِّ النظر عما إذا كانت استجابة اللجنة بغرض تفادي تهديدات حفتر؛ حيث إن المداولات حول تشكيلها سبقت خطاب حفتر الذي أمهل فيه المسؤولين حتى نهاية شهر أغسطس لتلبية طلبه، إلا أنها يمكن أن تقطع الطريق على محاولة حفتر الإمساك بزمام الأمور من جديد بعد أن فقد قدرًا لا بأس به من نفوذه وسطوته بعد الإخفاق في الدخول للعاصمة العام 2019-2020؛ ذلك أن اللجنة لن تتمكن من تقديم تقريرها الأول قبل نهاية أغسطس/آب، وهي المهلة التي حددها حفتر للتحرك، كما أنها لاقت ترحيب الأطراف الدولية المتدخلة في الشأن الليبي وبالتالي فإن رفضها من حفتر سيجعله في وضع صعب وربما لن يجد الدعم المحلي والخارجي لأي تحرك معاكس.

الغاية ليست إجراءات تدقيق وضبط مالي

ركز خليفة حفتر في تبريره لطلبه تشكيل لجنة عليا تشرف على إيرادات النفط وأوجه إنفاقه على الفساد والهدر في المال العام الذي تتورط فيه حكومة الوحدة الوطنية وعلى استئثار الغرب الليبي بعوائد النفط فيما يُحرَم الشرق والجنوب منها. وهذا خطاب غير مألوف ولا معهود على حفتر، ويعكس تحولًا في نظرته للأمور ومقاربتة للأزمة. مناطق الشرق والجنوب تخضع لحفتر ومحاولات أن تكون سلطة القرار المالي ضمن هذه الجغرافيا باءت بالفشل منذ تشكيل الحكومة المؤقتة في الشرق، عام 2014، والتي لم يدم الاعتراف بها دوليًّا إلا بضعة أشهر ليأتي اتفاق الصخيرات ويجعل الشرعية لحكومة الوفاق الوطني في العاصمة. أيضًا رفض المجتمع الدولي الاعتراف بتغيير محافظ المصرف المركزي من قبل مجلس النواب كما رفض المصرف الموازي في الشرق وظل مركزي طرابلس هو الشرعي، كما فشلت محاولة استبدال فتحي باشاغا بالدبيبة. ولأن محافظ المصرف المركزي لم يتعاون بشكل مرض مع حكومات الشرق، ولأن التمويل صار من أكبر التحديات أمام استمرار مشروع حفتر وخطط فرض الجيش في المعادلة السياسية وجعله رقمًا صعبًا والأداة لتمكين حفتر من الوصول إلى الحكم وترسيخ أركانه، صار الاتجاه هو مقاسمة عوائد النفط. وإذا لم تفلح اللجنة العليا التي شكَّلها الرئاسي في تحقيق مطالب حفتر فإنها مرشحة للفشل، إلا أن هذا لن يتأكد قبل مضي فترة زمنية ليست بالقصيرة.

اتجاه النزاع وبدائل احتواء تداعياته

تجربة المفاوضات بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة والتي طالت لما يزيد عن سبع سنوات تكشف أن توافقًا عادلًا ومتوازنًا لم ولن يكون شيئًا ممكنًا، وأن التوافق العادل والمتوازن يقتضي تغييرًا في مواقف أطراف النزاع، خاصة مجلس النواب وحليفه، القيادة العامة، اللذين ظلَّا ينتهجان نهج المغالبة وفرض شروط التوافق وعدم الأخذ في الاعتبار لمطالب الجبهة المقابلة لهما في المسار السياسي والتي وإن استمرت ردحًا من الزمن تتشبث بمطالبها إلا أن واجهتها السياسية، ممثلة في رئاسة المجلس الأعلى للدولة، قدمت تنازلات وجارت رئاسة مجلس النواب في جل مطالبها التي بدت وفق المقاربات الصحيحة للانتقال وبناء المؤسسات غير مقبولة ومن ذلك الإصرار على ترشح مزدوجي الجنسية والعسكريين للانتخابات الرئاسية.

المسار التفوضي يكشف أيضًا أن التطور والتقدم يقع عندما تنشط الدبلوماسية الغربية، الأميركية تحديدًا، وأن الضغوط الأميركية المباشرة عبر شخصيات لها ثقلها في المنظومة الأميركية الرسمية كان يخرج الملف الليبي من قاع التأزيم إلى منطقة الحركة والتفاعل والتطور، إلا أن الدبلوماسية الأميركية ليست نشطة على الدوام حيال النزاع الليبي؛ الأمر الذي فُسِّر بعدم أهمية ليبيا للولايات المتحدة بالنظر إلى سلم أولوياتها ضمن سياستها الخارجية.

عزز طول أمد النزاع من النزوع الجهوي والمناطقي والقبلي، وضاعف من ذلك تنامي الصراع وضعف السلطة وغياب المشروعات التي تسد الفراغ وترفع من مستوى الرفاه الاقتصادي والاجتماعي، ويشكِّل هذا النزوع أبرز التحديات أمام تحقيق اختراق على المسار السياسي، والملاحظ أن جبهة الرفض في مجلس النواب والتي تفلح في إرباك التوافق بين المجلسين تحركها شخصيات جهوية تجد اليوم براحًا أكبر تتحرك فيه بعد اتجاه القيادة العسكرية في الرجمة لاستثمار هذا النزوع في معركتها السياسية.

هناك خلل في بنية التفاوض وكفَّتيه قد يكون له أثره في عدم الوصول إلى توافق عادل ومتوازن يفضي إلى استقرار ويمهد للانتقال الصحيح لمرحلة ما بعد الصراع. هذا الخلل يظهر من خلال تشظي الأجسام السياسية الرسمية، خاصة في الغرب، فالواجهة السياسية للجبهة الغربية، وهي المجلس الأعلى للدولة، وقعت في انقسام حاد بين أعضائها ظهر بشكل جلي في الموقف من سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية من قبل مجلس النواب ثم في التعديل الدستوري الثالث عشر ومخرجات لجنة 6 زائد 6. واستمرار هذا النزاع ضمن الجبهة الواحدة يدفع إلى اصطفافات قد تكون على حساب العملية السياسية ولصالح مشروع العسكرة وفرض مقاربات بقوة السلاح.

رأي الإدارة القانونية التابعة للبعثة الأممية لليبيا بخصوص مخرجات التوافق بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة يقدح في التعديل الدستوري الثالث عشر وقوانين الانتخابات الأخيرة والتي منها فرض جولتين للانتخابات الرئاسية وإلغاء الانتخابات البرلمانية إذا لم تنجح الانتخابات الرئاسية وعودة المترشحين لسابق أعمالهم إذا خسروا في الانتخابات ومشاركة العسكريين في الانتخابات، وقد يسهم في مراجعة العملية السياسية برمتها.

الأطراف الخارجية لا تزال تلعب دورًا سلبيًّا في النزاع الليبي، ويظهر الأثر الواضح لمصر وتركيا في تحديد بعض مواقف أطراف النزاع الليبي، ومن المعلوم أن القاهرة وأنقرة لم تتفقا بعد على مقاربة لتسوية الأزمة الليبية، ومع التأكيد على تأثير التدخل الأميركي وقدرة واشنطن على تحريك الماء الراكد ودفع الأطراف إلى التوافق، إلا أن البط والإرباك وعدم تساوق السياسة الأميركية تجاه الأزمة الليبية يقلِّل من أثر الضغوط الأميركية على أطراف النزاع.

ويبدو أن ورقة فاغنر والدور الروسي في ليبيا لم تصل إلى محطتها النهائية حتى بعد الأزمة بين الكرملين والشركة، كما أن مقاربة واشنطن وحلفائها الأوروبيين تجاه الوجود الروسي في ليبيا ظلت مضطربة ولم تتجه إلى الضغط الحقيقي الذي ينتهي إلى إخراج المرتزقة الروس أو يخرجهم من دائرة التأثير في الأزمة الليبية.

عليه، فإن عمر الأزمة لا يبدو قصيرًا وزمن النزاع لا يزال ممتدًّا وقد يأخذ شكلًا أكثر حدة، وسيكون التعويل على تحرك شعبي رافض لتمديد الأزمة وبقاء الأجسام الحالية في المشهد هو السبيل لتغيير اتجاه النزاع والدفع إلى التسوية والاستقرار. وكلما تأخر الأثر الشعبي الضاغط وتعثر التدخل الخارجي الإيجابي تأكد سيناريو التشظي وتفتيت كيان الدولة ومؤسساتها.

المصدر : https://studies.aljazeera.net/ar/article/5798

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M