ماذا بعد تحييد تمرد فاجنر بوساطة بيلاروسيا؟

في تحول دراماتيكي للأحداث المتسارعة فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية الدائرة مُنذ ما يقرب من عام ونصف ولم يتمكن أي من الطرفين من تحقيق نصر كامل على الآخر، لجأت روسيا بعد بدء الحرب بشهور قليلة إلى الاستعانة بقوات مجموعة “فاجنر” للمساعدة في سيطرة القوات الروسية على الأراضي الأوكرانية. ولكن يبدو أن أنظار قائد مجموعة فاغنر “يفغيني بريجوزين” رجل الأعمال الروسي المقرب من الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، والذي يعرف بـ “طباخ بوتين” قد أراد وضع السُم في الطعام لقائده.

فقد استيقظ العالم السبت الماضي، على مقطع فديو مصور لزعيم فاجنر، يوجه فيه انتقادات للجنرالات الروس، ويؤكد فيه أن قواته اجتاحت مواقع عسكرية رئيسة في مدينة “روستوف” الروسية بالقرب من الحدود الأوكرانية، وأن قواته في طريقها لموسكو. الأمر الذي دفع موسكو إلى نشر عربات مُدرعة في العاصمة الروسية. أعقبتها كلمة طارئة للرئيس الروسي؛ اتهم فيها زعيم فاجنر بالتمرد، والخيانة، وأن هذا التمرد بمثابة طعنة في ظهر القوات والشعب الروسي؛ وأن روسيا لن تتوانى عن الرد بكل قوة وحزم على هذا التمرد. هذا قبل تدخل بيلاروسيا على خط الأزمة وتقديم مقترح بشأن توقف تقدم قوات فاغنر نحو موسكو ومنح ضمانات أمنية لمقاتليها. وذلك في مؤشر على انفراج الأزمة.

والتساؤل هنا حول دوافع زعيم فاغنر “يفغيني بريجوزين” للتمرد؟ وهل لاتهاماته السابقة تجاه قادة الجيش الروسي علاقة بالأمر؟ وهل يُمثل اتفاق بيلاروسيا نهاية للأزمة؟ وكيف تبدو المرحلة القادمة وفقًا لمعطيات تلك الأزمة؟ 

من هي مجموعة “فاغنر”؟

تأسست شركة “فاجنر” في عام 2013 على يد شخصيتين مقربتين من الكرملين، وهما “ديمتري أوتكين” الضابط السابق في وحدة القوات الخاصة وهو بمثابة مدير المجموعة الميداني، و”يفغيني بريجوزين” رجل الأعمال الروسي المقرب من فلاديمير بوتين، ويعرف بـ “طباخ بوتين” لامتلاكه شركة “كونكورد” المُنظمة لحفلات الاستقبال في الكرملين.

وصف “فاجنر” بأنها شركة عسكرية روسية خاصة، ولكن البعض يراها بمثابة مجموعة عسكرية شبه رسمية حيث أنها وحدة مُستقلة. وقد بدأت العمل لأول مرة مع ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014.

وفي الأونة الأخير، قد تنامى نشاط مجموعة “فاجنر” بشكل كبير، وقامت بتنفيذ عمليات عسكرية في مناطق مُختلفة من العالم بما فيها أفريقيا وأمريكا اللاتينية فضلًا عن مناطق النزاعات في الشرق الأوسط. ففي سوريا انتشرت “فاجنر” لدعم النظام السوري منذ عام 2016 خصوصًا حول حقول النفط في دير الزور، وخطفت الأضواء أكثر بعد مقتل عدد من أفرادها في غارة أمريكية عام 2018. وتنشط المجموعة كذلك في ليبيا مُنذ عام 2016.

وتنتشر كذلك في جمهورية أفريقيا الوسطى لحراسة مناجم الذهب والألماس، وتنتشر علاوة على ذلك في دول مثل: “مدغشقر” و”موزمبيق” و”السودان”، وكان آخر انتشار لها في “مالي” بعد انسحاب القوات الفرنسية من هناك.

“فاجنر” في الحرب الروسية الأوكرانية

ومع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا العام الماضي، ونتيجة لاشتداد المعارك بين القوات الروسية والقوات الأوكرانية المدعومة من الغرب؛ استعان الرئيس الروسي بقوات فاجنر في تسهيل مُهمة القوات العسكرية، وتمثلت مهام “فاغنر”؛ في تشييد التحصينات والمُشاركة في الخطوط القتالية بنشاط كبير في كل من جمهوريتي “دونيتسك” و”لوهانسك” الشعبيتين.

وبرز دور المجموعة في الحرب الأوكرانية بسبب ضروراتها المتمثلة بالمواجهة المباشرة، وهذا النوع الخاص من القتال يحتاج إلى مثل هذه المجموعات التي قد تقوم بعمل استخباراتي أو أعمال هندسية، مع الخبرة العالية لعناصرها في تنفيذ هذه المهام. وفي هذا السياق، اعتمدت القوات الروسية على قوات “فاجنر” في الاختراق والتقدم والقتال وجهًا لوجه.

وكان لحركة “فاجنر” دور كبير في المعارك التي دارت في مدينة “سوليدار” الواقعة على مسافة حوالي 15 كم من مدينة “باخموت”، وتمكنت القوات الروسية بفضل ومساعدة قوات “فاجنر” في السيطرة على المدينة بعد معارك دامية مع القوات الأوكرانية. ويزعم مسؤولون أمريكيون أن “فاجنر” تمتلك مقاتلين بالآلاف في أوكرانيا، وأن أعضاء المجموعة يشنون معارك  ضد القوات الأوكرانية كما ظهر ذلك في مدينة “باخموت”. واتهمت الولايات المتحدة مؤسس فاجنر “يفغيني بريجوزين”، بالسعي وراء حقوق التعدين في المدن الأوكرانية.

لكن مؤخرًا طفت على السطح بوادر توتر بين مؤسس فاجنر، وذلك عندما وجه “بريجوزين” في الأشهر الأخيرة اتهامات إلى القيادة العسكرية الروسية، حيث ألقى باللوم على الجنرالات الروس لفشلهم في تزويد قواته بما يكفي من الذخيرة وتجاهل انتصارات مجموعته.

مآلات التوتر بين “فاجنر” والقيادة العسكرية الروسية

في الوقت الذي كانت تستعد فيه روسيا لكيفية مواجهة “الهجوم الأوكراني” المضاد المتوقع، زادت الانقسامات بين قوات “فاجنر” من ناحية وقوات الجيش الروسي من ناحية أخرى. التوترات جاءت نتيجة اتهام رئيس “فاغنر” بتقاعس الجيش الروسي، ووزارة الدفاع عن تزويد قوات “فاغنر” بدعم كافِ في الخطوط الأمامية للقتال في “باخموت”، وفي هذا السياق هدد بسحب قواته بالكامل من المدينة الأوكرانية؛ بسبب النقص المزعوم في الذخيرة.

وعلى مدار الخمسة عشر شهرًا الماضية مُنذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، حققت مجموعة “فاجنر” تقدمًا كبيرًا على الأرض، وذلك في الوقت الذي عانت فيه قوات الجيش الروسي من العديد من الإخفاقات، الأمر الذي عزز من ثقة “بريغوجين” في نفسه، وزاد من شعبيته في الداخل الروسي.

ويُمكن ارجاع عدم تدخل الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لإنهاء الخلاف بين “بريجوزين” والقيادة العسكرية الروسية إلى رغبته في استخدام القيادة العسكرية ككبش فداء حال حدوث هزيمة عسكرية. وبالتالي يُمكن النظر إلى هجوم “بريجوزين” على القادة العسكريين يعمل على إبعاد اللوم عن “بوتين” حال فشلت القوات الروسية في أوكرانيا.

وساطة بيلاروسيا

عقب ساعات من تصعيد الأزمة، وادعاء زعيم “فاجنر” ان قواته على أعتاب 200 كيلومتر من “موسكو”، تدخل الرئيس البيلاروسي “ألكسندر لوكاشينكو” على خط الأزمة، وقادت جهوده إلى تهدئة الأوضاع وفقًا لاتفاقية بينه وبين بوتين وزعيم فاغنر تضمنت عددًا من البنود.

وعقب جهود الوساطة، أعلن “بريغوجين” إن قواته ستتوقف عن التقدم نحو موسكو، وستعود إلى قواعدها لتجنب إراقة الدماء، كما بدأت عربات “فاجنر” المدرعة بمغادرة مدينة “روستوف” التي تقع بالقرب من الحدود الأوكرانية، والتي كانت قد استولت عليها في وقت سابق.

من جانبها أوضحت روسيا إن التهم الجنائية الموجهة إلى “بريجوزين” ستُسقط، وسيُغادر زعيم “فاغنر” إلى بيلاروسيا دون أي شروط. ووفقًا لـ “ديمتري بيسكوف” المتحدث باسم الرئاسة الروسية، فإن مقاتلي “فاجنر” الذي لم يُشاركوا في التمرد ولم تتم مقاضاتهم سيتم ضمهم إلى الجيش.

كيف يُمكن النظر إلى التمرد الأخير؟

على الرغم من تهدئة الأمور بشكل عاجل، وإعلان روسيا أنها تقوم باتخاذ جميع الإجراءات اللازمة، إلا أنه يُمكن النظر لهذا التمرد وفقًا لعدد من الجوانب منها:

  • الأول: أن ذلك التمرد يُمثل تصعيدًا كبيرًا للتوتر الداخلي واهتزاز صورة روسيا خاصة في الداخل، وسيعمل بلا شك على تقويض الروح المعنوية بين الجنود الروس في أوكرانيا، الأمر الذي من شأنه إضعاف قدرة روسيا على مواجهة أي هجمات أوكرانية مُرتقبة.
  • الثاني: استغل الرئيس “بوتين” الوساطة البيلاروسية؛ للتوصل لعدد من البنود منها: 1. توقيع مقاتلو فاجنر الذين لم يشاركوا في التمرد عقودًا مع وزارة الدفاع الروسية. 2. لن يخضع مقاتلو “فاجنر” لأي ملاحقة قانونية. 3. إغلاق القضية الجنائية بحق زعيم “فاجنر” على أن يُغادر إلى بيلاروسيا.
  • الثالث: مع تزايد سطوع نجم زعيم فاجنر، وتجرؤه واتهاماته المتواصلة لقادة الجيش الروسي، ومع صمت الرئيس “بوتين”؛ فقد زاد ذلك من طموح “بريجوزين”، وبدا أنه يسعى للحصول على مكافأة عما قام به، على أن يُكافأ بدور أكبر كوزير للدفاع على سبيل المثال أو بموقع سياسي رسمي يؤهله للمشاركة في يوم ما في سباق الرئاسة لخلافة الرئيس “بوتين”. ومع البنود الي شملها اتفاق “مينسك” يبدو أنه كان هناك قرار ما بإنهاء دور “بريجوزين”.

كيف تبدو المرحلة القادمة؟

على وقع حركة التمرد الأخيرة التي قادها “بريجوزين” والتي طرحت العديد من التساؤلات حول علاقة الأخير بالرئيس بوتين، وهل فعلًا كان جادًا في التمرد ويسعى لانقلاب على النظام الروسي؟ أم أن تمرده فقط للخروج ببعض المكاسب ومنها على سبيل المثال عزل بعض القادة في الجيش الروسي وعلى رأسهم وزير الدفاع الروسي؟ وبعد الاتفاق الذي تم برعاية بيلاروسيا؛ كيف ستكون شكل العلاقة بين “بريجوزين” والرئيس “بوتين”؟ وهل ستعود الأمور وفقًا لما كانت عليه في السابق؟ وهل يقنع “بريجوزين” بإبعاده إلى بيلاروسيا؟ أم سيعود لإحداث قلاقل مرة أخرى؟ وهل يقوم الرئيس بوتين بعزل بعض قادة الجيش إرضاءً له؟ أم أن سيادة روسيا وعظمة بوتين تمنعه من الإقدام على مثل هذه الخطوة؟

وللإجابة على كل تلك التساؤلات، يُمكننا القول إن “بريجوزين” كان من أقرب الرجال للرئيس “بوتين”، ولكن في الأونة الأخيرة، زاد نفوذه بشكل كبير؛ نتيجة اعتماد القيادة الروسية على مجموعته بشكل كبير في العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. ولكن الرئيس “بوتين” -الحذر دومًا- بات يخشى من زيادة شعبية ونفوذ “بريجوزين” في الداخل الروسي، حتى أن بعض استطلاعات الرأي في الداخل الروسي قد أيدت أحقية “بريجوزين” بمنصب وزرير الدفاع. ومن هذا المنطلق بات الرئيس بوتين يسعى لتحجيم نفوذ فاجنر، وهو ما تبدى في فيديو  انتشر في شهر مايو الماضي لزعيم فاغنر يُهاجم فيه القيادة العسكرية الروسية ويصفهم بالفسدة نتيجة قلة الدعم العسكري المُقدم لفاغنر.

وأيًا كانت الأسباب الكامنة وراء التمرد الأخير، سواء بقرار انفرادي من “بريجوزين” مدعومًا من جهات أخرى، أم بتوافق مُسبق بينه وبين بوتين؛ إلا أن الحقيقية الكاملة، هو أن بوتين يريد إبعاد بريجوزين عن المشهد، منها حتى لا تقوى شوكته في الأيام القادمة، والأمر الآخر  هو الحفاظ على هيبة موسكو، ولا نرجح  قيام بوتين بالإطاحة بوزير الدفاع أو  قيادت عسكرية رفيعة المستوى -في الوقت الراهن- إرضاءًا لبريجوزين، فبوتين يريد التأكيد على قوة القرار  الروسي.

وعقب الاتفاق الذي تم برعاية بيلاروسيا، لا نعتقد أن تعود العلاقة بين بوتين وبريجوزين كما كانت في السابق، وستكون هناك حالة تخوف من عودة زعيم فاغنر لأرض العمليات مرة أخرى؛ والمتوقع أن يبقى “بريجوزين” في بيلاروسيا خلال الفترة القادمة. لكن استمرارية قوته  ستتوقف على ما تم بين روسيا وبيلاروسيا في الاتفاق الذي قاد لتهدئة الموقف. وردًا على الخطوة التي أقدم بريجوزين على اتخاذها؛ فقد تشهد الأيام القادمة تصفية لبعض قوات فاجنر. لكن الروس سيكونون حريصين في ذلك الأمر نظرًا لتداخل المصالح بين روسيا ومجموعة فاجنر ليس في أوكرانيا فحسب، بل هناك تداخلات في الخارج وخاصة في الكثير من الدول الأفريقية.

إذًا طبيعة المصالح ودرجة التنازلات هي من ستُحدد طبيعة الفترة القادمة في العلاقة بين روسيا من جانب، وزعيم مجموعة فاغنر من جانب أخر.

في الأخير. عمل الرئيس “بوتين” لتحقيق بعض المكاسب نتيجة هذا التمرد، فهو من خلال سعيه لضم مقاتلي فاجنر للجيش الروسي، وابعاد زعيمهم إلى بيلاروسيا؛ فإن روسيا لا تريد أن يُنسب أي نجاح تحققه في العملية العسكرية في أوكرانيا لقوات فاجنر”، وأيضًا تريد إرسال رسالة مفادها أن لا مشاركة في القتال دون علاقة قانونية بين الجيش والشعب الروسي. كما أن ذلك التمرد فضح كثيرًا من الرجال الذين كانوا محل ثقة “بوتين” وعلى رأسهم “بريجوزين”. ومن المتوقع أن تسعى روسيا خلال الفترة القادمة لتكثيف عملياتها العسكرية في أوكرانيا بشكل أعنف، والاستعانة بقوات أخرى مُدربة ومُسلحة مثل “قوات احمد” الشيشانية، ولا يُستبعد أن يصل الأمر لما هو أخطر من استخدام الأسلحة التقليدية، مع مخاوف من استخدام تكتيكات نووية في الحرب.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/78254/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M