موجهات الخطاب الإعلامي الغربي ومغالطات التغطية الإخبارية للحرب الإسرائيلية على غزة

تبحث الدراسة في نماذج من الخطاب الإعلامي الغربي وإستراتيجيات تغطيته للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتركز على تحليل صورة الذات الفلسطينية وأبعادها في هذا الخطاب. وتحاول الدراسة أن تُبيِّن مغالطات الإعلام الغربي في بناء وتشكيل الصورة التي يُقدِّمها للمتلقي انطلاقًا مما يوفره مبحث الموجهات في إطار تحليل الخطاب من إستراتيجيات للتأثير في المتلقي وتوجيه الرأي العام، وكذلك لتقديم رواية مخالفة للوقائع ومناقضة لحقائق مجريات الحرب ومساراتها.

مقدمة

أخذت مسارات الحرب التي شنَّتها إسرائيل على قطاع غزة، في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أبعادًا غير مسبوقة في تاريخ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، ما جعلها تحظى أيضًا بتغطية إعلامية واسعة وغير مسبوقة في جميع وسائل الإعلام والشبكات الدولية المختلفة. وتميزت معالجة الخطاب الإعلامي الغربي لمجريات الأحداث والوقائع بسمات خاصة؛ إذ ظل يمثِّل في معظمه صدى للرواية الإسرائيلية وأخبارها الزائفة عن “حرق أطفال رضع” و”اغتصاب نساء إسرائيليات” وغيرها من القصص، لاسيما أن هذا الإعلام كان مرافقًا لقوات الجيش الإسرائيلي -وهو ما يُعرف بـ”الإعلام المرافق للقوات”- سواء داخل إسرائيل أو في شمال قطاع غزة.

وهنا، كان الصراع على الرواية يبدو أولوية قصوى لصانع القرار السياسي والعسكري الإسرائيلي، باعتبار أن “معركة الرواية” لا تقلُّ شأنًا عن “معركة الأرض”، بل تُعد جزءًا لا يتجزأ من الحرب. لذلك استطاع القائم بالدعاية الإسرائيلية تعبئة جميع الوسائل والقدرات الاتصالية والدعائية من أجل الترويج لهذه الرواية، وقد برز ذلك في معظم وسائل الإعلام الغربي خلال الأيام الأولى من الحرب. فتحوَّلت هذه الوسائل إلى أجهزة أيديولوجية/دعائية تُروِّج لأطروحات الرواية الإسرائيلية التي تُشوِّه حركات المقاومة الفلسطينية وإرادة الفلسطينيين في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي.

لطالما اعتبرت مؤسسات الإعلام الغربي نفسها مرجعًا مهنيًّا في صناعة الإعلام خلال العقود الماضية، لكن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة كشفت “عقيدة” سياساتها التحريرية التي يمكنها أن تتجاوز القواعد والضوابط الحاكمة للممارسة المهنية في المعالجة الإعلامية للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وقد تستخدم هذه المؤسسات إستراتيجيات خطابية متعددة لبناء تمثلات عن الذات الفلسطينية في وعي المتلقي دون أن تأخذ بعين الاعتبار سياق هذا الصراع ولا جذوره ولا أسبابه.

 1. اعتبارات منهجية ونظرية

مشكلة الدراسة وأهدافها

اعتمد الإعلام الغربي في تغطيته الإخبارية للحرب الإسرائيلية على غزة منطلقات الرواية الإسرائيلية التي تُشوِّه حركات المقاومة الفلسطينية والفلسطينيين عمومًا، ولم يكتف بالترويج لهذه الرواية التي تأسست على مغالطات وأخبار مفبركة عن “قتل أطفال رضع” و”اغتصاب نساء إسرائيليات”، بل كان منشغلًا بإدانة حركة حماس (هل تدين حماس؟). وهنا، تبحث الدراسة موجهات الخطاب الإعلامي الغربي، وتحلِّل إستراتيجياته ومضمرات الملفوظ ودلالته في بناء وتشكيل أبعاد صورة الذات الفلسطينية والذات الإسرائيلية انطلاقًا من هذا الحقل الاستفهامي الذي يُؤطِّر المشكلة البحثية:

– كيف يُقدِّم الخطاب الإعلامي الغربي الذات الفلسطينية؟

– ما الأطر التي ينطلق منها الخطاب الإعلامي الغربي في تمثُّلاته لهذه الذات؟

– كيف تحوَّل الإعلام الغربي إلى جهاز أيديولوجي يُقدِّم روايات تُناقض الحقائق الواقعية؟

-كيف يشارك الإعلام الغربي في معركة “القصة” أو “السردية”؟ وكيف يشارك هذا الإعلام بعض حكوماته في الحرب على غزة؟

– ما صورة الإسرائيلي في الخطاب الإعلامي الغربي؟

تهدف الدراسة إلى تحليل نماذج من الصحافة الغربية عن الحرب على غزة وكيفية تَمْثِيلها للذات الفلسطينية، وكشف مضمرات القول في الخطاب الإعلامي عن طريق البحث في الموجهات التي تنتظم الملفوظ، خاصة أن هذه الحرب غير المسبوقة على قطاع غزة شكَّلت بؤرة اهتمام التغطية الإخبارية في الصحافة الغربية في ظل الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين. كما تهدف الدراسة إلى إبراز المغالطات المقصودة للإعلام الغربي في بناء وتشكيل الصورة التي تقدمها للذات الفلسطينية.

وتنطلق الدراسة في تحليل الخطاب الإعلامي الغربي من خلال عينة من المقالات الصحفية وعناوين ومقتطفات من خطابات بعض المسؤولين الغربيين الذين تناولوا فيها الحرب على غزة، وكذلك مواد إعلامية نشرت في صحف ومواقع إلكترونية غربية، فرنسية وبريطانية، خلال الشهر الأول من الحرب، ومنها: صحيفة “لوموند” (Le Monde)، و”لو بوان” (Le Point)، و”ليزيكو” ( Les Échos) الفرنسية، و”ذي صن” (The Sun) و”ذي غارديان” (The Guardia) البريطانية.

المقاربة النظرية

تعتمد الدراسة على الموجهية في الخطاب، ويتنزَّل مبحث الموجهات(Les modalités) في إطار تحليل الخطاب، باعتباره مظهرًا من مظاهر البحث في اللسانيات المعاصرة وبحكم حضوره في نظريات التواصل وإسهامه في تصور العلاقة التخاطبية وتوجيه المقاصد وتحديدها. فقد اعتنى اللسانيون بالموجهات في تحليل الخطاب وتنوعت تصنيفاتهم بحسب متطلبات القضية المطروحة. ويُعرِّف فرانك بالمر (Frank Palmer) الموجهات بـ”الإبلاغ الدلالي المرتبط بتوجه المتكلِّم أو برأيه نحو مـا يُقال”(1). ومثَّلت الموجهية آلية دلالية ذات طابع وظيفي تعمل على كشف مضمرات الخطاب من خلال أساليب لغوية ومعنوية تُسهِم في حسن الفهم والتأويل.

واستخدم الباحثون مصطلحات مختلفة للدلالة على الموجهات، ومنها “الموجهية” و”الجهة” و”الوجه” و”الصيغة” و”القصدية” و”الموقفية” و”المشروطية”. واختلف الباحثون في حدِّ الموجهية، ومنهم من استلهم المنطق في تعريفها، ومنهم من اعتمد الدراسات النحوية، لكنهم اتفقوا جميعًا على أن الجهة أو الموجهية لها تأثير كبير في إنتاج الخطاب وفهمه. واعتبر معجم “تحليل الخطاب” أن الجهة مفهوم لساني بامتياز؛ إذ يتعلق الأمر بـ”موقف الذات المتكلِّمة من ملفوظها الخاص، وهو موقف يخلِّف آثارًا متنوعة الأصناف (صرافم، سمات نغمية، إيماءات محاكية)، وكثير من هذه الآثار وحدات متفاصلة في حين أن الجهية إجراء مسترسل”(2).

وتمثِّل الجهة مبحثًا لغويًّا لا يختص بلسان معين، بل يمكن أن يُدرس في كل الألسن؛ لأنه يبحث في موقف المتكلِّم من مضمون كلامه ويُبيِّن وجهة نظره مما يقول، ويكشف نواياه ويُبيِّن علاقته بما حوله وبمن حوله، وهو يسعى إلى بيان مركزية مُنْشِئ الخطاب أثناء إنتاج خطابه. ويشير مصطلح الموجهية إلى استخدام اللغة للتعبير عن الاحتمال أو القدرة أو الإلزام أو الضرورة. ويتم التعبير عن الموجهية في العربية من خلال استخدام الأفعال المساعدة التي تضيف معنى للفعل الرئيسي مثل: يمكن، يجب، يستطيع، يلزموغيرها، أو من خلال المواقف المضمَّنة في الخطاب.

وبهذا المعنى فإن مفهوم الجهة هو “جملة تلك الواسمات التي يعتمدها المتكلِّم ليُنْشِئ خطابًا محكومًا بجهة اعتقاده. فهي تتجاوز الفعل إلى الاسم والحروف والظروف والأسماء التي هي في منزلة الحروف وأشكال التنقيط المختلفة وما يتخلَّلها أو يصحبها أو يتقدَّمها ويتلوها من إيماءات وحركات وتنغيم، في ضوء رؤية إعرابية نحوية دلالية تراتبية”(3).

وتقوم الأفعال بدور مهم في الكشف عن دلالة الملفوظ في إطار الموجهية؛ إذ تعمل على إبراز موقف المتكلِّم من الأحداث ومن الآخر. ومن خلال اختيار الأفعال المناسبة، يعمل مُنْشِئ الخطاب على جعل المتلقي يبني تصورًا معينًا (يخضع لرغبة المتكلِّم) عن الموضوع، ودفعه إلى تصديق هذا التصور والانخراط في الدفاع عنه، “وتهدف الجهة أيضًا إلى تحديد طبيعة الوضع الذي يرد فيه الفعل أو الحدث الزمني، فقد يكون ذلك الوضع حدثًا، أو حالة، أو عملية”(4).

ومن هذا المنظور، تسمح مقاربة الخطاب الإعلامي الغربي وتغطيته للحرب على غزة بتحديد مكونات صورة الذات الفلسطينية وأبعادها في هذا الخطاب.

2. أبعاد الذات الفلسطينية في الخطاب الإعلامي الغربي

إن أخذ الموجهية بعين الاعتبار في تحليل الخطاب الإعلامي يسمح للدراسة بكشف دلالات خفية في هذا الخطاب الذي يعتمد في أحيان كثيرة التورية والإيهام والمغالطة ومحاولة التأثير في المتلقي من خلال بنيته الذهنية، ومن ثم في طريقة استقباله للخبر وللوقائع وطريقة تفاعله معها، بما يخدم وسيلة الإعلام التي تنشر الخطاب وتنقله.

وهذا ما يظهر في بعض الصحف الغربية التي تعمل على تكريس صورة “الإرهابيين” عن الفلسطينيين، باعتبارهم “مجموعة من المتشددين الذين يجب القضاء عليهم وتخليص الأبرياء منهم”. وفي هذا السياق، كتبت صحيفة “ذي غارديان” البريطانية، في اليوم الرابع والعشرين للحرب على غزة، 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023:

– “بين عشية وضحاها، قضت القوات على العشرات من الإرهابيين الذين تحصنوا في المباني وحاولوا مهاجمة القوات التي كانت تتحرك في اتجاههم”، وأضافت أن القتال مستمر.

– وقال وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت: “بين عشية وضحاها اهتزت الأرض في غزة. لقد هاجمنا فوق الأرض وتحت الأرض، وهاجمنا الإرهابيين من جميع الرتب، في جميع الأماكن”. وأضاف أن الحرب ستستمر “حتى إشعار آخر”.

– وقال الجيش الإسرائيلي: “إن عددًا من إرهابيي حماس قُتلوا في الغارات الجوية وفي عدة اشتباكات مع القوات داخل غزة”.

– يقول الجيش الإسرائيلي إنه “قتل العديد من الإرهابيين، بما في ذلك رئيس القوات الجوية لحماس، ولا يزال التوغل البري المكثف مستمرًّا، ولا توجد إصابات إسرائيلية في الاشتباكات”(5).

تدل الأفعال المستعملة على نوايا المتكلِّم، وتشير إلى موقف الإعلام الغربي مما يجري في غزة، وبما أن الطرف المقابل بالنسبة إليهم “إرهابيون” وجب الهجوم عليهم وقتلهم بكل قوة حتى تهتز الأرض تحت جثثهم. ويمكن أن نستخلص كيفية استعمال الأفعال في الأمثلة السابقة من وجهة نظر قوات الجيش الإسرائيلي كما يظهر في الجدول رقم (1).

جدول (1) يبيِّن استخدام الخطاب الإعلامي الغربي لأفعال خاصة

تحدد سلوك الجيش الإسرائيلي وعلاقته بالذات الفلسطينية

م الفعل الفاعل (دلاليًّا) من وقع عليه الفعل
1 قضت (قضى) قوات الجيش الإسرائيلي

العشرات من الإرهابيين

2 قَتل الجيش الإسرائيلي

العديد من الإرهابيين

رئيس القوات الجوية لحماس

3 قُتلوا القوات الإسرائيلية عدد من إرهابيي حماس
4 اهتزَّت وات الجيش الإسرائيلي (الأرض اهتزت بفعل قنابل الجيش) بمن عليها من “إرهابيين”
5 هاجمنا قوات الجيش الإسرائيلي الإرهابيين من جميع الرتب
6 ستستمر الحرب على “الإرهابيين”

يمكن أن نفسر عملية التوجيه انطلاقًا من أساليب لغوية مرتبطة بالخطاب، وأهمها استعمال الأفعال. وقد تعامل النحاة في جانب من أعمالهم مع الأفعال من منطلق الجهة التي تربط بين المُخَاطِب وبين نسق الخطاب وموضوعه. وهذا ما يجعلنا نرى أن التوجيه في النحو باستعمال الأفعال يكون للإبانة عن نوايا المتكلِّم، وعن تصوُّره للأحداث والمواضيع في علاقتها بردِّ فعل المتلقي.

إن ما يُشرِّع استعمال أفعال من قبيل “قضى” و”قتل” و”هاجم” و”اهتزَّ” هو صفة المفعول به (الذات الفلسطينية)؛ إذ إن الفلسطينيين -في نظر إسرائيل ومن يُروِّج لروايتها في وسائل الإعلام الغربي- “إرهابيون”. وتحيل صفة “الإرهابي” على أي عمل يهدف إلى التسبب في موت شخص مدني أو أي شخص آخر أو إصابته بجروح بدنية جسيمة عندما يكون هذا الشخص غير مشترك في أعمال عدائية في حالة نشوب نزاع مسلح، وعندما يكون غرض هذا العمل بحكم طبيعته أو في سياقه موجهًا لترويع السكان أو لإرغام حكومة أو منظمة دولية على القيام بأي عمل أو الامتناع عن القيام به(6). وهنا، تُغيِّب موجهات الخطاب أهمية السياق في المعالجة الإعلامية للأحداث والوقائع؛ إذ لا ينظر الإعلام الغربي إلى جذور وأسباب الصراع التي تتمثَّل في الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ أكثر من سبعة عقود، وانتهاكاته المستمرة لحقوق الفلسطينيين عبر التوسع الاستيطاني وتهويد القدس والتطهير العرقي. ويختزل هذه المعالجة في التركيز على لحظة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولا يرى أيضًا أن الفلسطينيين لهم الحق في مقاومة هذا الاحتلال لنيل حريتهم وإقامة دولتهم المستقلة.

ومع اختيار الأفعال يتمُّ انتقاء عبارات خاصة لزيادة إقناع المتلقي وتكون بمنزلة المُؤَطِّر للفعل، كما ورد في الأمثلة السابقة، ومنها عبارة: “بين عشية وضحاها” التي تدل على السرعة المفاجئة التي يُقدِّم بها الخطاب إنجازات القوات العسكرية الإسرائيلية، مضيفةً بُعدًا دراميًّا عميقًا، وتؤكد الكفاءة اللوجستية والعسكرية للجيش الإسرائيلي التي يريد أن يُقنِع بها الرأي العام المحلي، ويُطَمْئِن من خلالها المجتمع الإسرائيلي. هذا التعبير، الذي يُظهِر القوات الإسرائيلية كيانًا فعَّالًا ومُنجزًا بصورة مطلقة، يُبرِز الصيغة النرجسية للقوة ويصرف النظر عن الأبعاد الإستراتيجية الكامنة خلف العمليات العسكرية وأهدافها التي باتت تتكشف مع استمرار الحرب، خاصة التدمير الممنهج للبنية التحتية التي تشمل جميع مصادر الحياة (المستشفيات، محطات المياه والكهرباء، شبكة الطرق والميناء، خطوط الاتصالات…)، فضلًا عن التطهير العرقي والإبادة الجماعية للذات الفلسطينية، والتهجير القسري.

نلاحظ أيضًا التركيز المستمر على كلمة “الإرهابيين” كفئة محددة، وهو ما يعكس إستراتيجية خاصة لوصف الفلسطينيين وتقديمهم إلى الرأي العام الدولي بوصفهم “مجموعة خارجة عن القوانين الدولية والمواضعات الاجتماعية”؛ إذ يتمُّ تصنيف الطرف الآخر/الذات الفلسطينية بطريقة تعوق القارئ عن النظر إلى الصراع من منظور الوقائع الحقيقية. فضلًا عن ذلك، يُقدِّم النص تعابير تمثِّل تفاصيل دالَّة، مثل “تحصنوا في المباني” و”حاولوا مهاجمة القوات”، والتي تُسوِّغ استخدام القوة العسكرية لمواجهة الفلسطينيين، وتُقدِّم قوات الجيش الإسرائيلي “في حالة دفاع ضروري”.

يستعمل وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، من خلال تصريحاته، فعل اهتزَّت في جملة “اهتزَّت الأرض في غزة”، ويُقدِّم صورة للقوة الهائلة التي يمتلكها الجيش الإسرائيلي، مستخدمًا لغة حربية شاملة تُشير إلى الهجوم على كل الجبهات، ومن كل الجهات، سواء أكانت فوق الأرض أم تحتها. وبذلك يُروِّج الخطاب الإعلامي الغربي لصورة الجيش الإسرائيلي وقوته العسكرية التي لا تُقهر؛ إذ يستطيع أن يصل إلى من يُسمِّيهم بـ”الأعداء” في أي مكان وزمان؛ مما يُعزِّز الإحساس بالعظمة لدى قوات الاحتلال ويزرع الخوف في صدور أصحاب الأرض.

ويشير ملفوظ الخطاب الإعلامي الغربي باستمرار إلى أن “الحرب ستستمر حتى إشعار آخر”، ويحمل هذا الاستخدام اللغوي دلالات خاصة بالإصرار وعدم اليقين في نفس الآن. ويتضح من خلال بنية الجملة تأكيد الجيش الإسرائيلي على الاستعداد لمواصلة الحرب، وفي الوقت نفسه عدم وضوح نهاية الصراع؛ مما يُضفي شحنة إضافية من التوتر العام الذي يُعزِّز الحالة النفسية السائدة للحذر والترقب، والسعي إلى بث الخوف والهلع في قلوب الفلسطينيين، ليغادروا بيوتهم ومساكنهم، وهو الهدف الإستراتيجي لإسرائيل من الحرب على غزة، أي إخلاء القطاع من الفلسطينيين إما عبر آلة القتل أو التهجير القسري نحو سيناء.

ويواصل الإعلام الغربي نشر الخوف في صفوف الفلسطينيين من خلال تأكيد الجيش الإسرائيلي “مقتل رئيس القوات الجوية لحماس”، ويهدف إلى إبراز مدى تأثير العمليات العسكرية في الهيكل القيادي “للعدو”، ويُفترض بذلك أن يُلقي بظلال من الفاعلية والتشجيع والثقة بالنفس في صفوف القوات الإسرائيلية. بينما يُسهِم إدراج هذه الجملة في النص “لا توجد إصابات إسرائيلية” في تصوير العمليات العسكرية بأنها عالية الدقة وتخلو من الخطأ؛ إذ تجسد الكفاءة العسكرية ودقة الأهداف بصورة تستبعد الأخطاء البشرية والخسائر الجانبية.

وهنا، يحاول الخطاب الإعلامي الغربي أن يُقدِّم صورة “نظيفة” للحرب؛ إذ لا يجد القارئ أي إشارة إلى الخسائر المدنية أو حتى التداعيات الإنسانية للحرب على المجتمع الفلسطيني. إن هذا التأطير الذي يحاول “تعقيم” الآلة العسكرية، وفظائع قصف المساكن والبيوت فوق رؤوس سكانيها وتدمير البنية التحتية، يحجب رواية كاملة عن الصراع، والتي تتمثَّل في معاناة الشعب الفلسطيني الذي تتم إبادة أطفاله ونسائه وشيوخه ومرضاه. ويُشير حجب هذه الرواية إلى تجاوز كل القيم الإنسانية والعصف بكل الاتفاقات الدولية وكل قواعد الحرب.

في النماذج السابقة، تنتهي القصة الإعلامية بطريقة تُصادق على تصور مُحدَّد ومُوجَّه للسياق العسكري والسياسي، ونظرة موجَّهة أيضًا للواقع في غزة تُشكِّل وتعيد تشكيل النظرة العالمية حول ديناميكيات الصراع، وتُعزِّز وجهةَ نظرٍ تؤكد الشرعية العسكرية الإسرائيلية في وجه التحديات الأمنية التي تطرحها المقاومة الفلسطينية، خاصة أن الآخر (الذات الفلسطينية) يمثِّل “مجموعة من الإرهابيين الذين يجب القضاء عليهم.

وتتكرر هذه الدلالات والمعاني في الخطاب الإعلامي لصحيفة “لوموند”، كما يبرز في هذه النماذج التي نُشرت في التاسع العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2023:

– النائب الشيوعي، إلسا فوسيون، أدانت أيضًا حركة حماس: “إذا كان السؤال: هل حماس منظمة إرهابية؟ هل ارتكبت أعمالًا إرهابية؟ الجواب هو نعم.

– رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك: “من المقرر أن يُشدِّد خلال جولته التي تستمر يومين على أن المجتمع الدولي يجب ألا يسمح بأن يصبح الإرهاب الوحشي لحماس وازدراؤهم للحياة البشرية عاملًا يتسبب في تصاعد النزاع بالمنطقة”، وفقًا لبيان من داونينغ ستريت(7).

ونشرت الصحفية ذاتها، في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023:

– الرئيس الأميركي، جوب بايدن، أعلن أنه “فخور بكونه في إسرائيل لتكريم الشجاعة والالتزام وبسالة الشعب الإسرائيلي. زيارة جو بايدن إلى تل أبيب وتكرار دعمه لإسرائيل”.

– “أردت أن أكون هنا، حتى يعلم شعب إسرائيل، وشعوب العالم، أين تقف الولايات المتحدة”، كما قال جو بايدن خلال زيارته لإسرائيل. وقد جدَّد دعمه لإسرائيل أمام بنيامين نتنياهو الذي شكره لكونه “أول رئيس أميركي يزور إسرائيل في زمن الحرب.

– “ومنذ ذلك الحين، تقصف إسرائيل غزة؛ حيث قدرت السلطات المحلية حوالي 2750 قتيلًا فلسطينيًّا”.

– “عندما تنتهي كل هذه الأحداث، ستكون غزة مختلفة تمامًا”، كما يقول مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي(8).

وورد في “لوموند”، في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023:

– النائب عن فرنسا الأبية، فرانسوا روفان، يقول: “كلامنا لا يرقى إلى مستوى جدية الأحداث في إسرائيل”. النائب المنتخب عن حزب “فرنسا الأبية” يدعو إلى “استخدام عبارات قوية” بخصوص الأعمال الإرهابية التي ترتكبها حماس في إسرائيل، ويخشى من استيراد النزاع إلى فرنسا” مقابلة مع صحيفة “لوموند”(9).

شكل (1): دلالات موجهات الإعلام الغربي

في بناء وتشكيل صورة الذات الفلسطينية

.

تشير الدراسات اللسانية إلى أن بنية الكلام تكون محكومة بموقف من يُنتِجه، ويظهر هذا الموقف من خلال المُوجِّه الذي تتضمنه الجمل ويحيل إلى مواقف محددة. وفي هذا الصدد، يرى العالم اللغوي، شارل بالي (Charles Bally)، أن “الجهة هي روح الجملة وكذلك الفكر”(10). وهذا ما لاحظته الباحثة في النماذج التي وردت بصحيفة “لوموند”، التي تُعد من الصحف المؤثرة في فرنسا وفي العالم أيضًا؛ إذ تُسهِم في رسم المشهد السياسي وتشكيل الرأي العام تجاه النزاعات والأحداث الدولية، مثلما يجري في الحرب الإسرائيلية على غزة.

جدول (2): توجيه الخطاب الإعلامي

الغربي لنزعة الشرعية عن حركة حماس

م العبارة المستعملة الدلالة الجهية
1 إذا كان السؤال: هل حماس منظمة إرهابية؟ هل ارتكبت أعمالًا إرهابية؟ الجواب هو نعم     سؤال يخرج عن معناه الحقيقي إلى دلالات استلزامية

وهي التأكيد، ويتم تأكيد التأكيد من خلال الجواب “نعم”

2 من المقرر أن يشدد موجه اللزوم
3 على أن المجتمع الدولي يجب ألا يسمح موجه اللزوم
4 يجب ألا يسمح موجه النفي
5 أعلن أنه فخور بكونه في إسرائيل لتكريم الشجاعة والالتزام وبسالة الشعب الإسرائيلي موجه التقرير مع موجه مكاني
6 أردت أن أكون هنا موجه مكاني
7 وقد جدد دعمه لإسرائيل موجه التقرير والتأكيد
8 قدرت السلطات المحلية حوالي 2750 قتيلًا جهة الاحتمال والتوقع
9 ستكون غزة مختلفة تمامًا جهة التحول والصيرورة
10 كلامنا لا يرقى إلى مستوى جدية الأحداث موجه النفي
11 يدعو إلى “استخدام عبارات قوية” موجه الترغيب

من خلال العبارات التي وردت في الجدول رقم (2)، يمكن أن نستنتج رؤية الإعلام الغربي للفلسطينيين وللحرب على غزة، عبر توصيف هذه الحرب وأطرافها، أو من خلال نقل خطابات لسياسيين غربيين. فقد جاءت مثلًا كلمات النائب، فرانسوا روفان، مقتضبة، لكنها شاجبة للخطاب السياسي الحالي، وقد وجَّه نقده لما يراه عدم كفاية في المعجم السياسي المستخدم لوصف الأحداث التي تجري في إسرائيل. تُشير كلماته إلى الحاجة الملحَّة لعبارات تحمل وزنًا وتأثيرًا يوازي هول الأحداث التي قام بها “الإرهابيون” حسب اعتقاده، داعيًا إلى تبنِّي نبرة أكثر حزمًا قد تمتد آثارها لتشمل التوجهات الخارجية للدول ومنع استيراد النزاع خارج حدوده الإقليمية. فأكثر ما يشغل باله هو الضغط على الرأي السياسي العالمي من أجل إنتاج خطابات شديدة اللهجة تدين “الإرهابيين”، وتدعو إلى القضاء عليهم في مكانهم، أي في غزة. وبذلك تتمكن فرنسا من عدم ترحيل المشكلة إلى المجتمع المحلي، وهو الممثل لحزب “فرنسا الأبية” الذي يدعو إلى المحافظة على سيادة فرنسا أولًا.

من جهة أخرى، كان تصريح إلسا فوسيون، موجزًا لكن قاطعًا، ويعكس وجهة نظر تدعو إلى الاعتراف بوصمة “الإرهاب” التي تحملها أفعال حماس بحسب منطلقات هذا الرأي، وهي وصفة يتردد صداها في الخطاب الغربي “المناهض للعنف” وفق ادعاءاته، وتدعو إلى توحيد الجبهة الدولية في مواجهة ما تعتبره تجاوزات. وقد ظهر ذلك في بعض المبادرات السياسية التي دعت إلى توسيع نطاق التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة ليشمل أيضًا حركة حماس. وتكشف لغة هذا الخطاب عن إستراتيجية إعلامية وسياسية قد تتبنى البساطة والوضوح للتأثير في الرأي العام، لكنها تحمل أبعادًا دلالية لنزع الشرعية السياسية عن حماس باعتبارها -كما يشير منطوق الخطاب- حركة “إرهابية” لا تمثِّل الشعب الفلسطيني ولا يمكن الحوار معها. كما يُجرِّد هذا الخطاب حماس من البعد الإنساني بسبب ما يُسمِّيها “الأعمال الإرهابية” التي قامت بها، وفي المقابل يُشَرْعِن للجيش الإسرائيلي “حق الدفاع عن نفسه”. وهذا ما يُغيِّب -كما ذكر آنفًا- البعد السياقي للصراع وجذوره وأسبابه؛ إذ تتجاهل التغطية الإخبارية جوهر المشكلة التي تتمثَّل في الاحتلال ورغبة الذات الفلسطينية في مقاومته ودحره عن أرضها.

بنفس التوجه الإستراتيجي، حمل تصريح رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، تحذيرًا من عواقب الإرهاب ودعوة مباشرة للمجتمع الدولي لاتخاذ موقف فعال وحازم. وهذا يعكس استمرارية استغلال للسرديات السياسية الدولية التي تركز على مكافحة الإرهاب باعتباره جزءًا لا يتجزأ من استقرار النظام الإقليمي والعالمي.

أما موقف الرئيس الأميركي، جو بايدن، فقد تميز بالتصريحات التي تحمل رسائل عديدة على جبهات متعددة، تتضمن الفخر الذي أعلنه بالوقوف مع إسرائيل لتكريم الشجاعة والالتزام اللذين يُعبِّران عن عمق التحالف الأميركي/الإسرائيلي، ويشددان على التماسك على مستوى العلاقات الدولية. أما الإشادة بالبسالة فقد تنظر إليها بعض الأطراف باعتبارها دعمًا لا محدودًا يُقدَّم لإسرائيل، بينما يراها آخرون تعبيرًا عن الثبات على المواقف الإستراتيجية؛ وهو ما يعطي نوعًا من الطَّمْأَنَة والتشجيع للقوات الإسرائيلية لمواصلة الحرب تحت راية “مقاومة الإرهاب”.

وفيما يخص الإحصائيات المتعلقة بضحايا الحرب على غزة، فمن المفترض أن تضيف بُعدًا إنسانيًّا للأحداث، وتُظهِر حجم الخسائر التي تنجم عن الحرب، ولكنها جاءت هنا في سياق تأكيد الانتصار والسيطرة على الوضع؛ إذ لا تُقدِّم لمحة عن السياق الكارثي للأوضاع في غزة بقدر ما تُعزِّز الثقة بالنفس لدى الجنود الإسرائيليين، وإقناعهم بأنهم حققوا أهدافهم وما عليهم سوى مواصلة الحرب التي لم تحقق أيًّا من الأهداف المعلنة سوى التدمير الممنهج للبنية التحتية والتطهير العرقي والإبادة الجماعية للفلسطينيين.

إن موجه الاحتمال والشك الذي ورد في النموذج الأخير لصحيفة “لوموند” يُعبِّر عن التوقعات الإسرائيلية بتغيُّر طبيعة غزة. وتُعد هذه التصريحات محمَّلة بالدلالات السياسية والعسكرية وتنطوي على تفاصيل متعددة قد تُوجِّه المستقبل الجيوسياسي للمنطقة، وتعِد بالقضاء على الفلسطينيين بالقتل أو التهجير القسري، وجعل غزة مدينة إسرائيلية، وهذا سينعكس على الوضع برمته في المنطقة. نلاحظ أن كل كلمة مختارة في الصحافة الغربية تحمل وزنًا قد يؤثر في التوازن الدقيق للعلاقات الدولية وتُشكِّل في نهاية المطاف النسيج الحيوي للسياسة الخارجية للدول الغربية إزاء ما يجري في غزة وما يحدث في العالم العربي.

شكل (2): دلالات موجهات الخطاب الإعلامي في بناء صورة الجيش الإسرائيلي

.

3. خطاب المغالطة والإيهام ببراءة الجيش الإسرائيلي

تضمن الخطاب الإعلامي الغربي مغالطات كثيرة تهدف إلى تأجيج الرأي العام العالمي ضد الفلسطينيين، وهناك نماذج مختلفة كما وردت في عينة الدراسة، ومن أبرزها ما جاء في “لوموند”، في 18 و19 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وستركز الباحثة على تحليل بعض نماذج الخطاب الإعلامي للصحيفة.

– “تحدث الزعيمان هاتفيًّا بعد زيارة الرئيس الأميركي لإسرائيل. وقد أكد جو بايدن أيضًا الرواية الإسرائيلية التي تفيد بأن مستشفى الأهلي في قطاع غزة تعرض لصاروخ خارج السيطرة أطلقته مجموعة إرهابية في غزة.

– أكدت لندن دعمها لإسرائيل بعد الهجمات الدموية لحماس التي أودت بحياة أكثر من 1400 شخص. وأعلنت المملكة المتحدة أيضًا عن زيادة مساهمتها الإنسانية إلى الفلسطينيين بنسبة الثلث، أي عشرة ملايين جنيه إسترليني (11.5 مليون يورو) إضافية.

– وعلاوة على ذلك، ترغب واشنطن في أن توافق القاهرة على فتح حدودها للسماح بخروج المدنيين الفلسطينيين، لاسيما حاملي الجوازات الأميركية، “سنخرج الناس”، كما قال جو بايدن دون أن يُقدِّم مزيدًا من التفاصيل(11).

تعتبر المغالطة نوعًا من خرق قوانين الخطاب، وتعني استعمال الأفكار والمعلومات المُضَلِّلَة لإقناع الآخر بوجهة نظر معينة أو موقف أو رأي. وتهدف إلى إثارة العواطف من أجل كسب المتلقي، والحسم في جعله يتوافق مع المتكلِّم ويتبنَّى رأيه عن طريق الخداع والمناورة واستغلال جهل المتلقي بواقع الأحداث، وذلك بطرق تبدو منطقية وسليمة ترمي إلى مخاطبة القلب والمشاعر وتنويم العقل. وهذا ما يشير إليه أفلاطون في إحدى محاوراته مع جورجياس: “إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لأشد إقناعًا من أي احتكام إلى العقل”. ويؤكد الفيلسوف آرثر شوبنهاور (Arthur Schopenhauer) ذلك مع التنبيه إلى خطورة عدم الوعي بحيل المغالطة؛ إذ يرى أنه يتوجَّب على من يدخل في مناظرة أن يعرف حيل الخداع، فمن المحتم أن يُصادفها ويتعامل معها، وهو يتمنى أن يخصص اسمًا لكل مغالطة كي لا يقع فيها مرة أخرى(12).

ويستغل الإعلام عمومًا هذه الإستراتيجية لتمرير الآراء والإقناع بها، وترى الباحثة أن الإعلام الغربي لا يشذُّ عن ذلك، فهو يتوارى خلف المغالطات التي يستعملها السياسيون الغربيون في خطاباتهم للإيهام بأن حماس “جماعة إرهابية” قادرة على إيقاع الأذى بالشعب الفلسطيني نفسه. ففي نص الخطاب الأول، نرى تأكيد الرئيس الأميركي، جو بايدن، على الرواية الإسرائيلية بشأن ما تُعتبر “حادثة مأساوية في قطاع غزة” تُعد حركة حماس “المسؤول الأول عنها”، وبذلك ينفي التهمة عن المسؤول الرئيسي وهو الجيش الإسرائيلي الذي يستخدم سياسة “الأرض المحروقة”، أو ما يُسمَّى “عقيدة التدمير الإسرائيلية”، في مواجهة عموم الفلسطينيين. ولأن اتهام حماس بضرب الفلسطينيين مباشرة لا يمكن أن يُقنع الرأي العام العالمي فتمَّ استخدام عبارات، مثل “صاروخ خارج السيطرة” و”مجموعة إرهابية”. وهذا يُشير إلى تبنِّي لغة محددة تُظهِر أن النشاط العسكري غير المقصود من جانب حماس كان سببًا مباشرًا في الدمار، مما يمكن أن يؤثر في الرأي العام من خلال توجيه اللوم بطريقة محددة نحو طرف واحد، وهو حركة حماس.

وفيما يخص إعلان الحكومة البريطانية مساندتها غير المشروطة لإسرائيل، وفي الوقت نفسه تدعو إلى زيادة الدعم الإنساني للفلسطينيين عقب هجمات حماس التي ألحقت الضرر بالفلسطينيين حسب اعتقادها. هنا، يمكن لعبارة “الهجمات الدموية” أن تُحفِّز استجابة عاطفية ومباشرة من المتلقي، بينما يُعتبر الإعلان عن زيادة المساعدات الإنسانية تصورًا لموقف لندن كطرف محايد يهدف إلى التخفيف من معاناة الضحايا المدنيين. وهو ما يُرسل إشارة إلى أن المملكة المتحدة تُظهِر التزامها بحماية الأرواح البشرية ودعمها للجهود الإنسانية دون تحيز، وهي مغالطة تهدف إلى الظهور بمظهر المدافع عن حقوق الإنسان والرافض لكل تجاوز للقيم الإنسانية، كما يتضمن مغالطة للرأي العام العربي والدولي؛ إذ إن مساندة إسرائيل لن تفضي بالتأكيد إلى مدِّ يد العون إلى الفلسطينيين باعتبارهم “رمزًا للإرهاب” بمقتضى الرواية الإسرائيلية والغربية.

وتشكِّل دعوة الرئيس الأميركي، جو بايدن، لمصر بفتح حدودها للفلسطينيين، خاصة الذين يحملون جوازات أميركية، تحديدًا جغرافيًّا وإنسانيًّا مهمًّا يعكس الاهتمام المفتعل للإدارة الأميركية بضمان سلامة الفلسطينيين العزل، بل وتسلط الضوء على عنصر التحرك السريع والاستجابة للأزمات، رغم أن التفاصيل ضبابية “دون أن يقدم مزيدًا من التفاصيل” قد تُبقي فهم العملية مفتوحًا على تأويلات مختلفة.

ومن المغالطات التي يستخدمها الإعلام الغربي تقديم الإسرائيليين باعتبارهم “ضحايا الإرهاب”، الذي تمثِّله حركة حماس، وأيضًا يمثِّله كل مواطن فلسطيني حتى وإن كان شيخًا أو طفلًا. وقد اختارت الباحثة عينة من مجلة “لوبوان” التي تشكِّل نموذجًا واضحًا للإعلام الغربي الذي ركز على وصف “الضحايا الإسرائيليين من المدنيين”، وأسهبت في مخاطبة وجدان المتلقي ومشاعره عوض عرض الحقائق كما هي.

– في معهد التشريح الطبي الشرعي في تل أبيب، رائحة الموت لا تُطاق: في الحجرات، على أسرَّة معدنية، توجد جثث محروقة، مشوَّهة، مُتَحَلِّلَة. هنا يرقد من بقي من الإسرائيليين الذين قُتلوا على يد حماس في السابع من أكتوبر، من أجل التعرف على هوياتهم.

– الجثث منتشرة في كل مكان أو أجزاء من الجثث. من حولهم يعمل الأطباء الشرعيون، الذين يرتدون ملابس خضراء، جاهدين لإعادة تشكيل ما يمكن تشكيله، وكأنه لغز مروع.

– يُعلَّق رقم على كل واحد منهم. تأتي الجثث من كل مكان، يحملها رجال، معظمهم متطوعون، غالبًا ما يكونون يهودًا أرثوذكس. في الديانة اليهودية، لا يُدفن الجسد إلا إذا كان كاملًا، قدر الإمكان.

– “لقد قررنا أن نكشف هذا الرعب؛ لأن هناك أشخاصًا يتهموننا بالكذب وإظهار عظام الكلاب”، قال مدير المعهد، الدكتور هين كوجل (Hen Kugel)، لوكالة الأنباء الفرنسية، وهو لا يحاول حتى أن يكف دموعه.

– يُظهِر تشابك العظام وأشلاء من اللحم المربوطة معًا بكابل كهربائي غلافه قد ذاب. “على جهاز الأشعة”، كما يقول كوجل، “نرى بوضوح عمودين فقريين، أحدهما لرجل أو امرأة، لا نعلم، والآخر لطفل. وضعية الجثتين تشير إلى أن البالغ حاول حماية الصغير. لقد تم ربطهم ثم حُرقوا أحياء”.

– الدكتور كوجل يمسح دموعه مرة أخرى “لقد مضى 31 عامًا وأنا أزاول هذه المهنة. لم أرَ قط مثل هذا القدر من البربرية، هذه القسوة، هذا الإصرار. هذا مروع تمامًا”.

– أحصت السلطات الإسرائيلية أكثر من 1400 قتيل منذ الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر بواسطة مئات من الإسلاميين القادمين من قطاع غزة تسلَّلوا إلى البلدات المحاذية للأراضي الفلسطينية.

– الجميع مأخوذون على حين غرة؛ إذ إن رئتي الضحايا كانت مشبعة بالدخان. جثث أخرى مخترقة بالرصاص من الخلف، وبعضها الآخر يحمل أيديًا اخترقتها الشفرات أو الشظايا، مما يكشف أنهم قاتلوا بأيديهم ضد مهاجميهم.

– “لا نعرف كم عدد الرضع الذين ماتوا، ولا كم عدد الأشخاص المسنين. هناك أيضًا الكثير من الجثث بلا رأس. سيأخذ الأمر بعض الوقت للتعرف على الجميع”، كما يقول الدكتور كوجل.

– توفيت عائلة أوكرانية في هجوم حماس. لقد فروا من الصراع في بلادهم، ولا تزال هويتهم غير معروفة. هناك أيضًا مواطنون أميركيون.

– “ربما هناك جنسيات أخرى أيضًا”، يوضح الطبيب الشرعي هاغار مزراحي.

– تشير المسؤولة عن وحدة تحديد الهوية الوراثية، نوريت بوبليل، إلى أن المئات من الجثث نُقلت إلى المعهد وتمَّ التعرف على معظمها.

– “لكن كل شيء يصبح صعبًا بسبب أن الضحايا غالبًا ما كانوا مربوطين معًا. لذا من الممكن أن يوجد في كيس واحد جثتان أو ثلاثة”، تضيف الطبيبة.

– “أفتح باب حاويات التبريد أرى الجثث وأشم الرائحة، أدعها تملأ رئتي وقلبي، لكن ما أشعر به هو ألمهم وفقدانهم” يهمس الحاخام وايس. يزعم برفقة أعضاء آخرين من فريقه الذين فحصوا الجثث أن العديد من الضحايا تعرضوا للتعذيب والاغتصاب أو الإساءة. لم تتمكن “وكالة فرانس برس” من التحقق من تصريحاتهم من مصدر مستقل. “ما رأيت طوال حياتي مثل هذه الفظائع” يضيف الحاخام، وهو يقف أمام حاويات بها ما يصل إلى خمسين جثة في أكياس الموت البيضاء.

– “رأيت رضعًا ونساء ورجالًا مقطوعي الرأس. رأيت امرأة حاملًا تمَّ شق بطنها وإخراج الجنين”.

– لكن الجيش، الذي يزعم أن حماس احتجزت على الأقل 199 شخصًا رهائن في غزة، حذَّر من أن الوصول إلى إحصائية نهائية للضحايا والتعرف عليهم جميعًا ستستغرق أسابيع(13).

يمكن دراسة هذه العينة من الخطاب الإعلامي الغربي لتحديد تأثير استعمال الموجهات في صياغة خطاب مؤثر في المتلقي عن طريق موجهات موضوعية، والتي تنقسم بدورها إلى موجهات ذاتية أو تقويمية وموجهات شرعية. وتقوم الموجهات الذاتية على الخلفية الذهنية للمتكلِّم والظروف المحيطة بالخطاب من خلال معارفه التي تتحقق في الواقع لترسم حدثًا موجهًا. وتحمل الموجهات الذاتية شحنات ذاتية وعاطفية كبيرة لتوجيه المتلقي. أما الموجهات الشرعية، فيُقوِّم من خلالها المتكلِّم الحادثة أو الواقعة بالنظر إلى القواعد الأخلاقية والاجتماعية والقانونية.

وترى كاترين كيربات أوريكويني (Catherine Kerbrat-Orecchioni) أن قسمًا من الكلمات في الخطاب الذي يحمل الموجهات التقويمية يلتبس بشحنة ذاتية عالقة بها في الأصل اللغوي، وتنقسم بدورها إلى موجهات معجمية عاطفية ووحدات معجمية تقويمية؛ تضطلع هذه الأخيرة بوظيفة توجيه الخطاب، فضلًا عن توجيه المتلقي(14). ويؤكد أرسطو على التفاعل بين المتكلِّم وأطراف عملية التخاطب إلى جانب موقفه من الأحداث والأشياء؛ إذ يُبْطِن من خلال ذلك ضربًا آخر من التوجيه غير توجيه القول، وهو توجيه الطرف المقابل إلى فعلٍ ما، وليس هذا التوجيه “نتيجة حتمية لتوجيه القول والمقول”(15)، وإنما هو نتيجة الشحنة العاطفية المبثوثة ضمنيًّا في الخطاب.

و”تقوم هذه الموجهات برصد أحوال المتخاطبين ومقامات التخاطب ومقاصد الخطاب باعتبارها تمثِّل الآليات التي يعتمدها المتكلِّم في “التعبير عن مضمونه من صدق القضية”(16). ويختار المُخاطِب وسائل ولغة خاصة للتأكد من صدق القضية وإمكانية التعبير عن موقفه ورغبته في تبنِّي محتوى القضية، لأن الموجهات “تجعل الخطاب الذي ترد فيه ذا بعد موضوعي يبعث على التصديق ويولِّد الإقناع، لذلك فإن وَسْم المتكلِّم خطابه بهذه الموجهات يعني وقوفه موقف الحياد من مضمون القضايا التي يعرضها على السامع بحجة الموضوعية والنزاهة”(17).

كما أن هذه المقتطفات تحفل بالموجهات الشرعية التي يستند إليها المتكلم لتجذير خطابه في القواعد التي تحكم المجتمع، وتستمد قوتها من استنادها على قواعد أخلاقية تحكم الواقع المعيش الذي ينتقي منه المتكلِّم ما يبني به خطابه لتحقيق الحدث وضبط علاقته بالقواعد الموجهة. وتشمل هذه الموجهات معايير (واجب-ممنوع)، ويمكن أن نبيِّن كيفية استعمال هذه الموجهات في النماذج السابقة كما ورد في الجدول رقم (3).

جدول (3): إستراتيجيات الخطاب الإعلامي الغربي لإدانة

أفعال حماس واستمالة المتلقي للاعتقاد بالرواية الإسرائيلية

م موجهات ذاتية/تقويمية موجهات شرعية
1 رائحة الموت لا تُطاق غير مقبول
2 جثث محروقة، مشوَّهة، مُتَحلِّلَة غير مقبول
3 من بقي من الإسرائيليين الواجب
4 الجثث منتشرة في كل مكان أو أجزاء من الجثث غير مقبول
5 وكأنه لغز مروع    الممنوع    الممنوع
6 تأتي الجثث من كل مكان الواجب
7 رأيت رضعًا ونساءً ورجالًا مقطوعي الرأس

رأيت امرأة حاملًا تمَّ شق بطنها وإخراج الجنين

غير مقبول
8 وهو لا يحاول حتى أن يكف دموعه الواجب
9 تشابك العظام وأشلاء من اللحم غير مقبول
10 نرى بوضوح عمودين فقريين أحدهما لرجل أو امرأة، لا نعلم، والآخر لطفل     غير مقبول
11 البالغ حاول حماية الصغير الواجب
12 لقد تم ربطهم ثم حرقوا أحياء غير مقبول
13 هذا القدر من البربرية، هذه القسوة غير مقبول
14 هذا مروع تمامًا، جثث بلا رأس غير مقبول
15 أرى الجثث، أشم الرائحة، أدعها تملأ رئتي وقلبي المرخص
16 للتعذيب والاغتصاب أو الإساءة غير مقبول

تحاول هذه العينة من الخطاب الإعلامي الغربي أن تصدم المتلقي بما تعرضه من صور مروعة لحالات فردية وجماعية من المجتمع الإسرائيلي؛ فتُقدِّم أولًا رواية مظلمة من معهد التشريح الطبي الشرعي في تل أبيب، فنجد وصفًا تفصيليًّا للمشهد الذي خلَّفته الأحداث، وهو يُجسد ثقل الحدث والأثر النفسي والعاطفي الذي يلقيه على العاملين في هذا القطاع من خلال البيان التفصيلي للأعمال التي قيل إن تلك الجثث تعرضت لها.

ويُجبر الإعلام الغربي المتلقي على مواجهة ما يعتبره صورًا من “الوحشية” والإحساس بها، بل ومعايشتها ومعرفة مدى ما يمكن أن يُصيب النفس البشرية من “الإجرام والقسوة”، وبذلك يقلب الحقيقة ويجعل المتلقي يتعاطف مع الإسرائيليين بوصفهم “ضحايا الوحشية”. كما أن الإشارة إلى الجثث وكيفية معاملتها طبقًا للشريعة اليهودية تعطي قدسية لذلك المكان والإجراءات التي تجري هناك وقدسية لما يحدث، وتُبيِّن مدى اهتمام الديانة اليهودية بالميت وبكرامته حتى بعد الوفاة؛ مما يعكس احترام الإسرائيليين للإنسان والإنسانية في سياق لا تحترم فيه مجموعة ممن يُسمِّيهم “الإرهابيين” النفس البشرية. ويمثِّل ذلك ذروة المغالطة وتزييف الوقائع؛ إذ أثبت بعض التحقيقات الصحفية أن “حرق أطفال رضع” و”اغتصاب نساء إسرائيليات” لم تكن سوى أخبار مفبركة ودعاية سوداء أنتجها الجهاز الدعائي للجيش الإسرائيلي وروَّجت لها وسائل الإعلام الإسرائيلية وكذلك الإعلام الغربي. كما أنتج روايات أخرى عن المستشفيات في غزة اعتبرها “مراكز للقيادة والسيطرة لحركة حماس” وثبت أيضًا زيفها. وتحاول هذه الرواية دَعْشَنَة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ما يجعل سلوكها لا يختلف عن تنظم “الدولة الإسلامية”، المعروف اختصارًا بـ(داعش)، دون النظر مرة أخرى في اختلاف السياقات والأبعاد الوطنية التي تحرك حماس في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ولذلك ركز معظم الإعلام الغربي وبعض القادة السياسيين في الغرب خلال الأيام الأولى للحرب على هذه الرواية لشيطنة حماس حتى تتماهى صورتها مع تنظيم الدولة، وهو ما يرتب واقعًا سياسيًّا وقانونيًّا في التعامل مع الحركة باعتبارها “كيانًا إرهابيًّا متوحشًا” -في نظر هؤلاء- وليست حركة تحرر وطني.

إن أكثر ما يشد الانتباه في النماذج السابقة هو إظهار الخطوة التي اتخذها معهد التشريح للكشف عن حالات الجثث، وهو تصرف له تأثير في صورة الصراع في الأذهان؛ إذ يُظهر إصراره على الشفافية والرغبة في كشف الحقيقة، وبيان التحدي والضغط الذي يواجهه المجتمع الإسرائيلي، فضلًا عن دحض الاتهامات بالتزييف في رأيهم والتي يتم تداولها في الإعلام العربي.

ويسعى الإعلام الغربي إلى التركيز على أن واقع “الهجمات الدموية والهمجية” -كما يصفها- لا يترك فقط آثاره الجسدية في الضحايا، ولكن أيضًا آثاره النفسية فيمن يتولون رعاية تلك الجثث. وتُلقي الشهادات من الدكتور كوجل وآخرين ضوءًا على الصدمات النفسية والتحديات التي يواجهونها كأفراد في مواجهة هذه المآسي، وهو ما سيلقي بظلاله على توجيه الرأي العام نحو التعاطف مع إسرائيل التي لا تُعد -في نظر هذا الإعلام- مسؤولة عن الحرب بل “ضحية” لها. وهنا، تُبرِز الرواية الغربية في الحرب على غزة الجوانبَ المأساوية للصراع وتأثيرها في الإسرائيليين، كما أن الإعلان عن “الضحايا الأبرياء من الرضع والنساء والأشخاص المسنين” يُعطي لهذا الصراع وجهًا إنسانيًّا قاتمًا؛ إذ يُعد المسؤول الوحيد عنه في نظر هذه الرواية هو “حركة حماس”.

إن الوصف في الخطاب الإعلامي الغربي يتخطى مجرد الرصد المحايد، فهو يُحفِّز الحواس بالضغط على أوجه الرعب والمعاناة البشرية، فالجثث تُشكِّل لوحات مؤلمة للذهن، بينما التلاعب بالعبارات “مثل اللغز المروِّع” يُلقي الضوء على الطبيعة الجبرية لعمل المحققين الذين يحاولون جمع بقايا الجثث.

كما أن الإيهام بإعادة بناء الهويات المفقودة يلامس عميقًا الجانب الديني والثقافي من خلال مراعاة التعاليم اليهودية التي تُشدِّد على دفن الجسد بأكمله. وهو يُعد إيهامًا بتقدير كرامة الإنسان حتى بعد الموت ويُسلط الضوء على الطقوس التي تُوازن بين الإرث الروحي والواجب العلمي.

إضافة إلى ذلك، يتم تقديم تصريح مدير المعهد، الدكتور هين كوجل، بمنزلة السمو الإنساني في وسط هذه الكارثة؛ إذ إن معركته ضد دموعه وتوثيقه للترويع الإنساني يُظهر الصدمة النفسية العميقة التي تعتري الأشخاص الذين على اتصال مباشر بتداعيات النزاع. لذلك، فإن حرق الأحياء والموتى ليس فقط تكتيك قسوة، بل يُمثِّل أيضًا انتهاكًا صارخًا للحق المبدئي في الحياة والأمان. كما أن ظاهرة “الجثث بلا رأس”، وتلك “المخترقة بالرصاص من الخلف”، و”الأيادي التي واجهت الشفرات والشظايا”، تُوجز ليس فقط العنف المفرط الذي تمارسه حماس، ولكن أيضًا النضال اليائس للضحايا في مواجهة الموت.

يُستكمل الخطاب المغالطي بمشاهد حزينة، مثل قصة الأسرة الأوكرانية التي تُعبِّر عن مرارة الحرب المتكررة وتشتت البشر في رحلة الهروب من الموت. ما يبدو مروعًا هنا ليس فقط الفقد الفردي، بل أيضًا التشتت الجغرافي والزمني للأرواح التي بحثت عن السلام فقط لتجد الدمار الذي يتهم به الإعلام الغربي الفلسطينيين. وهنا، يحاول الخطاب الإعلامي مغالطة المتلقي من خلال إظهار حماس حركةً مسلحة تهدد السلم والأمن عبر استرجاع خطر الدَّعْشَنَة، دون طرح السؤال عن السياق الذي أقدمت فيه حماس على عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

شكل (3): مغالطات الإعلام الغربي في تغطية الحرب الإسرائيلية على غزة

.

وفي سياق اهتمام الإعلام الغربي بتأثير الحرب على غزة في الحريات الأكاديمية بالجامعات الغربية، وحرية الرأي والتعبير وأشكال التضامن مع القضية الفلسطينية في المؤسسات الجامعية، عالجت صحيفة “ليزيكو” الفرنسية هذا الموضوع من خلال هذه النماذج:

– “حرب إسرائيل-حماس: مليارديرات أميركيون يضغطون على الجامعات”.

– “هدَّد عدد من الشخصيات البارزة في وول ستريت بسحب تمويلاتهم من كبرى الجامعات الأميركية؛ لأنهم يرون أن هذه الجامعات لم تُظهِر التزامًا كافيًا بجانب إسرائيل عقب الهجمات التي شنتها حماس”.

ونقلًا عن “نيويورك تايمز” أوردت “ليزيكو”:

– أفادت التقارير أن بعض الجامعات المرموقة في البلاد أظهرت مواقف غير واضحة تجاه القضية؛ مما أثار جدلًا واسعًا. وحسب ما نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” فإن ما لا يقل عن اثني عشر من المتبرعين قاموا بسحب تبرعاتهم من مؤسساتهم التعليمية السابقة، أو هددوا بفعل ذلك في حال لم تُدِن تلك الجامعات بوضوح أكبر الهجمات التي شنتها حماس ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر.

– مؤسس صندوق التحوط سيتاديل، كينيث غريفين، هو أحد أكبر المتبرعين لجامعة هارفارد. تبرع بأكثر من نصف مليار دولار للجامعة، وهي واحدة من أشهر الجامعات في العالم، لكنه قام بالاتصال بإدارة الجامعة مطالبًا بموقف حازم تجاه الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني دعمًا لإسرائيل(18).

لا يتوقف الدعم الغربي لإسرائيل على المناصرة بالسلاح في ساحة المعركة وبالكلمة في وسائل الإعلام، وإنما تعدى ذلك إلى تهديد كل من يُظهِر تعاطفًا مع الشعب الفلسطيني. ولم تسلم من هذا التهديد الجامعات التي تمثِّل فضاء للعلم والمعرفة ولا تخضع إلا لما تمليه الحريات الأكاديمية، لكن يمارس المليارديرات الأميركيون الضغط على المؤسسات الأكاديمية لمنعها من نصرة الشعب الفلسطيني وذلك في دائرة التأثير الاجتماعي والسياسي الذي يتجاوز حدود المجتمع ليصل إلى المؤسسات الجامعية.

ويُبرِز ذلك كيف تحولت الجامعات، التي من المفروض أن تكون مؤسسات للمعرفة والحرية الفكرية، إلى ساحة للصراع الأيديولوجي والهويات السياسية. عندما يقوم رجال المال والاقتصاد، مثل كينيث غريفين ذي الثقل في سوق الأموال والمُساهم الكبير في الدعم الجامعي، بممارسة الضغط على هذه المؤسسات، فإن هذا يُثير تساؤلات بشأن حيادية الجامعات واستقلاليتها.

ولنا أن نتساءل: لو أن الأمر تمَّ في جامعة عربية فماذا سيكون رد الفعل الغربي؟ فالتهديد بسحب التمويل يمس الأساس الذي تُبنى عليه العملية التعليمية الجامعية، لأن هذا التمويل هو الذي يمكِّن الطلاب من التقدم في البحث العلمي والتعليم الأكاديمي. ويتمثَّل عمق القضية في أن قرارات التبرع تمس ليس فقط ميزانيات الجامعات، بل وتثير الجدل حول السياسات والاتجاهات الجامعية تجاه قضايا حيوية تحظى بالاهتمام العالمي.

ونلاحظ أن ما أوردته “ليزيكو” يُلقي الضوء على هذه الأزمة التي تتسم بالتعقيد؛ إذ نلمس الاستياء المتزايد من المتبرعين، والذي يمكن أن يوجه سياسة المؤسسات الأكاديمية. وهذا يعكس الصراع الأكبر بين المصالح المالية والمبادئ الأكاديمية. فالتأثير الواضح الذي يمكن أن يمارسه كينيث غريفين، عبر اتصاله بإدارة جامعة هارفارد، يُلمح إلى السلطة المالية التي تؤثر في قرارات وسياسة المؤسسات التعليمية. ويُعد طلب غريفين إعلانًا عن كيفية استخدام الإسناد المالي أداة للضغط السياسي، ووسيلة للتأثير في الخطاب الجامعي بشأن القضايا الإنسانية المعقدة، وكيف يوجه الرأسمال الغربي الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين من أجل تحرير الأرض بقوة السلاح والمال.

وهنا يمكن أن نستنتج أيضًا كيف تؤثر الأحداث العالمية الكبرى في توجهات القوى الاقتصادية، التي تمتلك القدرة على تغيير مسار النقاش العام في ميادين العلم والتعليم. فالحرب بين إسرائيل وحركات المقاومة الفلسطينية تُعد مثالًا حيًّا على كيفية إلقاء الصراعات البعيدة بظلالها على الثقافات والمؤسسات، فضلًا عن الأشخاص الذين قد يستخدمون سلطتهم لإعادة صياغة سردية مختلقة ومزورة عبر التأثير في المواقف الأكاديمية داخل فضاءات للتعليم والبحث.

خاتمة

يوسم الخطاب الإعلامي بالتعقيد والتداخل، لأنه حمَّال لخطابات عديدة صادرة عن أطراف متنوعة، فهو يحمل الخطاب السياسي والديني والاقتصادي وغيرها من الخطابات التي تمثِّل جوانب مختلفة من حياة الإنسان. ويُستعمل هذا الخطاب كل الوسائل المعجمية والتركيبية والتداولية لإحداث الأثر في المتلقي؛ فاللغة باعتبارها سلاحًا للمتكلِّم -تنشأ في رحم الاستعمال- تحتوي على أساليب تساعده في التعبير عن مواقفه ورغباته، وإقناع القارئ أو المستمع بالقضية التي يحملها ظاهر الخطاب أو التي يتم تضمينها في هذا الخطاب. وقد اخترنا مجال الجهة أو الجهية لمقاربة عينة من الخطاب الإعلامي في صحف غربية اهتمت بتغطية الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة.

وبيَّنت الدراسة أن الاختيار المتعمد للغة يُسهِم في تشكيل الوعي وإعادة توجيه الرأي العام العالمي؛ إذ يظهر بوضوح أن الخطاب ليس مجرد وسيلة لإيصال المعلومات، بل هو أداة ديناميكية لتمرير السلطة ولنشر الأيديولوجيا. ويمكن أن نعتبر الموجهية من أهم وسائل الإقناع والمغالطة أيضًا في الخطاب الإعلامي الغربي خلال الحرب على غزة. فقد أبرزت عينة الدراسة الذاتَ الفلسطينية “نموذجًا للإرهاب والوحشية” باستعمال المغالطة ونَسَب ما يتصف به الاحتلال الإسرائيلي إلى الشعب الفلسطيني، فاعتبرته “مثالًا للإرهاب والوحشية”، بينما قدَّمت هذا الاحتلال تقديمًا يجعل منه “راعيًا للإنسانية وللقيم وللأخلاق الحميدة ومتمسكًا بالشرعية في الدفاع عن النفس”. وهو ما يحجب الحقائق عن المتلقي ويخفي الانتهاكات والجرائم التي ترتكبها إسرائيل والدمار الممنهج الذي ألحقته بالبنية التحتية في غزة وعمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري للفلسطينيين. كما يخفي حقيقة الصراع والسياق الذي تندرج فيه عملية “طوفان الأقصى”؛ إذ إن المشكلة مع الاحتلال الإسرائيلي لم تبدأ يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بل منذ أكثر من سبعة عقود. وهذا ما يفسر إصرار الذات الفلسطينية على ممارسة حقها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي كما يكفل لها ذلك القانون الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

إذن، كل كلمة مختارة في الصحافة الغربية تحمل ثقلًا دلاليًّا وتوجيهًا متعمدًا يمكن أن يُحدث أثرًا بالغًا في التوازن الدقيق للعلاقات الدولية من خلال إقناع العالم أن قوات الجيش الإسرائيلي في حالة “دفاع عن النفس”، ولا أدل على ذلك مما تمَّ تصويره من مشاهد في صحيفة “لوبوان” قيل إنها من معهد التشريح الطبي الشرعي في تل أبيب؛ حيث راهن الخطاب على إثارة المشاعر قصد الحصول على التعاطف والنصرة، رغم ما فيه من مغالاة في الوصف وتضخيم في التصوير ومغالطة واضحة في نقل الوقائع كما أظهرت بعض التحقيقات الصحفية.

المصدر : https://studies.aljazeera.net/ar/article/5823

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M