بسمة سعد
باحثة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية – مؤسسة الأهرام
وقعت السياسة الفرنسية تجاه إفريقيا خلال السنوات الأخيرة في مأزق سياسي يُهدِّد نفوذ فرنسا التاريخي في إفريقيا، ويضع مصالحها في القارة في مهبّ الريح، وذلك في خِضم التنافس الإقليمي والدولي على القارة، لا سيما عقب الحرب الروسية الأوكرانية، وبالتالي تعدَّدت الشراكات الخارجية البديلة لإفريقيا عن الشريك الفرنسي، وبالتالي لم يكن أمام الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” خيار آخر سوى تغيير سياسة باريس تجاه القارة وما تنتهجه من آليات في تنفيذها، عبر طرح استراتيجية جديدة تجاه إفريقيا يسعى لتنفيذها خلال ولايته الثانية الممتدة لخمس سنوات، أعلن عنها في خطابه في قصر الإليزيه يوم 27 فبراير 2023م، وهو ما يدفع للتساؤل عن: ملامح استراتيجية ماكرون الجديدة تجاه إفريقيا، ودوافع ماكرون لإطلاقها؟
انطلاقًا مما سبق، تهدف المقالة إلى استعراض الخطوط العريضة للاستراتيجية الفرنسية الجديدة تجاه إفريقيا، ثم مناقشة الدوافع الرئيسية التي دفعت ماكرون لإطلاق هذه الاستراتيجية، وذلك على النحو التالي:
أولًا: من أجل بناء “شراكة جديدة”.. ملامح استراتيجية ماكرون الجديدة تجاه إفريقيا:
حرص ماكرون خلال إعداده وإطلاقه لاستراتيجية جديدة تجاه إفريقيا على التخلّي عن حصر استراتيجية فرنسا في الوجود العسكري في إفريقيا، والتي لم تَجْنِ باريس منها أيّ حصيلة سياسية، وإنما انتهت بإنهاء شراكاتها الأمنية والدفاعية مع دولتين من دول الساحل بشكل غير لائق بباريس ولا بشراكاتها الممتدة على مدار عقد، وإنما طَرح ماكرون أبعادًا أُخرى للاستراتيجية، أولها؛ البعد الدبلوماسي السياسي؛ حيث سعى ماكرون إلى رسم صورة للشراكة الجديدة لفرنسا مع دول إفريقيا، في محاولةٍ لمحو ما هو سيئ في علاقاتها السابقة مع القارة، انعكست في دعوة ماكرون المتكررة بضرورة الـ«التواضع» خلال التعامل مع دول القارة، والكفّ عن اعتبار إفريقيا «معقودة اللواء لها»، محاولًا الحديث بروح رياضية عن تقبُّله وجود «منافسين» في القارة، في إشارةٍ إلى مجموعة فاغنر العسكرية الروسية، ولكن سعى للتأكيد على أن باريس «تدافع عن مصالحها». كما أعلن ماكرون عن إعداد «قانون إطاري من أجل البدء في تنفيذ طلبات بعض الدول الإفريقية بإعادة أعمال فنية لدى فرنسا»([1]).
ولقد كان من اللافت في خطاب ماكرون هو إضفاؤه للبُعْد القِيمي في الاستراتيجية، من خلال تأكيده على أن بلاده تدافع عن القِيَم التي تؤمن بها، وتعتبر الدفاع عن الديمقراطية والحريات العامة بمثابة عمودها الفقري، ولكن دون فرض هذه المبادئ على القارة، أو وضعها كشرط أساسي لتنفيذ الشراكة الجديدة.
أما بالنسبة لثاني الأبعاد وأهمها؛ فيتعلق بالشراكة الأمنية والدفاعية الفرنسية مع إفريقيا؛ حيث عمد ماكرون في استراتيجيته إلى التخلّي عن تأطير العلاقة مع دول القارة على أساس أمني ودفاعي محض، واستعادة الحضور الفرنسي في هيئته الجديدة على أساس «الشراكة الأمنية» المتكافئة؛ بحيث يتوقف تقديم الدعم العسكري الفرنسي للدول الإفريقية على رغبات الأفارقة بهدف دعمها وتعزيز قدراتها وليس الحل محلها، بالإضافة إلى انتهاج باريس مقاربة أمنية وعسكرية جديدة تقوم على تخلي باريس عن إقامة قواعد عسكرية بشكلها المعهود، واعتماد استراتيجية جديدة لتطوير العلاقة العسكرية والأمنية، عبر إنشاء كليات ومعاهد عسكرية يكون الحضور الأكبر فيها للأفارقة أنفسهم، والتركيز على التنشئة والتدريب.
أما بالنسبة لثالث الأبعاد وآخرها، فيتعلق بالبُعد الاستثماري الفرنسي في القارة؛ حيث أعلن ماكرون أن استراتيجيته الجديدة ستتخلَّى عن مبدأ «مساعدة إفريقيا»، واعتماد مبدأ «الاستثمار التضامني»؛ وذلك بحثًا عن منافع مشتركة في الأنشطة الاقتصادية، والعمل على تأسيس “شراكة اقتصادية ندّية”، كما قام ماكرون خلال خطابه بشنّ هجوم على الشركات الفرنسية التي لا تُقدّم للأفارقة المهارات والإنجازات المطلوبة، مقارنةً بالشراكة الخليجية والأوروبية والصينية، وإعلانه عن السعي لتأسيس شراكة إفريقية فرنسية أوروبية، في محاولة لقيادة باريس الشريك الأوروبي الذي يهدف للانخراط في القارة، مع التركيز على قطاعات مهمة وحيوية كالتعليم النظري والتأهيل المهني، والصحة والطاقة والبيئة والثقافة والاقتصاد الرقمي والمساواة بين الجنسين؛ على أن تتضمن التعاون مع منظمات المجتمع المدني والشباب الإفريقي.
ثانيًا: دوافع إطلاق ماكرون استراتيجية جديدة تجاه إفريقيا
هناك ثلاثة دوافع/ محركات رئيسية وقفت وراء قيام الرئيس ماكرون بإطلاق استراتيجية جديدة لباريس تجاه إفريقيا تقوم على بناء شراكة جديدة أمنية واقتصادية، هي كالتالي:
1- الحفاظ على المصالح الفرنسية في إفريقيا
تأتي القارة الإفريقية في مرتبة متقدمة في أجندة السياسة الخارجية الفرنسية، وهو ما أكَّد عليه الرئيس ماكرون مرارًا وتكرارًا بحديثه أن إفريقيا تُعدّ من بين أولوياته الدبلوماسية، بل إنها أولى الأولويات؛ حيث يتراوح النفوذ الفرنسي في القارة ما بين اقتصادي وعسكري وثقافي، لا سيما في البلدان الإفريقية التي تُعدّ مناطق نفوذ تاريخي لباريس؛ باعتبارها مستعمرات فرنسية سابقة.
فعلى المستوى العسكري، فإن لباريس حضورًا عسكريًّا في 6 بلدان هي (النيجر، وتشاد، والسنغال، وساحل العاج، والغابون وجيبوتي)، لكن تُعدّ كل من النيجر وتشاد نقاط ارتكاز رئيسية للحضور العسكري الفرنسي في منطقة الساحل؛ حيث تستضيف نجامينا قيادة القوة الفرنسية في منطقة الساحل، كما تستخدم القوات الفرنسية قاعدتين إضافيتين عائدتين للقوات التشادية في فايا لارجو وأبيشيه في تنفيذ عملياتها العسكرية لمكافحة الإرهاب في المنطقة([2]).
أما بالنسبة للنيجر، فقد استضافت نيامي القوات الفرنسية المنسحبة من عملية برخان في قاعدة جوية، تضم طائرات ميراج 200 وطائرات نقل، ودرونز ريبر الأمريكية المسلحة، ويرابط فيها ما لا يقل عن ألف عنصر فرنسي، من المؤكد ارتفاع أعدادهم عقب الانسحاب الفرنسي من مالي وبوركينا فاسو مؤخرًا؛ حيث ينتشر في منطقة الساحل الإفريقي ما يقرب من الـ3000 عنصر فرنسي، تسعى باريس وفقًا لاستراتيجيتها الجديدة لخفض عددهم، وتوظيفهم في دعم دول خليج غينيا على مكافحة الإرهاب([3]).
وفي منطقة القرن الإفريقي؛ تمتلك باريس قاعدة عسكرية في مستعمرتها السابقة جيبوتي، والتي تُمثل أهمية استثنائية للقوات الفرنسية البالغ عددها نحو 1500 عنصر فرنسي، لكونها تضم الأسلحة الثلاثة: سلاح الجو، والبحرية والمشاة، كما أنها تُمثل قوة ارتكاز للانتشار العسكري الفرنسي في المحيطين الهندي والهادي، فضلًا عن أهميتها العسكرية والاستراتيجية على مدخل البحر الأحمر وبالنسبة لكل منطقة شرق إفريقيا وشبه الجزيرة العربية. كما تمتلك باريس قاعدة عسكرية ذات أهمية استثنائية في ساحل العاج “قاعدة أبيدجان” البحرية والجوية، باعتبارها القاعدة العسكرية الفرنسية الأكبر المطلة على المحيط الأطلسي، ويرابط فيها نحو 900 عنصر فرنسي، وتوفر منصة استراتيجية، لوجستية وعملياتية رئيسية لباريس على الواجهة الغربية لإفريقيا، والتي من خلالها تصل الإمدادات العسكرية واللوجستية التي لا تُنقل جوًّا إلى مناطق تمركز القوات الفرنسية في منطقة الساحل([4]).
كما أن لدى فرنسا قاعدتين عسكريتين إضافيتين تضمان 350 عنصرًا فرنسيًّا؛ إحداهما في العاصمة السنغالية دكار، والأخرى في ليبرفيل (الغابون)، التي كانت أولى محطات ماكرون خلال جولته الخارجية الأولى عقب إطلاقه الاستراتيجية الجديدة خلال الفترة (1 -5) مارس2023م([5]).
أما بالنسبة للمصالح الاقتصادية لفرنسا في القارة، فلدى باريس أكثر من 1100 شركة كبرى، وأكثر من 2100 شركة متوسطة وصغيرة، كانت بموجبها فرنسا ثالث أكبر محفظة استثمارية بعد بريطانيا والولايات المتحدة في إفريقيا، كما تُعد اللغة الفرنسية اللغة الرسمية في أكثر من 11 دولة إفريقية، وثاني لغة في 10 دول إفريقية أخرى([6]).
ومن ثم، فليس من المنطقي أن تتخلى باريس عن نفوذها ومصالحها في إفريقيا، حتى مع تصاعد الأصوات الإفريقية المعارضة للوجود الفرنسي على أراضيها، لذا اتجهت باريس للبحث عن مخرج من مأزقها السياسي في إفريقيا يضمن لها الحفاظ على مصالحها في القارة، ويمكنها من الصمود في حلبة التنافس الدولي والإقليمي في الساحة الإفريقية.
2- انتكاسة استراتيجية فرنسة إفريقيا
تعرَّضت الاستراتيجية الفرنسية تجاه إفريقيا لانتكاسة مخزية، كان من الممكن أن تقضي على النفوذ الفرنسي في إفريقيا في خِضَمّ التكالب الإقليمي والدولي على القارة، بعدما أنهت باماكو شراكاتها مع باريس بشكل غير لائق للشراكة الاستراتيجية الممتدة على مدار سنوات بينها وبين باريس، واضطرار فرنسا لسحب قواتها من كافة مناطق تمركزها من مالي، وإعادة تمركزها في منطقة الساحل، تبعها طرد بوركينا فاسو القوات الفرنسية من بلادها، هذا إلى جانب تصاعد الأصوات المعارضة للوجود الفرنسي في عدد من دول الساحل، بشكل يُهدد النفوذ والمصالح الفرنسية في القارة، وقد يعرّضها لسلسلة متوالية من الانتكاسات، مما دفَع باريس للبحث عن آلية جديدة لاستعادة مكانتها في القارة، وإعادة تشكيل المنظور الإفريقي لها، ولما تقدّمه من دعم لدول القارة في مكافحة الإرهاب وذلك عبر طرح استراتيجية جديدة تدفع نحو بناء “علاقة ندية” بين باريس ودول القارة على كافة المستويات.
3- حشد دعم إفريقي للموقف الغربي تجاه أوكرانيا
تُعد مناطحة المنافس الروسي والحد من نفوذه المتنامي في إفريقيا عبر مجموعة فاغنر العسكرية الروسية، أحد الدوافع الرئيسية المهمة لإطلاق باريس استراتيجيتها الجديدة تجاه القارة، وإجراء ماكرون جولته الأولى لإفريقيا عقب جولة مكوكية لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في فبراير2023م إلى مالي وموريتانيا والسودان، وسبقها اللقاء في جنوب إفريقيا واريتريا وأنجولا، بعدما دأبت باريس على التنديد بشنّ موسكو حملات إعلامية مضللة ومعادية لباريس في إفريقيا، ساهمت في تحويل المزاج الإفريقي بعيدًا عن باريس؛ حيث ندَّد ماكرون بمجموعة فاغنر ووصفها بأنهم “مرتزقة مجرمون” يتمثل دورهم في “حماية الأنظمة المتعثرة والانقلابية”، واتهمهم بـاستغلال الموارد الطبيعية و”ارتكاب العنف ضد السكان (المحليين)” بما في ذلك الاغتصاب([7]).
فلقد تحولت إفريقيا لساحة تنافس بين كتلتي العالم الشرق (روسيا) والغرب (واشنطن وأوروبا) عقب اندلاع الحرب الأوكرانية؛ حيث تسعى أوروبا إلى البحث عن مصادر للطاقة بديلة عن النفط الروسي، بالإضافة إلى تعزيز الكتلة التصويتية الداعمة للموقف الغربي في إدانته للحرب الروسية على أوكرانيا بعدما كشفت الحرب عن انقسام واسع للموقف الإفريقي من الحرب ما بين داعم لموسكو وآخر رافض للحرب الروسية، وهو ما يُستدل عليه بأن ثلاث دول زارها ماكرون خلال جولته الإفريقية وهي (الغابون والكونغو وأنغولا) امتنعت عن التصويت لصالح القرار الذي صوتت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي يطلب من روسيا سحب قواتها من أوكرانيا([8]).
بينما تهدف موسكو إلى جانب البحث عن موطئ قدم لها في إفريقيا، والاستفادة مما تتمتع به إفريقيا من ثروات طبيعية؛ تهدف إلى تضييق الخناق على التحركات الأوروبية في إفريقيا، وقطع كافة السبل التي تُمكنها من الاستغناء عن النفط الروسي، إلى جانب منافستها في مناطق نفوذها في إفريقيا، لا سيما في قلب مستعمراتها السابقة مثلما هو الحال بالنسبة للانخراط الروسي في مالي وبوركينا فاسو وقبلهما في إفريقيا الوسطى التي تُعدّ مناطق النفوذ التاريخية لباريس.
نهاية القول: تعقد باريس آمالها في استعادة نفوذها ومكانتها في إفريقيا من خلال استراتيجيتها الجديدة ذات الأبعاد الثلاثة؛ الأمنية-العسكرية والاقتصادية والسياسية، وهو على الرغم مما تعكسه من تحول -محدود في حقيقته-؛ إلا أن هناك العديد من التحديات التي تواجهها استراتيجية ماكرون الجديدة تجاه إفريقيا؛ أبرزها صعوبة تحويل الموقف الإفريقي المعارض للوجود الفرنسي في بلاده لصالح باريس، لا سيما بعدما اتخذت بعض الدول الإفريقية سياسات صارمة ضد كل ما هو فرنسي، مثل وقف التعامل باللغة الفرنسية وتغيير المناهج التعليمية مثل روندا، وهو ما يأتي بالتوازي مع اتساع نفوذ مجموعة فاغنر العسكرية الروسية، وهو ما يفرض على باريس من أجل جَنْي أول مقتطفات استراتيجيتها الجديدة تقديم الكثير والكثير من الدعم لدول القارة، اقتصاديًّا وعسكريًّا.
-[1] محمد عبده حسنين، عقبات رئيسية في طريق مساعي فرنسا لإعادة ترميم علاقاتها بإفريقيا، الشرق الأوسط، 28 فبراير 2023م.
[2]– ميشال أبو نجم، فرنسا بين المصالح الاستراتيجية والوجود العسكري في إفريقيا، الشرق الأوسط، 1 مارس 2023م: https://cutt.us/GcqEi
[3] – المرجع السابق.
[4] – المرجع السابق.
[5] – المرجع السابق.
[6] – محمد عبده حسنين، مرجع سبق ذكره.
[7] -SYLVIE CORBET, Macron: ‘New era’ in economic, military strategy in Africa, AP News , 27 February 2023
[8] – محمد عبده حسنين، مرجع سبق ذكره.
.
رابط المصدر: