الاتحاد الأوروبي وسيناريوهات التعامل مع أزمة الطاقة

أحمد بيومي

 

بدأت الحكومات الأوروبية في اتباع مجموعه من سياسات الاستجابة التي هدفت في مجملها إلى تخفيف أثر الارتفاع في التكاليف على الأفراد والشركات، وتشمل تلك السياسات وضع حدود قصوى لأسعار الاستهلاك للتجزئة، ووضع تعريفات منتظمة للطاقة، وبرامج كبيرة للشركات كثيفة استهلاك الطاقة، والاتجاه نحو فرض ضرائب على الشركات المنتجة للطاقة أو تأميمها في محاولة للتدخل في سياسات التسعير الخاصة بها. وتستهدف تلك السياسات تشجيع عملية توفير الطاقة وزيادة المعروض منها، ومحاولة خفض تكاليف الطاقة وخاصة فيما يتعلق بأسعار الغاز.

لكن تلك الحلول الأوروبية تواجه تحديات رئيسية يتمثل أبرزها في: تضارب الأهداف إذ إن إعانات الطاقة أو دعم الطاقة أو التدخل في تحديد أسعار للطاقة يمكن أن يجعل المشكلة الأساسية أسوأ والتي تتمثل في زيادة الطلب، أما الأمر الثاني فهو التداعيات العابرة لحدود الدول الأوروبية، إذ قد يفيد دعم استهلاك الطاقة مواطنين في بلد ما، لكنه سيؤدي أيضًا إلى زيادة الاستهلاك، الأمر الذي سيترتب عليه ارتفاع أسعار الغاز في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، ومن ثم إلحاق الضرر بالمستهلكين غير المدعومين بالبلدان الأخرى، الأمر الذي يتطلب التنسيق بين السياسات الحكومية بهدف خفض الطلب على الطاقة، وزيادة العرض مع الحفاظ على أسواق الطاقة الداخلية مفتوحة وحماية المستهلكين الأكثر فقرًا المعرضين للخطر.

ارتفاع الأسعار وتقلبها

السبب الرئيسي في زيادة أسعار الغاز الأوروبية هو انخفاض العرض الروسي، وهو ما دفع أسعار الغاز الطبيعي للارتفاع لأكثر من الضعف منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير من عام 2022، وهو ما طرح خيار استبدال ذلك الغاز بالغاز الطبيعي المسال LNG. من جانب آخر فإن الارتفاع في أسعار الكهرباء إضافة إلى الارتفاع في أسعار الغاز الطبيعي والنقص في التوليد النووي والكهرومائي، تطلب إعادة تشغيل محطات الفحم والغاز الأكثر تكلفة من حيث توليد الكهرباء، ونتيجة لذلك فقد أصبح الغاز هو المصدر الأغلى لتوليد الطاقة في معظم أسواق الطاقة الأوروبية، وهو ما يعني أن معظم منتجي الطاقة منخفضة التكلفة الآخرين يحققون أرباحًا عالية للغاية.

Graphical user interface, text, applicationDescription automatically generated

الشكل 1: رسم بياني يوضح الحصة الشهرية من الغاز الذي تسلمه روسيا إلى الاتحاد الأوروبي مقارنة بالدول الأخرى بين يناير 2019 وأغسطس 2022.

من جانب آخر، لم تكن الزيادات في توليد الطاقة من خلال المحطات التي تعمل بالفحم والغاز كافية لتلبية الطلب، وهو الأمر الذي تسبب في ارتفاع الأسعار للدرجة التي وصل فيها أن بعض المستهلكين توقفوا عن الاستهلاك تمامًا في ظاهره تسمى “تدمير الطلب” “Demand Distraction”، أما الطلب على منتجات الطاقة فقد كان كبيرًا للغاية للدرجة التي وصل فيها أن أي تغيير بسيط في العرض تكون لها تأثيرات كبيرة على أسعار الطاقة وتدفعها إلى الارتفاع بشكل مبالغ فيه.

ربما يكون للأوضاع الحالية آثار إيجابية نحو تسريع التحول إلى الطاقة المتجددة والاستخدام الأكثر كفاءة للكهرباء، أو ربما تقدم الحكومات على أحد الحلول الأكثر تكلفة والذي يتمثل في عدم فعل أي شيء بخلاف تقديم الدعم المالي للشركات والأسر إلى أن تتراجع الأسعار، لكن ذلك الحل مكلف للغاية إذ إن ذلك قد تترتب عليه زيادة الطلب ومن ثم زيادة قيمة الدعم المالي الذي ستقدمه الحكومات للمواطنين، إذ يتراوح الرقم المطلوب للدعم حوالي ترليون يورو أو ما يمثل 6% من إجمالي الناتج المحلي السنوي للاتحاد الأوروبي، لكن ذلك الطرح قد يترتب عليه مزيد من الارتفاع في الأسعار ومن ثم زيادة في التضخم، وهو ما سيكون له أثر على الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي بشكل مدمر، وقد يجبر البنك المركزي الأوروبي على تشديد السياسة النقدية بشكل أكبر، بالإضافة إلى زيادة احتمالية أن يواجه قطاع الطاقة ضغوطًا في السيولة وربما الإفلاس لبعض المؤسسات المالية.

ما الذي يمكن فعله لتقليل الطلب وخفض التذبذب في الأسعار؟

الخيار الأول: الحدود القصوى للأسعار

يأتي مقترح وضع حدود قصوى للسعر في شكل مقترحين: الأول هو وضع سقف سعري للغاز المستورد، أما الثاني فهو وضع سقف سعري لسعر بيع الغاز بالجملة في الاتحاد الأوروبي.

الآثار: إن وضع سقف سعري للغاز المستورد ستكون له آثار عكسية، حيث سيجعل من المستحيل جذب ما يكفي من الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي قد يخلفه مزيد من الارتفاع في الأسعار. إذن ماذا عن وضع سقف سعري للغاز الروسي فقط؟

قد يساهم وضع سقف سعري للغاز الروسي في خفض الأرباح التي تجنيها شركات الغاز الأوروبية، مع خفض التكاليف بالنسبة لأوروبا، وهو أمر أكثر منطقية. لكن مثل تلك السياسة بنيت على افتراض أساسي هو عدم قدرة روسيا على إعادة توجيه إمدادات الغاز بسهولة إلى مكان آخر، ومن ثم فإن مصالحها التجارية ستدفعها إلى إمداد أوروبا بالغاز بأي ثمن. لكن الواقع صدم المنطق الأوروبي بأن روسيا قامت بسياسات في عكس اتجاه مصالحها التجارية من خلال إقدامها على خفض الإمدادات إلى أوروبا بنسبة 80% وقد تكون في طريقها لخفض نسبة 20% المتبقية وهو ما سيجعل الأمور أسوأ.

الخيار الثاني: الاستثناء الأيبيري

في يونيو 2022، تبنت البرتغال وأسبانيا ما يعرف باسم “الاستثناء الأيبيري” “ Iberian exception” حيث قامتا بوضع سعر منخفض للغاز المستخدم في محطات توليد الكهرباء، وهو الأمر الذي ساهم في الحد من الارتفاع في تكاليف الكهرباء، حيث إن المحطات التي تعمل بالغاز الطبيعي تسعر الكهرباء وفقًا لهامش سعري يتم إضافته على سعر الغاز، لكن تلك السياسة ساهمت في احتواء تكاليف الكهرباء لكنها قدمت حوافز إلى شركات إنتاج الكهرباء لحرق المزيد من الغاز لإنتاج الكهرباء، ومن ثم ففي حال تم تطبيق ذلك النهج بشكل واسع في الاتحاد الأوروبي فسيكون له أثر في زيادة سعر الغاز على هؤلاء المستهلكين الذين يستخدمون الغاز بشكل مباشر، هذا فضلًا عن أنه سيخلق حالة كبيرة من عدم العدالة بين المصانع التي تعمل بالكهرباء وبين المصانع التي تعمل بالغاز الطبيعي، وسيخلق اختلالات كبيرة في عملية توزيع الغاز بين الدول الأعضاء.

الخيار الثالث: وضع سقف سعري للجميع

يتمثل ذلك الخيار في وضع سقف سعري لكل مراكز الغاز في أوروبا على التجارة والتبادلات خارج البورصة، وسيتم تطبيق تلك السياسة على العقود طويلة الأجل بما فيها العقود المبرمة مع الشركة الروسية “غازبروم”، ولعلاج احتمالية أن تؤثر تلك الفوارق السعرية على قدرة أوروبا على جذب الغاز الطبيعي المسال من باقي دول العالم، سيتم تعويض المستوردين بالفارق بين السعر العالمي للاستيراد وبين سعر تبادل العقد المستقبلي للغاز الذي يتم تداوله داخل السوق الأوروبية، ومن شأن تلك السياسة أن تؤدي إلى انخفاض أسعار الجملة للغاز والكهرباء، لكنه قد تترتب عليه زيادة في الضرائب على المواطنين لكن المواطنين سيستفيدون من خلال الوصول إلى أسعار طاقة أقل تكلفة.

لكن المشكلة الرئيسية أمام ذلك السيناريو هو أنه لا يمكن أن يتم وضع حد أقصى لكل المعاملات، إذ قد يلجأ البائعون لبيع الغاز في السوق غير الرسمية مثل بيعه بالاتفاق Over the counter، هذا فضلًا عن أن الزيادة في الطلب في هذا السيناريو أيضًا قد يترتب عليه أن يقوم البائعون الأجانب وخاصة روسيا بوقف العرض، وقد يقدم المشترون الأجانب (من خارج الاتحاد الأوروبي) على دعم الغاز لمواطنيهم، مما سيؤدي إلى زيادة المنافسة من خارج الاتحاد الأوروبي، وفي تلك الحالات سيرتفع الاستهلاك، وهو ما سيتطلب إعادة تقنين الأسعار للعودة إلى توازن السوق.

زيادة العرض

يمكن أن يكون أحد البدائل المتاحة أمام ذلك السيناريو هو زيادة العرض وتشجيع توفير الطاقة، لكن يتمثل السؤال الأبرز هنا هو كيفية القيام بذلك مع حماية المستهلكين وتقليل اضطرابات سوق الطاقة، مع مراعاة الاعتبارات السياسية لكل دولة من دول الاتحاد الأوروبي. ربما تكون الإجابة عن السؤال الأول الخاص بحماية المستهلك وتحقيق الكفاءة الاقتصادية هي الجمع بين تقديم الدعم والاعانات التي لا تعتمد على استهلاك الطاقة وبين تقليل استخدام الطاقة مع الاحتفاظ بأسعار الطاقة عند مستويات تسمح للكميات المستهلكة بأن تنخفض. نهج آخر يمكن أن يكون أكثر جدوى هو ما يعرف “ electricity price brake” ويمكن تفسيره بأنه دعم حكومي يقدم للأسر وفقًا للاستخدام العادل للطاقة والذي يتم احتسابه، وأي استخدام فوق ذلك المعدل يعتبر غير عادل، ومن ثم فهو لن يحصل على دعم، بل سيتم تقديم الكهرباء للاستهلاك الزائد بسعر أعلى بشكل كبير عن متوسط التكلفة، وهو ما يشجع الأسر على استخدام عدد أقل من الوحدات الإضافية لتجنب ارتفاع تكلفة الدعم.

أما السؤال الثاني حول تنسيق السياسات فهو يمثل المسار الوحيد الذي يمكن أوروبا من النجاة من تلك الأزمة، حيث يجب حل مشكلة “ free-rider problem” أو ما يسمى بالراكب المجاني، حيث تفضل الدول عدم القيام بمثل تلك الجهود أو تفضل تجاهل الآثار غير المباشرة على الدول الجيران، وهو ما يجب حلها سياسيًا وقانونيًا من خلال التنظيم، وقد تكون الحوافز المالية أداة لتعزيز ذلك التنسيق مثل تسهيل الوصول إلى الاتحاد الأوروبي. وسبق للاتحاد الأوروبي أن خطا خطواته الأولى في هذا الاتجاه، حيث التزمت الحكومات الأعضاء بخفض طلبها على الغاز بنسبة 15% في فصل الشتاء، حيث تم إقرار لائحة في سبتمبر الماضي تلزمهم بأربع مجموعات أساسية من الإجراءات وهي: خفض الطلب على الكهرباء، وضع حد أقصى من الإيرادات لمنتجي الطاقة منخفضة التكلفة الذين يستفيدون من ارتفاع أسعار بيع الكهرباء (باستثناء الكهرباء التي يتم توليدها من خلال الفحم)، وإلزام الشركات المنتجة للوقود الأحفوري بتقديم مساهمة تضامنية للدولة في تحمل تكاليف الكهرباء (يشمل منتجي الفحم)، حيث إنه وفقًا لتلك السياسات يلتزم منتجو الطاقة منخفضة التكلفة بإعادة جزء من الأرباح إلى حكوماتهم الوطنية والتي بدورها ستستخدم تلك الأموال لدعم المستهلكين، تلك الإجراءات تخص الجانب الخاص بتنظيم الطلب، لكن ماذا عن جانب العرض؟

السيناريو الأول المطروح هو أن يستفيد الاتحاد الأوروبي من كونه قوة شرائية كبيرة وثاني أكبر اقتصاد مشترك بالعالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، إذ يمكن لتلك الكتلة التفاوض مع موردي الغاز كمشترٍ واحد والحصول على سعر أفضل من خلال وفورات الحجم الاقتصادي، خاصة وأن هذا السيناريو يفيد الجميع، فبينما يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تأمين الغاز بشكل معقول، يحتاج الموردون إلى عقود طويلة الأجل لإدارة خطط الاستثمار بشكل أفضل، وهو ما يعني أنه لدى الاتحاد الأوروبي فرصة كبيرة لاستبدال 150 مليار متر مكعب كان يتم استيرادها من روسيا من خلال صفقات طويلة الأجل مع موردين توفر إيرادات يمكن التنبؤ بها مع ضمان أمن الغاز والقدرة على تحمل التكاليف لأوروبا، هذا السيناريو مفيد على المدى الطويل، لكن ماذا عن المدى القصير؟

السيناريو الثاني على المدى القصير يتمثل في احتياج الاتحاد الأوروبي لتعظيم الإمدادات المحلية من الطاقة، وهو ما يتطلب جهودًا إضافية من دول مثل هولندا في زيادة إنتاج الغاز وألمانيا لمواصلة تشغيل محطات الطاقة النووية التي كان من المقرر إغلاقها. هذه الإجراءات الصعبة من الناحية السياسية يمكنها أن تصبح مجدية، ويمكن النظر في إنشاء صندوق مشترك للاتحاد الأوروبي على سبيل المثال لتعويض هولندا عن زيادة مخاطر الزلازل المرتبطة بزيادة إنتاج الغاز.

من الواضح أن أزمة الطاقة تشكل تحديًا هائلًا لا يمكن لأي دولة أوروبية أن تتعامل معه بمفردها، وقد تؤدي التدخلات الطارئة مثل وضع سقف سعري لأسعار الغاز إلى تفاقم الوضع خاصة إذا تم طرحها ضمن خليط من السياسات الأوروبية الوطنية غير المتسقة. يحتاج الاتحاد الأوروبي للنظر إلى قوته ككتلة اقتصادية ووضع سياسة تحديد مسار للاتحاد الأوروبي، إذ إن سياسات اليوم تحدد مستقبل الطاقة في أوروبا، ويمكن للتكامل بين الدول الأوروبية والاستثمار المتسارع أن يتغلب على تلك الأزمة ويعزز من عملية الانتقال إلى طاقة أنظف ومتجددة وبأسعار معقولة.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/32788/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M