نحو الصحافة الشاملة: الصحافة من منظور مستقبلي

  • الصادق الحمامي
  • عبد العزيز قطاطة

“مستقبل الصحافة… هو الصحافة”*

مقدمة

ليس هناك شك في أن الصحافة التي تُنْتَج في مؤسسات مخصوصة، وتستخدم منظومات وسائطية وتكنولوجيات، تتأثر بشكل مباشر ومستمر بالتحولات التي تشهدها البيئات التكنولوجية والسياسية والثقافية. وتقتضي دراسة تأثُّر الصحافة والميديا** بسياقاتها مقاربة نظرية صارمة. فالتكنولوجيا ليست دائمًا عاملًا محددًا كما سنرى ذلك في استجابة الصحافة والميديا للتحولات المتعددة التي يمكن أن تشهدها البيئات التي تعمل فيها.

ومن هذا المنظور، فإن عملية استشراف تحولات الصحافة ليست عملية اعتباطية تتمثَّل في “التكهُّن” بما ستكون عليه الصحافة وفق تصورات مُتَخَيَّلة. إن الاستشراف إذن ليس “تخيُّلًا” بما أن التفكير في تطورات الصحافة يخضع إلى معايير صارمة ومنهجية دقيقة. ولهذا السبب، لا نجد في الإنتاج البحثي، الذي تُصدِره المؤسسات والمراكز المتخصصة في دراسة الميديا، ما يفيد مثلًا بأن الاستشراف على المدى البعيد (أكثر من عقد) يُمثِّل تمرينًا فكريًّا متواترًا، أو حتى على المدى المتوسط (أكثر من ثلاث سنوات) يشكِّل اتجاهًا راسخًا في دراسات الصحافة.

وحتى عندما نعثر على مثل هذه المحاولات التي تسعى إلى استشراف مستقبل الصحافة، فإنها تخلص إلى أن الصحافة هي مستقبل الصحافة(1)، ومعنى هذا “التنبُّؤ” المثير هو أن التطوير التكنولوجي والتنظيمي للصحافة مهما كان طابعه، لا يمكن أن يكون إلا في خدمة الصحافة نفسها وغاياتها الكبرى.

وعلى هذا النحو، فإن الغالبية العظمى للتقارير التي تتعلق بالتنبؤات (Predictions) لا تتجاوز عادة أُفُق العام الواحد، كما تُبيِّن ذلك تقارير معهد رويترز الذي يكتفي في تقريره المرجعي عن الأخبار الرقمية برصد أهم الاتجاهات السنوية التي حصلت على مدى عام واحد، وكذلك الأمر بالنسبة للتقرير الخاص بالتنبؤات(2). واكتفى مخبر نيمان للصحافة أيضًا بالمنظور قريب المدى لدراسة تطورات الصحافة. أما التقارير بعيدة المدى فهي نادرة جدًّا. وقد وجد الباحثان تقريرين يتضمنان تنبُّؤات على المدى الطويل: الأول أصدره موقع “بوليتيكو” الإخباري (Politico)، وهو على هذا النحو لا يمكن أن يُمثِّل تقريرًا بحثيًّا علميًّا رغم أنه استند إلى نوع من الاستبيان كما سنرى لاحقًا. أما التقرير الثاني فصدر عن مركز بيو للأبحاث ولا يهتم بصفة مباشرة بالصحافة، بل التكنولوجيات الرقمية وتأثيراتها على الديمقراطية(3).

لذلك، فإن القارئ لن يجد صورة دقيقة عمَّا ستكون عليه الصحافة في العقود المقبلة؛ إذ لا أحد غامر بشكل منهجي وعلمي في عملية الاستكشاف هذه، لأنها بكل بساطة مستحيلة؛ فالصحافة تُمارَس في مؤسسات تتداخل في تشكيل تطوراتها متغيرات عديدة داخلية (خاصة بالصحافة نفسها)، وخارجية (تكنولوجية وسياسية…) تتفاعل فيما بينها بشكل فريد وغير منتظر دائمًا.

أما في العالم العربي، فإن مهمة وضع التنبُّؤات على المدى القريب تبدو أيضًا عويصة، إن لم تكن مستحيلة، في الظروف الحالية وذلك لثلاثة أسباب: أولها: تنوع السياقات السياسية العربية، خلافًا للسياقات الأوروبية التي تشترك في المنظومات القانونية (ذات الطبيعة الديمقراطية)، والأطر المعيارية الكبرى (المواثيق الأخلاقية)، أو حتى ما يُسمَّى سياسات الإعلام (Media Policy) التي تنظم عمل الصحافة. ففي أوروبا، على سبيل المثال، تُسهِم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في خلق مرجعية قانونية مشتركة لتنظيم الصحافة. أما في العالم العربي، فالبيئات السياسية والقانونية تختلف من دولة إلى أخرى؛ مما يجعل من المستحيل فهم تطورات قطاع الصحافة بشكل موحد في كامل السياقات العربية.

أما السبب الثاني، فيهم غياب المعطيات الإحصائية الدقيقة والموضوعية عن الصحافة، خلافًا لما نجده في السياقات الأوروبية والأميركية. فعلى سبيل المثال، لا توجد مؤسسات تقوم بقياس الجمهور في جلِّ الدول العربية، كما أن المعطيات الكمية المتواصلة عن انتشار الصحافة غير متوافرة أيضًا، بل إن معطيات ذات أهمية تتعلق بالموارد البشرية غائبة في كثير من الأحيان.

ويرتبط السبب الثالث بغياب يكاد يكون تامًّا للدارسات المسحية المعتمدة في التقارير البحثية الأوروبية والأميركية، والتي تقوم منهجيتها -كما سنرى في محاور الدراسة- على استطلاع آراء وتقديرات الخبراء المتخصصين والباحثين الأكاديميين. وفي ظل غياب الإحصائيات والمعطيات والدارسات المسحية، يمكن القول: إن الشروط الموضوعية لاستشراف الصحافة في العالم العربي غير متوافرة.

1. منهجية الدراسة

اعتمد الباحثان في استشراف أهم تحولات الصحافة على منهجية رصد تتمثَّل في تتبُّع أهم التقارير الدولية الصادرة عن منظمات دولية، أو مؤسسات ومراكز بحثية، أو مؤسسات أخرى على غرار التقارير الاستشرافية الصادرة عن مؤسسات الميديا نفسها. وعلى هذا النحو، تمثِّل هذه التقارير “المدونة” (corpus) التي سنقوم من خلالها بتشخيص هذه الاتجاهات.

وفيما يلي التقارير التي اعتمد عليها الباحثان:

– التقرير الأول: صادر عن منظمة اليونسكو، سنة 2021، ويحمل عنوان “الصحافة منفعة عامة: الاتجاهات العالمية في حرية التعبير وتطوير وسائل الإعلام: التقرير العالمي 2021-2022”(4)، وهو تقرير جماعي أعدَّه خبراء في المنظمة ومن خارجها. كما تمت الاستعانة في إعداده بمساهمات من معهد اليونسكو للإحصاء، واستندت تحاليل الخبراء على جملة من الإحصائيات والبيانات التي أعدتها مراكز بحثية، أو منظمات دولية على غرار الاتحاد الدولي للاتصالات، أو لجان ومراصد، مثل مرصد اليونسكو لجرائم قتل الصحفيين، ولجنة حماية الصحفيين، ومؤسسات إحصاء خاصة.

– التقرير الثاني: صدر عن مركز بيو للأبحاث، عام 2021(5)، وحمل عنوان “مشروع حالة الميديا الجديدة 2021”. اعتمد التقرير على منهجية مماثلة تقوم على تحليل البيانات والإحصائيات التي تُعدِّها منظمات ومؤسسات عمومية أو خاصة، ويقوم المركز بالتثبت منها. وشمل التقرير ثمانية مجالات، من بينها: الصحف، والتليفزيون المحلي، والأخبار عبر الكابل، والقطاع السمعي والبودكاست. ويعمد المركز في خاتمة كل جزء من التقرير إلى شرح المنهجية المعتمدة فيه، وخاصة الجانب المتعلق بطريقة الإحصاء، وإعداد النسب المئوية، أو تقديم الرسوم البيانية.

– التقرير الثالث: صادر عن مؤسسة “أوفكوم” (OFCOM) البريطانية، في 21 يونيو/حزيران 2022، وهو بعنوان “استهلاك الأخبار في المملكة المتحدة: 2022”(6)، وتُعد “أوفكوم” هيئة تنظيمية لقطاعات الميديا الإذاعية والتليفزيونية والإنترنت والاتصالات في بريطانيا. وتتمثَّل أهمية التقرير في دقة الصورة التي يقدِّمها عن اتجاهات استخدامات الميديا واستهلاك الأخبار؛ إذ شمل جميع المصادر الإخبارية والمنصات المستخدمة والمواقف تجاه مصادر الأخبار الفردية، واستخدام الأخبار الدولية والمحلية. كما شمل التقرير مستهلكي الأخبار من الأفراد البالغين، والأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و15 عامًا. ويُعد مسح استهلاك الأخبار الذي أعدته “أوفكوم” المصدر الرئيسي لهذا التقرير إلى جانب معلومات جرى استقاؤها من وكالة تصنيف التليفزيون “بارب” (Barb) البريطانية.

– التقرير الرابع: صدر عن مخبر نيمان للصحافة والخاص بتنبُّؤات الصحافة خلال سنة 2022(7)، وجمع هذا التقرير أجوبة وتعليقات عينة بلغ عدد أفرادها مئة من الجامعيين والمحررين والمشرفين على صحف ومواقع إخبارية في الولايات المتحدة الأميركية. ويسعى المخبر إلى مساعدة الصحافة في اكتشاف مستقبلها في عصر الإنترنت. ويمُدُّ المخبر يد العون للمراسلين والمحررين للتكيُّف مع عملهم عبر الإنترنت، ومساعدة المؤسسات الإخبارية التقليدية. وتأسست مؤسسة نيمان للصحافة في جامعة هارفارد عام 1938، وهي تدير أقدم برنامج “زمالات” للصحفيين في العالم. وتنشر نيمان أيضًا المجلة الفصلية “نيمان ريبورت” (Nieman Reports)، وهي أقدم مجلة مخصصة لفحص نقدي لممارسة الصحافة.

– التقرير الخامس: تقرير معهد رويترز حول “أخبار الميديا الرقمية لسنة 2021”(8) ويسعى إلى فهم كيفية ظهور الأخبار في مجموعة من البلدان، وقد أجري البحث بواسطة مؤسسة “يوجوف” (YouGov)، التي تُعنى بالبيانات والتحليلات ذات الطابع التسويقي، وعدد من الشركاء باستخدام استبيان إلكتروني في الفترة الممتدة بين نهاية يناير/كانون الثاني وبداية فبراير/شباط 2021. وشارك في الاستبيان مستخدمون للميديا الرقمية ينتمون إلى 46 دولة. واهتم التقرير بتأثير فيروس كورونا في استهلاك الأخبار بالعينة المدروسة، وفي الآفاق الاقتصادية للناشرين، وركز على التقدم الذي تحقق في نماذج الأعمال الجديدة المدفوعة عبر الإنترنت، والثقة والمعلومات المُضلِّلة، والأخبار المحلية، والحياد والإنصاف في التغطية الإخبارية.

– التقرير السادس: صدر عن معهد رويترز في منتصف يونيو/حزيران 2022 حول استهلاك الأخبار الرقمية(9) بناء على استطلاع إلكتروني أجرته أيضًا مؤسسة “يوجوف” لأكثر من 93000 مستهلك للأخبار عبر الإنترنت، وشمل أيضًا مستخدمين من 46 دولة يبلغ عدد سكانها حوالي نصف سكان العالم. ووثَّق التقرير الطرق التي قد تتدهور بها العلاقة بين الصحافة والجمهور، بما في ذلك انخفاض الثقة وتراجع الاهتمام بالأخبار، والطرق المعتمدة في تلك الدول من قِبَل المؤسسات لجذب الجمهور وكيفية وصول الشباب إلى الأخبار.

– التقرير السابع: بعنوان “هل ستندثر الميديا؟” الذي نشره موقع “بوليتيكو”(10)، في 21 يناير/كانون الثاني 2022. وهو موقع إخباري أميركي متخصص في الشؤون السياسية الأميركية، وينشر تقارير مستقبلية تتعلق بعدة مجالات. يسعى التقرير إلى فهم إشكالية استمرار (أو مستقبل) الميديا في البيئة الرقمية الجديدة التي تتسم بإستراتيجيات السيطرة التي تمارسها الشركات التكنولوجية الكبرى، وعودة الروح إلى الصحافة المحلية. واستند التقرير إلى شهادات 16 خبيرًا وباحثًا وصحفيًّا.

– التقرير الثامن: صدر عن مركز بيو للأبحاث ويهتم بمستقبل الفضاءات الرقمية وأدوارها في الديمقراطية(11)، في فبراير/شباط 2022. ويقدِّم توقعات عينة من المبتكرين والمُطوِّرين وقادة الأعمال والسياسات والباحثين والناشطين في الولايات المتحدة الأميركية بلغ عددهم 862 شخصًا حول مستقبل الفضاءات الرقمية. وقد أجاب أفراد العينة على سؤال طرحه مركز بيو للأبحاث بالتعاون مع “إيماجنين ذا إنترنت سنتر” (Imagining the Internet Center): هل سيتم تغيير الفضاءات الرقمية واستخدامها بطرق تخدم الصالح العام بشكل كبير في نهاية 2035؟

– التقرير التاسع: وهو بعنوان “اتجاهات وتوقعات الصحافة والميديا والتكنولوجيا لعام 2022”(12) الصادر عن معهد رويترز، في يناير/كانون الثاني 2022. واستند الباحث نيك نيومان (Nic Newman) في توقعاته إلى مخرجات استبيان شارك فيه 246 من المتدخلين في الإنتاج الصحفي في 52 دولة ومنطقة، والذين قاموا بالرد على أسئلة تتناول التحديات والفرص الرئيسية في العام 2023. وكان من ضمن المبحوثين 57 من رؤساء التحرير، و53 من الرؤساء التنفيذيين أو المديرين الإداريين، و31 من رؤساء الشركات الرقمية ومن بعض شركات الإعلام التقليدية الرائدة في العالم، وكذلك المنظمات الرقمية. واستند التقرير إلى منهجية اعتمدت صحيفة الاستبيان التي شملت المتدخلين في الإنتاج الصحفي والإعلامي والرقمي، الذين ينتمون لدول يقارب عدد سكانها نصف سكان المعمورة. واختلفت هذه المنهجية عن منهجيات التقارير السابقة التي اعتمد أغلبها على تحليل المعطيات والإحصائيات بشكل أساسي.

2. الاتجاهات الراهنة للصحافة في العالم

2.1. تراجع الصحافة الورقية وعائدات الإشهار والاستثمارات

مثَّلت جائحة كورونا، التي انتشرت في جميع دول العالم بشكل سريع منذ مطلع العام 2020، سببًا رئيسيًّا في تراجع الصحافة الورقية في جميع الدول بسبب الحجر الصحي التام أو الجزئي الذي تم فرضه. وأكد تقرير منظمة اليونسكو هذا التأثير الكبير لانتشار كورونا، حيث عجَّل الوباء بتراجع قدرة الميديا الإخبارية على الاستمرار ماليًّا، وانخفض معدل توزيع الصحف عالميًّا، سنتي 2019 و2020، بنسبة 13% مقابل انخفاض سابق بلغ 3% بين عامي 2018 و2019(13).

وفي السنتين الأخيرتين (2020 و2021)، واجهت الصحف المحلية بدورها صعوبات، وهي التي تُعد مصدرًا رئيسيًّا للأخبار في الدول الغربية بشكل خاص. ودرس تقرير معهد رويترز لسنة 2021 وضعية الصحافة المحلية(14) في ست دول، وهي: النرويج، والولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وتشيلي، واليابان، وألمانيا، وذكرت الباحثة آن شولز (Anne Schulz) أن الصحافة المحلية كانت في الماضي تُعد مصدرًا مهمًّا وواسعًا للأخبار والمعلومات المحلية، لكن هذا الأمر تغيَّر وأصبح مستخدمو الإنترنت يفضلون المنصات والمواقع المتخصصة. ولذلك، فإن “التفكيك الكبير” زاد من ضعف النماذج الاقتصادية التقليدية، وبقيت الصحافة المحلية متصدرة فقط للأخبار الخاصة بالسياسة المحلية لامتلاكها عدة مؤهلات. ونظرًا إلى المنافسة التي تواجهها الصحافة المحلية من قِبَل المنصات والبدائل الرقمية والمحلية الأخرى، فإن حصة اهتمام الصحافة الإخبارية، ومن ثم الإعلان والقراء، ستكون مختلفة تمامًا عن الماضي الذي كانت فيه الصحف تهيمن بشكل خاص على أسواق الإعلام المحلية(15).

و”تغيرت” الصحافة المحلية اليوم جزئيًّا بسبب التغييرات الكبرى الجارية في البيئة الإعلامية، واعتبر الأكاديمي راسموس كلايس نيلسن (Rasmus Kleis Nielsen) أن هذا التحول يضع مستقبل الصحافة المحلية، كما عُرِف سابقًا، موضع تساؤل، لأن نماذج الأعمال التي دعمت المهنة لأكثر من قرن تتعرض لضغوط هائلة، ولأن الأهمية الاجتماعية لفئات مثل “الأخبار” و”الصحافة” التي أخذت كأمر مسلَّم به تبدو أحيانًا في “حالة تغير مستمر”(16).

إن البيئة الرقمية تسمح، بحسب نيلسن، بظهور أشكال جديدة من الصحافة المحلية، لكن قلة منها تمكنت حتى الآن من إدراك هذه الإمكانات، وإنشاء أشكال مستدامة من الصحافة المحلية الرقمية الوليدة. ومن الممكن أن توفر الإنترنت أشكالًا مختلفة من إنتاج المعلومات الموزعة والمشاركة والصحافة الشبكية في المستقبل، لكن هذا الأمر يبقى افتراضيًّا إلى حد كبير. كما أن تداول الصحف الورقية سيستمر في الانخفاض مثلما هي حال انخفاض عدد القراء، وتآكل الإيرادات، وتراجع الاستثمارات في الصحافة المحلية(17).

وبغض النظر عن الصور الرومانسية، يرى الباحثون أن الصحافة المحلية الموجودة حاليًّا غالبًا ما تكون سطحية في تقاريرها، ولم تعد جزءًا لا يتجزأ من حياة المجتمع، وتبقى هذه الانتقادات مهمة لفسح المجال للتحسين. وعلى الرغم من أن الصحافة المحلية بعيدة عن المثالية -كما تشير بعض الأبحاث- توجد هناك أدلة دامغة على أن هذا النمط غالبًا ما يكون ذا نفع، ويساعد الناس على متابعة الشؤون العامة المحلية، ويتيح أشكالًا نشطة من المشاركة المدنية والسياسية(18).

وأظهر تقرير لمؤسسة “أوفكوم” البريطانية، أُنْتِج خلال الفترة الممتدة بين نوفمبر/تشرين الثاني-ديسمبر/كانون الأول 2021 ومارس/آذار-أبريل/نيسان 2022، أن الصحف الورقية أو التي تسوق عبر الإنترنت في بريطانيا شهدت في 2022 انخفاضًا بنسبة 38%، وكانت تلك النسبة بلغت 47% في 2020. ولاحظ التقرير أن هذا الانخفاض في الصحف الورقية -وإن بقي ثابتًا بالنسبة للصحف الإلكترونية- قد يكون تفاقم بسبب انتشار وباء كورونا(19).

وفي الولايات المتحدة الأميركية، تعرضت الصحف التي تُعد جزءًا مهمًّا من المشهد الإخباري لأزمة شديدة مع تزايد عدد الأميركيين الذين يستهلكون الأخبار رقميًّا، وشهدت الوضعية المالية لهذه الصناعة وقاعدة المشتركين في الصحف انخفاضًا منذ منتصف العقد الأول من القرن 21، ولكن حركة جمهور الصحف على الويب بدأت مرة أخرى في النمو(20).

وتأكيدًا على هذا المنحى التنازلي، تتوقع شبكة “برايس ووترهاوس كوبرز” (PricewaterhouseCoopers)، والتي تقدِّم خدمات واستشارات في مجالات الضمان والضرائب وتعزيز القيمة للعملاء، في تقرير لها عن التوقعات العالمية لوسائل الإعلام والترفيه 2021-2025، أن معدل الصحف الورقية عالميًّا سيواصل الانخفاض خلال السنوات الثلاث 2022 و2023 و2024 على النحو التالي -1.4% و-1.9 %و-2.2%(21).

وللتدليل على تراجع عائدات الإشهار، التي تُعد العصب الرئيسي لاقتصاديات الصحف، سواء المطبوعة أو على الإنترنت، ووفقًا لإحصائيات مركز بيو للأبحاث، فإن إجمالي عائدات الإعلانات في صناعة الصحف بالولايات المتحدة الأميركية بلغ حوالي 9.6 مليارات دولار في العام 2020. وقد انخفضت هذه العائدات المالية بنسبة 25% عن عام 2019 الذي شهد تسجيل 11 مليار دولار(22).

ووفقًا لتقرير اليونسكو، تمر النماذج التقليدية للعديد من مؤسسات الصحافة بأزمات. فعلى الصعيد العالمي، تستمر مبيعات الصحف في الانخفاض، وتكافح المؤسسات للحصول على عائدات إعلانية، ووجدت العديد من تلك المؤسسات نفسها تتعرض لضغوط متزايدة بسبب انتشار “غرف الصدى” (Echo Chambers) في الإنترنت وخوارزميات الوسطاء الرقميين، في وقت تضاعف فيه عدد مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي مرتين تقريبًا، من 2.3 مليار مستخدم عام 2016 إلى 4.2 مليارات مستخدم عام 2021(23).

لقد أثَّرت إذن هذه العوامل مجتمعة (جائحة كورونا، وتراجع الاستثمارات وعائدات الإشهار) في تراجع مداخيل الصحفيين والعاملين في القطاع الإعلامي. ونقل تقرير منظمة اليونسكو عن إحصائيات للمركز الدولي للصحفيين -استنادًا لاستبيان أُنجِز خلال فترة جائحة كورونا وشارك فيه 1400 صحفي- أن 65% من المشاركين في الاستبيان قالوا إنهم شعروا بأنهم أقل أمنًا في وظائفهم الحالية. كما قال خمس (1/5) المستجوبين (21%) أنه تم فعلًا التخفيض من رواتبهم جرَّاء الجائحة(24).

2.2. المنصات الاجتماعية تزاحم الميديا الرقمية  

لم تكن جائحة كورونا العامل الوحيد الذي أثَّر في تطورات واقتصاديات الميديا التقليدية، خاصة الصحف والتليفزيون والإذاعة، بل أسهمت منصات الإنترنت في مزاحمة الميديا الرئيسية. وازدادت الفجوة بين الميديا الرئيسية والميديا الاجتماعية اتساعًا بشكل لافت، وفقًا لدراسة مسحية اهتمت بمسألة استهلاك الأخبار في 46 دولة أنجزها معهد رويترز(25). وأظهرت الدراسة أن قلَّة من مستعملي شبكات التواصل الاجتماعي، عدا تويتر وفيسبوك، تستعمل تلك المنصات للوصول إلى الأخبار باستثناء أخبار المشاهير والترفيه والمنوعات.

وفي المملكة المتحدة، تخطت منصات الميديا الاجتماعية القنوات التقليدية للأخبار بين المراهقين(26)، وأصبحت مواقع إنستغرام وتيك توك ويوتيوب المصادر الثلاثة الأكثر استخدامًا للأخبار. وفي الوقت نفسه، شهد العديد من المصادر الرئيسية التقليدية انخفاضًا منذ عام 2021، مثل قناتي “بي بي سي الثانية” (BBC Two)، و”بي بي سي الأولى” (BBC One)، إلى 24% عام 2022.

وذكر عدد من مستخدمي فيسبوك، في الاستبيان الذي أجراه معهد رويترز في 2021، أنهم “اطلعوا على الأخبار أو المعلومات بالصدفة”، وعلى النقيض من ذلك غالبًا ما يُنظر إلى تويتر باعتباره أكثر من وجهة أساسية للأخبار، في حين يتم تقييم الشبكات الأخرى، مثل يوتيوب وإنستغرام وسناب شات وتيك توك، على أنها تهدف إلى الترفيه والمتعة وكذلك نشر بعض الأخبار.

وقدَّمت الباحثة، سيمج آندي (Simge Andı)، بريطانيا مثالًا على ذلك، حيث لاحظت أن 21% من الأشخاص الذين يستخدمون تويتر للحصول على الأخبار يقولون إنهم يفعلون ذلك، لأنه “مكان جيد للوصول إلى آخر الأخبار”، لكن هناك نسبة صغيرة تستخدم تويتر للحصول على الأخبار في المقام الأول ويعادل ذلك 3% فقط من سكان المملكة المتحدة. في المقابل، فإن العديد من المستخدمين يعتبرون يوتيوب “منصة يجد فيها البعض وجهات نظر بديلة” (26% من مستخدمي أخبار يوتيوب)، بينما يستخدمه الآخرون للمتعة والترفيه (15%)(27).

إن مستهلكي الأخبار انطلاقًا من منصات الميديا الاجتماعية، مثل فيسبوك، يرون أن تلك الشبكات تضمن لهم الحوار والتعليق، وتبلغ نسبتهم 56%، وتُبرِز الدوافع السياسية والاجتماعية للمستخدمين “فروقات واختلافات” بينهم، فنجد على سبيل المثال شبكة اجتماعية يتم استخدامها “بالمصادفة” للأخبار في الدول الغربية، ولكنها تكون وجهة رئيسية للأخبار في دول النصف الجنوبي للكرة الأرضية(28).

وفي هذا الصدد، وأمام التأثيرات الاجتماعية التي تنتج عن منصات الميديا الاجتماعية، وخاصة تلك المتعلقة بتهديد قدرة الناس على تقاسم المعلومات والمعطيات الضرورية للنقاش العام في المجال العمومي، تقترح راني أرونسون راث (Raney Aronson-Rath)، المنتج التنفيذي لــ”فرونتلاين” (Frontline)، أن “تقوم شركات التكنولوجيا بمراقبة ومحاسبة نفسها، وهو ما لا تقوم به في كثير من الحالات”. وتقترح أيضًا أن يقوم الصحفيون باستخدام الأدوات المتاحة للحفاظ على القدرة على تقاسم المعلومات والمعطيات الضرورية لبناء واقع مشترك في مواجهة نمو التهديدات العالمية، ومحاولة تسخير التكنولوجيا مسرِّعًا للحقيقة في بيئة عالمية عوضًا عن تسهيل المعلومات المُضلِّلة(29).

يتجاوز المشهد الذي يتجلى هنا، وفق تقرير اليونسكو، أسبقية الميديا الرئيسية أو التقليدية أو المنصات لوصول المستخدمين إلى الإخبار، ليشمل العائدات المالية للإعلانات والتي تحولت بسرعة نحو شركات الإنترنت عوضًا عن الميديا الرئيسية. ففي الوقت الراهن، تحصد شركتا، غوغل وفيسبوك، ما يقارب نصف إجمالي الإنفاق العالمي على الإعلانات الرقمية وذلك استنادًا إلى بيانات شركة زينيث (Zeneth). وانخفضت عائدات الإعلانات في الصحف العالمية إلى النصف في السنوات الخمس الماضية، وعندما جرى تحليل هذه الخسارة على مدى السنوات العشر الماضية، بلغت نسبة هائلة وصلت إلى الثلثين.

وكانت لهذا الانخفاض تداعيات كبيرة شملت عامة المستهلكين في جميع أنحاء العالم، والذين يبحثون عن مصادر أخبار محلية موثوق بها، ليُترَكوا، وفق تقرير اليونسكو، في “صحاري الأخبار” (News Deserts)؛ فعندما “تفقد المجتمعات المحلية مصادرها الإخبارية المحلية تتدهور مستويات المشاركة المدنية”(30).

إن هذه الهيمنة للمنصات لم تكن وليدة السنتين الأخيرتين 2021 و2022، بل إن لها امتدادًا في الزمن يعود إلى منتصف 2010، وهو العام الذي تميز بظاهرتين رئيسيتين للمعلومات عبر الإنترنت: الانتقال إلى الأجهزة المحمولة من ناحية، ثم اللجوء إلى الخدمات المخصصة للاستشارة عبر الهاتف المحمول من ناحية ثانية، وحدثت حركة مماثلة في بلدان أخرى، منها فرنسا عام 2015.

وأدى هذا التحول من الاستشارة على الأجهزة المحمولة إلى إبراز تقاطع ممارسات المعلومات مع ممارسات الاتصال (المحادثة وتبادل الصور ومقاطع الفيديو…)، والتي تم استغلالها من قِبَل مشغلي منصات الميديا الاجتماعية. وبلغت هذه الممارسة مستويات عالية؛ إذ وصلت إلى 68% لدى المواطنين الأميركيين في العام 2018 و45% لدى الفرنسيين في العام 2017.

وتتزامن هاتان الظاهرتان، أي الانتقال إلى الأجهزة المحمولة واللجوء إلى الخدمات المخصصة للاستشارة عبر الهاتف المحمول، مع إطلاق “سناب شات ديسكفر” (Snapchat Discover)، في يناير/كانون الثاني 2015، وظهرت في مايو/أيار من السنة نفسها مقالات فيسبوك الفورية (Facebook Instant Articles)، كما ظهرت في الشهر ذاته خدمة “آبل نيوز” (Apple News).

ويعتبر البعض أن هذه الخدمات جاءت ردَّ فعل على “نشاز الميديا” الذي لوحظ عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 بالولايات المتحدة الأميركية. وتوضح هذه الخدمات الرمزية بشكل عام قدرة تكنولوجيا المعلومات على إدارة تدفقات المعلومات المتعددة عبر الإنترنت، وتنظيم المشاورات الفردية من قِبَل مستخدمي الإنترنت، بعبارة أخرى: لضمان نشاط الميديا(31).

2.3. تحديات تواجه الصحافة كمرفق عمومي  

اعتبر تقرير لليونسكو حول الاتجاهات العالمية لحرية التعبير وتطوير الميديا (2021-2022) أن إعلام المنفعة العامة الحقيقي (Public Good) يتعرض وباستمرار لضغوط حتى يخدم الحكومات أو المصالح التجارية، كما أنه يبقى عرضة بشكل خاص للاستيلاء عليه. ويرى التقرير أن تلك الخدمة أو المنفعة العامة للصحافة تتمثَّل في تزويد المواطنين بمعلومات موثوق بها تقوم على حقائق يحتاجون إليها للمشاركة في مجتمع حر ومنفتح. ويؤكد التقرير أن الصحافة تعمل في الوقت ذاته جهة رقابية مستقلة ومسؤولة، وهو ما يتطلب العمل في ظروف سياسية واقتصادية ملائمة حتى يتمكَّن إعلام المنفعة العامة من إعداد أخبار وتحليلات مستقلة وجيدة وجديرة بالثقة.

ولا تُعتبر ميديا المنفعة العامة كافية في حدِّ ذاتها لتحقيق التعددية المنشودة، والتي تتطلب تنوع نماذج التمويل ومؤسسات الميديا المتنافسة والمتكاملة، بما في ذلك الميديا التجارية والمجتمعية، ورغم ذلك “تبقى ميديا الخدمة العامة الحقيقية وسيلة أساسية تستطيع الصحافة من خلالها أن تخدم كمنفعة عامة أساسية”(32).

وإزاء هذه المتغيرات، يعتبر تقرير اليونسكو أن الصحفيين يقومون في مواجهة هذه الاتجاهات بـ”تجارب على أفكار وتقنيات مبتكرة، ونماذج تشغيلية للحفاظ على استمرارية الأخبار واستقلالها”، ومن ضمن هذه التجارب والإمكانات يشير التقرير إلى الإعفاءات الضريبية، والإعانات المباشرة، والتمويل الخيري، والنماذج غير الربحية )بالاعتماد أيضًا على خبرات الإذاعة المجتمعية(. وقد بدأت نماذج التمويل المبتكرة في الظهور بالفعل، بما فيها نماذج التمويل لدعم إعلام المنفعة العامة(33).

ويرى تقرير اليونسكو أن البعض بدأ وبشكل أكبر يركز على نماذج الاشتراك أو العضوية لجمع الإيرادات مباشرة من الجمهور، وأن شبكات مثل الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، ومشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد، وشبكة “إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية”(أريج)، بدأت في العمل على إيجاد السبل للعمل معًا على نحو أكثر كفاءة وأمنًا(34).

ومن أجل الحفاظ على مهمة الصحافة منفعةً عامة، ينبغي -بحسب تقرير اليونسكو- على الحكومات والمجتمع الأهلي والقطاع الخاص اتخاذ إجراءات عاجلة لتعزيز الصحافة الجديرة بالثقة، وخلق بيئة أفضل تمكِّن الميديا من الاستمرار فيما تظل ملتزمة بمعايير الاستقلالية التحريرية وحرية التعبير. ومن دون ذلك لن يكون من الممكن ضمان ما تقدمه الصحافة، وتوسيع نطاقها منفعة عامة في إطار النمو المستمر لهذا المزيج من وسائل التواصل.

2.4. جمهور في تغير دائم وتراجع في نسب الثقة

شهدت الثقة في الميديا التقليدية كمصادر للمعلومات، خصوصًا في العامين 2021 و2022، “تراجعًا” وفق تقرير اليونسكو. فبعد أن كانت نسبة الثقة 65%، عام 2019، تراجعت وانخفضت، عام 2021، بحوالي 12 نقطة لتستقر عند 53% فقط. وشمل ذلك منصات الميديا الاجتماعية التي شهدت بدورها تراجعًا في الثقة خلال السنوات الثلاث الماضية (2019 و2020 و2021) بشكل متدرج 43% (2019)، 40% (2020)، وأخيرًا 35% (2021).كما تراجعت ثقة المستخدمين في محركات البحث المعروفة، وبعد أن استقرت تلك الثقة عند 65%، بين عامي 2017 و2019، تراجعت نسبة الثقة إلى ما دون 56%، سنة 2021.

ولئن شهدت المصادر الإخبارية الجديرة بالثقة زيادة كبيرة في عدد قرائها ومشاهديها أثناء أزمة كورونا إلا أنها عانت من نواح كثيرة؛ فقد وجَّهت لها الجائحة ضربة قوية للأسس الاقتصادية المتزعزعة أصلًا في قطاع الميديا الإخبارية، وزادت من الاتجاه السائد في انخفاض إيرادات الإعلانات، وفقدان الوظائف وإغلاق غرف الأخبار. ومن جانب آخر، وفرت الجائحة أيضًا “الغطاء” للتستر على الانتهاكات المرتكبة بحق حرية الصحافة.

وفي هذا الصدد، أشار تقرير اليونسكو، استنادًا لدراسة أجراها معهد “فارييتي أوف ديموكراسي” (Varieties of Democracy)، عام 2021، وشملت 96 بلدًا من أصل 144، إلى أن التدابير التي اتخذتها تلك الدول للحد من انتشار جائحة كورونا أسهمت في تبرير انتهاكات كبيرة ارتكبت بحق حرية الصحافة في كل منطقة من مناطق العالم.

2.5. انتشار متواصل للأخبار الزائفة والمضللة 

في مقابل تراجع الثقة في الميديا التقليدية بالعالم، انتشرت في السنوات الماضية المعلومات المُضلِّلة بنسبة 57% عالميًّا، وفق نتائج دراسة استقصائية أجريت في 2019 وشملت 142 بلدًا. وكانت القارة الإفريقية أكثر المناطق خوفًا وفزعًا من انتشار المعلومات المُضلِّلة؛ حيث بلغت نسبة الخوف 74%، تلتها أميركا اللاتينية بنسبة 68%. وتُبذَل حاليًّا الجهود -كما لاحظ تقرير اليونسكو- لتطوير أدوات التحقق والتحري على شبكة الإنترنت للقراء والمنصات وشركات الإعلان بهدف تحديد المصادر الجديرة بالثقة بشكل أفضل ومنحها الأفضلية. وتمَّ في عدد من البلدان توفير الدعم الطارئ لوسائل الإعلام في ظل تفشي فيروس كورونا.

وبخصوص انتشار المعلومات المُضلِّلة على المنصات، اعتبرت الأكاديمية زيزي باباكاريسي (Zizi Papacharissi)، أستاذة الاتصال والعلوم السياسية بجامعة إلينوي في الولايات المتحدة، أن المشكلة ليست فقط أن فيسبوك والمنصات الأخرى تنشر وتضخم المعلومات الخاطئة والمُضلِّلة، بل إن المشكلة -حسب تقديرها- تكمن في مشاركة وتضخيم ما هو موجود بالفعل من قِبَل هياكل الوسائط الحالية، والتي لها إرث أطول وأكبر من تاريخ فيسبوك والمنصات الأخرى(35).

وتقوم تلك الوسائط بالتعليق على المعلومات المُضلِّلة والمغلوطة وتعيد تدويرها. وتساءلت الأكاديمية باباكاريسي في هذا السياق قائلة: لو تمت إزالة منصات، فيسبوك وتويتر وريديت، من معادلة نشر وتضخيم المعلومات الخاطئة والمُضلِّلة، ألن تقوم قناة “فوكس نيوز” الإخبارية مثلًا بتضخيمها؟

ورأت أنه يجب عدم تشتيت الانتباه والتغافل عن المشكلة الأساسية التي لا ترتكز فقط على الخوارزميات التي تحتاج إلى تدقيق، بل تكمن في تجاوز الهيكل القائم على الربح لوسائل الإعلام الإخبارية، واعتبرت أن “هناك طريقة لكسب المال والبقاء مخلصين لقيم الأخبار الراسخة ديمقراطيًّا في نفس الوقت ذلك”(36).

2.6. زيادة إيرادات الميديا

مثَّلت زيادة المداخيل المالية للميديا، وتحسن الإيرادات، التوجه الأول الذي توصل إليه الباحث نيك نيومان، وهو ما يُعد مفارقة في حد ذاته مقارنة بما توصلت إليها تقارير سابقة. ووفق الاستبيان الذي أجراه نيومان، زادت مداخيل الناشرين خلال سنة 2021 رغم جائحة كورونا، وذكر 59% من المبحوثين أن إيراداتهم زادت خلال العام الماضي على الرغم من أن 54% منهم أبلغوا أيضًا عن مشاهدة ثابتة أو متراجعة للصفحات. كما أفاد الناشرون أن عائدات الاشتراك زادت بدورها، وازدهر الإعلان الرقمي مع زيادة عدد الأشخاص الذين يشترون عبر الإنترنت.

وخلص نيومان إلى أنه على الرغم من استمرار جائحة كورونا خلال سنة 2021، وزيادة تآكل مصادر الإيرادات التقليدية، مثل عمليات الطباعة، إلا أن صناعة  الصحافة والميديا “أظهرت قدرة على التكيف مع تسارع تدفقات الإيرادات الرقمية الجديدة”، مثل الاشتراك والتجارة الإلكترونية والأحداث الرقمية على مدار الـ18 شهرًا الماضية، في وقت قام فيه المستهلكون بنقل إنفاقهم عبر الإنترنت خلال الجائحة ونما بالتالي الإعلان الرقمي بأسرع معدل له على الإطلاق (30% سنويًّا) في عام 2021، ويمثِّل هذا الإنفاق الآن حوالي ثلثي (64%) إجمالي الإنفاق الإعلاني.

ويُرجع أصحاب المؤسسات هذا التحسن في المداخيل المالية إلى نماذج الاشتراك والعضوية التي تم اتباعها مؤخرًا، والجهود التي بُذِلت في مجال الاقتصاد من أجل استقطاب المواهب في التحرير والرقمنة، بالإضافة إلى عمليات الاندماج والاستحواذ التي سُجلت العام الماضي للحصول على النفوذ مع المعلنين، والمنافسة أمام هيمنة الإعلانات على موقعي غوغل وفيسبوك(37).

2.7. تطوير المبتكرات الجديدة

خلال سنة 2021، عمل الناشرون على ابتكار وتطوير منتجاتهم، وركزت بعض مؤسسات الميديا على الإعلانات والاشتراكات، واعتمد نجاح كلا النموذجين في النهاية على المشاركة العميقة للمستخدمين عبر مواقع الويب والتطبيقات والرسائل الإخبارية والبودكاست. واتجهت معظم الجهود هذا العام صوب البودكاست والصوت الرقمي (80%)، يليه بناء وتجديد الرسائل الإخبارية (70%)، وتطوير أشكال جديدة من الفيديو (63%).

وبعد قرابة العامين من انتشار جائحة كورونا، شهدت غرف الأخبار عددًا من التغييرات، مثل عمل الصحفيين “عن بُعد”؛ ما دفع الناشرين -وفق نيومان- إلى غلق بعض المقرات، وإعادة التفاوض بخصوص عقود العاملين، وهو ما خلق فرصًا لظهور مناهج جديدة للأخبار مع تنوع أكبر ومواجهة أقل(38).

وأظهرت نتائج الاستبيان في هذا الصدد أن معظم كبار المديرين (57%) يشعرون أنه يجب على الصحفيين التمسك بنقل الأخبار عند استخدام الميديا الاجتماعية، مثل تويتر وفيسبوك، لكن حوالي 38% من الصحفيين يشعرون أنهم يجب أن يكونوا قادرين على التعبير عن آرائهم الشخصية علنًا(39).

وشكَّل التنظيم الحكومي والخصوصية ومستقبل المنصات أبرز مخرجات الاستبيان والتوقعات بخصوص وضع الصحافة والميديا خلال سنة 2022 في وقت مارست فيه أكبر شركات التكنولوجيا العملاقة تأثيرات كبرى. وتتمثَّل المقترحات في مكافحة الاحتكار ودعم الخصوصية والسلامة. ففي الولايات المتحدة، موطن أكبر شركات التكنولوجيا، تغيرت المواقف من منصات الميديا الاجتماعية خلال العام 2021 بعد اقتحام مبنى الكابيتول من طرف أنصار الرئيس السابق، دونالد ترامب، وتعطيل الديمقراطية الأميركية، والتي نُسبت جزئيًّا على الأقل إلى الميديا الاجتماعية. وأدى الكشف عما يُسمَّى بأوراق فيسبوك، والتي سربتها مهندسة البيانات السابقة بالمنصة فرانسيس هوغن (Frances Haugen)، إلى زيادة الضغط على هذه المنصة، بعد أن تبيَّن، وفقًا للتسريبات، أن المديرين التنفيذيين بها وضعوا الأرباح قبل جهود القضاء على خطاب الكراهية والمعلومات المُضلِّلة.

وفي أوروبا، تصاعدت الأصوات والدعوات المتعلقة بتنظيم المنافسة بين مؤسسات الإعلام التقليدية والمنصات الرقمية، ويعمل العديد من الحكومات الأوروبية حاليًّا، ومن ضمنها بريطانيا، على سنِّ قوانين خاصة بالأسواق الرقمية والسلامة عبر الإنترنت بهدف “امتلاك صلاحيات تشريعية جديدة لمعاقبة منصات الويب التي تفشل في الحد من المحتوى غير القانوني”(40).

من جانبهم، يعمل الناشرون حاليًّا للحصول على المزيد من مستحقات حقوق الطبع والنشر للأخبار من المنصات التي تستخدم أو ترتبط بتلك المحتويات. وأدت جماعات الضغط المكثفة إلى توجيه حقوق النشر في أوروبا وقانون مساومة الأخبار في أستراليا، ونتيجة لذلك تلقت بعض المؤسسات الإخبارية الكبيرة في فرنسا وأستراليا مبالغ كبيرة لترخيص المحتوى(41).

2.8. الذكاء الاصطناعي

من المتوقع خلال السنوات المقبلة، واستنادًا إلى تجارب بعض المؤسسات، أن تواصل مؤسسات الميديا، مثل “وول ستريت جورنال” (The Wall Street Journal)، و”بي بي سي” (BBC) وغيرها، المراهنة على الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) وسيلة لتقديم تجارب أكثر تخصيصًا وكفاءة. ونشير هنا إلى فوز صحيفة “بوسطن غلوب” (The Boston Globe)، سنة 2021، بجائزة “بوليتزر” للصحافة الاستقصائية عن قصة تتناول حوادث الطرق وأساليب الوقاية منها في الولايات المتحدة(42). وقد استخدم الصحفيون أداة “بنبوينت” (Pinpoint)، وهي أداة ذكاء اصطناعي طورتها مؤسسة غوغل لدعم الصحفيين الاستقصائيين لتحديد الأنماط في بياناتهم. ووفقًا للبيانات التي جمعها الباحث نيومان، فإن 85% من المشاركين في الاستبيان يرون أن هذه التقنيات ستكون مهمة لتوصيات محتوى أفضل، ويعتقد 81% منهم أن تلك التقنيات مهمة لأتمتة غرفة الأخبار، بينما يرى أكثر من الثلثين (69%) أن الذكاء الاصطناعي مهم في جانب الأعمال للمساعدة في جذب العملاء والاحتفاظ بهم(43).

ومع ظهور الذكاء الاصطناعي في خمسينات القرن الماضي، توالى استخدام الحواسيب والأساليب الحاسوبية على نطاق واسع في الصحافة منذ الستينات مع ظهور التقارير التي يتم إعدادها بمساعدة الكمبيوتر وأدوات الذكاء الاصطناعي. وتبنَّت الصحافة في غرف الأخبار الإمكانيات التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، لكن الهدف الأساسي ليس استبدال العمل الصحفي والصحفيين، بل الاعتماد المعقول على الأتمتة، وصياغة المنتجات الصحفية من خلال “التأليف الهجين” بين الذكاءين، الاصطناعي والبشري، جزءًا من التعاون بين الصحفيين والآلات لمساعدة الذكاء البشري على فهم العالم(44).

واعتبر الأكاديمي جايسون وايتيكر (Jason Whittaker)، في كتابه “عمالقة التقنية والذكاء الاصطناعي ومستقبل الصحافة”، أن تحديات رقمنة الصحافة وهيمنة الخوارزميات عليها تحتاج إلى “وعي أكبر”، كما تحتاج إلى “تأهيل وتدريب للعنصر البشري من أجل التفاعل مع التحديات التي يفرضها تغوُّل التقنية والخوارزميات”. وفي هذا السياق، يرى وايتيكر أنه من الضروري جعل الأتمتة والبرمجة وسيلة لمساعدة الذكاء البشري في فهم هذا العالم بشكل ينفع البشرية بدل تحويله إلى أداة ضد الصحافة(45).

واعتمدت مؤخرًا شركات التكنولوجيا الكبيرة -بحسب وايتكر- على خوارزميات معينة لإدارة تدفق البيانات خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، وأيضًا خلال استفتاء البريطانيين حول انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. وقد أثر ذلك الاستخدام بالضرورة على الأخبار وطريقة صياغتها وتحريرها وانتشارها، وجعلها تعمل تحت سلطة الخوارزميات التي تحدد طبيعتها ومدى تأثيرها، أي إنها أصبحت “حارس بوابة” جديدًا.

وتحتاج الصحافة، وفق آراء باحثين آخرين، إلى مهندسين مبتكرين يمكنهم الاستفادة من قوة الذكاء الاصطناعي، لأن صناعة الصحافة “مليئة بالتحول”. ويرى الأكاديمي جيريمي جيلبرت (Jeremy Gilbert)، أستاذ في إستراتيجية الوسائط الرقمية بجامعة نورث ويسترن للمهندسين بالولايات المتحدة، أن الحاجة الماسة لوجود صحافة أفضل وأكثر جودة تتطلب أن تكون صناعة الصحافة قادرة على التوسع في عدد من الاتجاهات المختلفة التي لا يمكن سبرها دون اعتماد ودمج للأتمتة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي(46).

ويتوقع جيلبرت أن تُحدِث الأتمتة وأبحاث الذكاء الاصطناعي “ثورة في الصحافة” من خلال ثلاثة مجالات، وهي: إعادة تصور هيكل ومضمون القصص الصحفية، وحاجة المراسلين إلى أدوات أفضل، أما المجال الثالث فيتمثَّل في أن تكون التجارب الإخبارية أكثر تخصيصًا.

في المقابل، يرى شق آخر من الأكاديميين المختصين، ومنهم بيلا بالومو (Bella Palomo) وبير ماسيب (Père Masip) وباهاراه هارافي (Bahareh Heravi)، أنه لا يمكن لأداة ذكاء اصطناعي واحدة أن تقدِّم مفعولًا سحريًّا لجميع أنواع القصص وفي جميع المؤسسات الإخبارية بأنحاء العالم. ويشير هؤلاء الأكاديميون إلى وجود عائق مهم، وهو التكلفة المالية العالية لمهندسي البرمجيات؛ إذ غالبًا ما يتقاضى المبرمجون أو علماء البيانات أو المعلومات أو المهندسون أجورًا أعلى بكثير من أجور الصحفيين؛ الأمر الذي يجعل الاستثمار في متخصصي الذكاء الاصطناعي في الصحافة أمرًا غير فعال من حيث التكلفة للمؤسسات الإخبارية .ويضيف هؤلاء أن الذكاء الاصطناعي لا يزال أمامه طريق طويل ليكون مفيدًا لإنتاج القصص اليومية في غرف الأخبار من جميع الأحجام(47).

ويحذر مختصون آخرون من مخاطر سيطرة شركات التكنولوجيا الخمس الكبرى، مثل غوغل وأمازون وآبل وفيسبوك ومايكروسوفت، على تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي لتحقيق أهداف تجارية. ويرى الأكاديمي، وايتيكر، أن تلك الشركات التي تهيمن اليوم على قطاعات عديدة، من أهمها الإعلام، “لا يستطيع أي منها دعم قطاع الإعلام والصحافة بالكامل”، فتاريخها على مدى العقد الماضي كان أكثر ارتباطًا بتعطيل تمويل وسائل الإعلام باستعمالها للإعلانات بدلًا من إنشاء الأخبار(48).

2.9. الميديا الرقمية ومستقبل الديمقراطية

لم يشمل الاهتمام البحثي التحولات التي تشهدها الصحافة والميديا وتأثيرها في الثقافة والمجتمع فقط، بل إن المجالات الرقمية تطورت هي الأخرى، وباتت آفاق ذلك التطور ودوره في الديمقراطية موضع تفكُّر وتحليل، خاصة بعد التأثيرات التي رافقت ذلك التطور التكنولوجي على الحياة الديمقراطية والمخاوف والتأكيدات المتضاربة بخصوص حدوث تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، عام 2016.

وتباينت مواقف المختصين والخبراء حيال آفاق تطور تلك المجالات الرقمية ودورها في الحياة الديمقراطية، فبعضهم يرى أن تلك المجالات ستتحسن بشكل كبير بحلول عام 2035، وذلك بعد معالجة المشكلات الناجمة عن المعلومات الخاطئة والمُضلِّلة والخطابات المسمومة، بينما يتوقع آخرون استمرار تلك المشاكل ومواصلة استخدام الأدوات والمنتديات الرقمية لاستغلال نقاط الضعف لدى الناس، وإذكاء غضبهم والتفريق بينهم(49).

وأظهرت النتائج أن حوالي 61% من المشاركين في هذه التوقعات اعتبروا أن المساحات الرقمية واستخدامات الناس لها ستتغير، بحلول عام 2035، بطرق تخدم الصالح العام بشكل كبير، بينما افترض 39% أن هذه المساحات الرقمية لن تتغير بطرق تخدم الصالح العام بشكل كبير بحلول عام 2035(50).

ولخص المتفائلون بحدوث تغيرات إيجابية توقعاتهم في أربع نقاط مرتبطة بصناعة التكنولوجيا والحوكمة والمجموعات الناشطة التي تعمل على إعادة تصميم خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي لتحسين تفاعلات الأفراد وتعزيز النقاش الديمقراطي ونتائجه.

وتشمل النقاط التي أجمع عليها الخبراء المتفائلون بحدوث تغيرات في المجالات الرقمية ما يلي:

– أولًا: إصلاح خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، لأن الهدف الأساسي في منصات الميديا الاجتماعية هو تحقيق أقصى قدر من الأرباح وتفضيل الخطابات المتطرفة وتلك التي تنزع إلى الكراهية، والهيمنة على انتباه الجمهور. ويتوقع الخبراء أن المجالات الرقمية ستكون بحلول سنة 2035 “مجالات مبنية على الخوارزميات المصممة للصالح العام والضرورات الأخلاقية مع تشجيع الإجماع بدلًا من الانقسام، والتخفيض من المعلومات المُضلِّلة والتزييف العميق، وتمكين شبكات التقارب وتوليد المشاعر المؤيدة للمجتمع، مثل التعاطف والفرح.

– ثانيًا: تشريعات حكومية جديدة لتنظيم المساحات الرقمية عبر اللوائح التي تضاف إلى ضغط “ناعم” من قِبَل الحكومة لدفع الشركات نحو تبني “المزيد من السلوك الأخلاقي”. ورجَّح بعض الخبراء بخصوص هذه المسألة أن تركز القواعد الجديدة على الارتقاء بالمجتمعات عبر الإنترنت، وحلِّ القضايا المتعلقة بالخصوصية والمراقبة والتحكُّم في البيانات الشخصية. في المقابل، يرى خبراء آخرون أن كثرة اللوائح الحكومية يمكن أن تؤدي إلى نتائج سلبية، وربما خنق الابتكار وحرية التعبير، كما أشاروا إلى أن التنظيم العلني للتكنولوجيا سيمكِّن الحكومات الاستبدادية من معاقبة المنشقين تحت ستار “محاربة المعلومات المُضلِّلة”(51).

– ثالثًا: الأمية الرقمية: من التوقعات التي قدَّمها الخبراء المشاركون في استفتاء مركز بيو للأبحاث تلك المتعلقة بالأمية الرقمية؛ إذ يتوقع هؤلاء أن يمارس المستخدمون، بحلول عام 2035، مزيدًا من الضغط من أجل إصلاح المجالات الرقمية. ويرى كثيرون أن جهود محو الأمية التكنولوجية ستزداد، خصوصًا مع ظهور برامج جديدة تثقف المستخدمين.

– رابعًا: ظهور أشكال جديدة من حوكمة الإنترنت؛ إذ أشار الخبراء إلى بروز هياكل جديدة لإدارة الإنترنت تعتمد على التعاون بين المواطنين والشركات، ويتوقع الخبراء أيضًا ظهور “مبادرات واعدة” تتعاون عبرها مؤسسات الإنترنت مع المجتمع المدني للعمل من أجل تغيير إيجابي يضفي الطابع المؤسسي على الأشكال الجديدة لإدارة الإنترنت.

وعلى النقيض من هذه الرؤى “الإيجابية”، لا يتوقع بقية الخبراء المشاركين، في تقرير مركز بيو للأبحاث والذين قاربت نسبتهم 39%، حدوث تحسن كبير في المجالات الرقمية العامة بحلول عام 2035، ورجَّحوا بقاء الوضع على ما هو عليه. كما أن الشركات والحكومات والمستخدمين لن يتمكنوا من إجراء إصلاحات، بالإضافة إلى تفاقم الوضع الحالي والتفاوت بسبب التقدم في الذكاء الاصطناعي، والمراقبة المفرطة لكل جانب من جوانب الحياة، وتضخم حجم “البيانات” وتواصل التضليل. ويرجع الخبراء هذا الأمر إلى جوهر هذه المنصات المبنية والمدفوعة، حسب توقعاتهم بالرأسمالية والمنافسة الجيوسياسية(52).

من جهتهم، لخَّص الخبراء المتشائمون توقعاتهم ضمن أربعة مستويات، هي:

– أولًا: استمرار ديناميكيات الانعزال في فضاءات الميديا الاجتماعية نفسها؛ حيث إن تواصل انغلاق الأفراد حول أنفسهم وقصر النظر لديهم يسهِّل التلاعب بهم وتحفيز عواطفهم وإذكاء مخاوفهم عند مشاركتهم في النقاش العام عبر الإنترنت. ويرجع الخبراء الأمر، في عالم متصل رقميًّا، إلى مراقبة الناس باستمرار لاستكشاف شغفهم وميولاتهم، في وقت يستمر فيه نشر رسائل تُسلِّح نقاط الضعف البشرية، وتُعزز المعلومات المغلوطة والمُضلِّلة للراغبين في ممارسة النفوذ لتحقيق أهداف سياسية أو تجارية أو إثارة الانقسام والكراهية.

– ثانيًا: استغلال المعطيات الشخصية، ويتمثل ذلك في وجود توجه نحو المزيد من البيانات ومراقبة النشاط البشري، ويتوقع الخبراء أن المسيطرين سيمتلكون، في أفق 2035، تكنولوجيا تسمح بمعرفة أكبر عن الأفراد أكثر مما يعرفه الناس أنفسهم، ويتنبؤون بسلوكهم، ويدفعون برسائل خفية إليهم توجههم نحو نتائج معينة. ويتوقع الخبراء أن هذا التلاعب سيُستخدم، إن حدث بالفعل، لتمزيق الثقافات وتهديد الديمقراطية وخنق إرادة الناس الحرة(53).

– ثالثًا: تعزيز مكانة مروجي خطابات الكراهية والمحرضين على الاستقطاب، ومن التوقعات أيضًا، وفق هؤلاء الخبراء، “اكتساب الكارهين والمستقطبين المزيد من القوة”. ويتوقع هؤلاء الخبراء أن تتجه غرائز الناس نحو المصلحة الذاتية والخوف من “الآخر”، ما يدفعهم إلى ارتكاب أعمال ضارة. ويضيف الخبراء أن المجالات الرقمية التي قد يتم ابتكارها في المستقبل ستغمرها التلميحات والاتهامات والاحتيال والأكاذيب والانقسامات.

– رابعًا: الطابع المركب والمعقد للتحولات التكنولوجية، حيث لن يتمكن الناس -بحسب الخبراء غير المتفائلين- من مواكبة سرعة وتعقد التغيير الرقمي، ويرون أن الأنظمة التي تدعم الإنترنت حاليًّا كبيرة جدًّا وسريعة ومعقدة للغاية ومتحولة باستمرار؛ ما يجعل مواكبة اللوائح أو الأعراف الاجتماعية أمرًا مستحيلًا. ووفقًا لبعض هؤلاء الخبراء، فإن التهديدات ستستمر في الظهور مع كل تقدم تقني جديد، لأن الشبكة العالمية واسعة الانتشار للغاية(54).

3. دروس مستخلصة من أدبيات رصد اتجاهات الصحافة

3.1. الانقلاب البراديغمي من خطاب الفرص إلى خطاب المخاطر

يتبيَّن من خلال تشخيص الاتجاهات الكبرى لمجالي الصحافة والميديا -في علاقتهما على وجه الخصوص بالبيئة الرقمية- تراجع التصور الطوباوي للتكنولوجيات الرقمية، باعتبارها تكنولوجيات يمكن أن تحقق الرخاء الثقافي الإنساني، والنفاذ إلى المعرفة وتعزيز قدرات الناس على التواصل والمشاركة في الحياة السياسية، وتطوير قدرات الناس على التغيير عن عوالمهم.

لقد طغى هذا التصور الطوباوي لسنوات عديدة بعد الثورات والانتفاضات التي عرفتها عدة دول عربية؛ حيث يُنظَر إليها باعتبارها وليدة التكنولوجيات الرقمية، وتُنعَت بثورات فيسبوك وتويتر، التي خاضها الشباب ضد أنظمة سلطوية ديكتاتورية. وفي منتصف العشرية الماضية بدأ يتشكَّل تصور مغاير لأدوار التكنولوجيا الرقمية في المجتمعات حتى أصبح ينظر إليها على أنها تهدد الحياة الديمقراطية بالمخاطر الناجمة عنها، وبدأ الحديث عن “العصر المظلم للميديا الاجتماعية”(55).

وعلى هذا النحو، يمكن أن نتحدث هنا عن تحول (أو انقلاب براديغماتي) أصبح يتجلى في خطاب كارثي من جهة أولى، أو فيما يمكن أن نسميه خطابًا واقعيًّا… وتشمل هذه المخاطر، أولًا، تهديد الصحافة والميديا المهنية والصناعة الإخبارية بتجفيف مصادر تمويلها، أي الإعلان، بما أن المعلنين (الشركات الاقتصادية) يوظفون المنصات الرقمية للاتصال مباشرة ودون وساطة الصحافة والميديا بالجمهور العريض أو المستهلكين، مما يهدد ما يُسمَّى النماذج الاقتصادية.

كما تشمل هذه المخاطر، ثانيًا، تنامي التضليل المعلوماتي والأخبار الزائفة، وتأثير ذلك في الحياة السياسية والديمقراطية عبر التلاعب بالانتخابات وتدخل الدول الخارجية، مثلما حدث في قضية “كامبريدج أناليتيكا”، واستخدام المعطيات الشخصية وتعزيز ما يُسمَّى الاستقطاب السياسي. وتشمل مخاطر المنصات الاجتماعية أيضًا التأثير في الاتصال بالمجال العمومي بسبب التأثير المتعاظم لما يُسمَّى الخوارزميات، وتنامي غرف الصدى، والفقاعات المعرفية، مما يؤدي إلى عزل الناس عن بعضهم البعض وتنامي أشكال جديدة من العنف الرقمي، مثل التنمُّر الرقمي والعنف الذي تتعرض إليه فئات مخصوصة من المجتمع على غرار النساء والفتيات.

ووصف تقرير صادر عن لجنة متخصصة في البرلمان البريطاني فيسبوك والمنصات الرقمية بـ”العصابات المارقة عن القانون” بسبب تأثيراتها الخطرة بشأن الأخبار الزائفة وانعكاساتها على الحياة السياسية والديمقراطية. ودعا التقرير إلى منع فيسبوك من التصرف كعصابات رقمية أو فوق القانون، كما دعا إلى مكافحة المضامين المسيئة أو غير القانونية ووضع ميثاق أخلاقي صارم وملزم تسهر على تطبيقه هيئات تنظيمية. وطالب التقرير بالتحقيق في أدوار المنصات الرقمية في تيسير التدخل الأجنبي أو الخارجي في الديمقراطيات. ويعتبر التقرير أن مخاطر الأخبار الزائفة متصلة باستعداد لتصديقها، لأنها تعزز معتقدات البعض كما أن تأثيرها سلبي جدًّا على الحوار الديمقراطي القائم على الوقائع الموضوعية، وتتعاظم مخاطرها عندما يتعلق الأمر بالانتخابات. وطالب التقرير بإقرار سياسة مستقبلية تهتم بالشفافية في مستوى المعلومات التي يتعرض إليها المستخدمون البريطانيون لفهم عمل الشركات التكنولوجية الرقمية(56).

وفي هذا الإطار، يمكن أن نشير مثلًا إلى أن مقاربات جديدة أصبحت تنظر إلى أدوار الميديا الاجتماعية في تخريب عملية الانتقال الديمقراطي في السياقات العربية من خلال تعزيز الاستقطاب الأيديولوجي، وتقسيم المجتمع، ونشر مشاعر الخوف، والقلق من التحولات السياسية، وتضخيم “الخطابات القصووية”، وهي الأطروحة التي يدافع عنها مارك لينش (Marc Lynch) والتي يمكن أن نجد معطيات تبررها في سياقات بعينها على غرار السياق المصري(57) والتونسي(58).

وقد نتج عن هذا التصور الجديد لمخاطر الميديا الاجتماعية اتجاهات جديدة، خاصة في مستوى أدوار الدولة في السياقات الديمقراطية على غرار تنامي الحاجة إلى ما يُسمَّى “السيادة في مجال الميديا” (Media Sovereignty)(59)، والسياسات العمومية أو سياسات الميديا، كما يُبيِّن ذلك النقاش في الولايات المتحدة الأميركية حول مستقبل الصحافة المحلية، وإمكانات الحفاظ على شروط بقائها أمام تهديدات المنصات الرقمية، وكما تبيِّن ذلك الأدوار التي يمكن أن تقوم بها الدولة لحماية الصناعة الإخبارية أمام تهديدات منصات الميديا الاجتماعية(60).

وقد أظهرت مدونة الدراسة تنامي مقاربات جديدة للتنظيم قائمة على ما يُسمَّى الاندماج على غرار الهيئة التنظيمية الجديدة الفرنسية التي لها أدوار في البيئة الرقمية. كما أن هناك أيضًا نقاشات حول أهمية التشريع (كدور من أدوار الدولة) للتصدي للأخبار الزائفة وتضليل المعلومات (في فرنسا وفي ألمانيا).

وإذا كان العقدان الأخيران اتسما بعدم تدخل المشرِّع والهيئات التنظيمية في البيئة المعلوماتية الرقمية وفي تنظيم الإنترنت، فإنه سيتم التخلي عن هذا الاتجاه. فالدولة ستتدخل بشكل كبير في تنظيم هذه المنصات الرقمية، والتنظيم الصناعي لها ونظام الميديا برمته. ويتصل هذا التغير في مستوى دور الدولة بتراجع الثقة في المنصات والتكنولوجيا وفي تنامي القلق من نتائجها في العشرية الأخيرة. كما ترتبط الحاجة إلى أدوار جديدة للدولة في ظل نزوع المنصات الرقمية إلى التنافس واهتمامها بالصراعات الجيوستراتيجية. وهذا ما خلق ما يُسمَّى المسؤولية التكنولوجية (Tech Accountability)(61). كما تتصل أدوار الدولة أيضًا بتطوير برامج التربية على الميديا والمعلومات، التي تعتبر الوسيلة المثلى لحماية الجمهور من التضليل المعلوماتي والأخبار الزائفة، وتربيته على الاستهلاك والنفاذ إلى المعلومات الجيدة(62).

وفي هذا الإطار، يعتبر الاهتمام بأدوار الدولة تطورًا جديدًا في السياق الأميركي خلافًا لما يحدث في السياق الأوروبي؛ حيث للدولة أدوار أساسية في بيئة الميديا، لأن حرية الصحافة مرتبطة في مخيال الصحفيين والمهنيين بعدم تدخل الدولة (وفق المبدأ الأول من الدستور الأميركي). وفي هذا الإطار ستتغير سياسة الولايات المتحدة مع وضع قانون لتنظيم المنصات الرقمية بالتعاون مع السلطات والهيئات التنظيمية الحكومية مقابل دعم تزعمها السوق(63). ومن المجالات التي سيكون فيها للدولة أدوار: التشريع في مجال الميديا الاجتماعية عبر القوانين ودعم الصحافة المحلية.

ومن أهم التطورات المستقبلية الممكنة، وفق هذا التصور الجديد، القائم على تشخيص المخاطر، الفجوات الجديدة بين فئات المستخدمين. وعلى هذا النحو، يتحدث البعض عن أنواع متباينة من المستخدمين أو من الجمهور، فهناك النوع الأول الذي يستقي الأخبار من مصادر موثوقة، أي من مؤسسات الميديا والصحافة المهنية، أما الصنف الثاني فيمثِّل الأغلبية التي لا تتمتع بالكفاءات الضرورية للتمييز بين الأخبار الجيدة والمضامين الأخرى، مثل الإعلانات والمعلومات الزائفة والتضليلية. وسيوجد صنف ثالث من الجمهور خاضع إلى المضامين التآمرية والزائفة.

وعلى هذا النحو، سيتشكَّل تفاوت بين نوعين من مستهلكي الأخبار: فئة ستكون قادرة على النفاذ إلى الأخبار ذات جودة، وفئة أخرى لن تتمكن من ذلك وستظل تستهلك مضامين ومعلومات لا تتطابق مع معايير الجودة، وهو تفاوت بين من لهم القدرة على الوصول إلى الأخبار الجيدة الذين سيتمكنون من الحصول على معلومات جيدة تتناسب وتتطابق مع حاجاتهم ويقدرون بـ200 مليون، وفئة ثانية “محرومة” وهم أغلبية سكان العالم الذين سيحصلون على مضامين إخبارية تموَّل من المستشهرين لا تتطابق بالضرورة مع حاجاتهم وخاضعة لتأثير الخوارزميات أو تعرض عليهم وفق منطق الخوارزميات وتقوم على المشاعر والعواطف(64).

وفي هذا الإطار، سيتشكل في السنوات المقبلة نوع من الفجوة الميديائية (Media Fracture) بين من لهم موارد وأولئك الذين لن تتوافر لهم هذه الموارد؛ إذ لن يتمكن جزء من المستخدمين من الوصول إلى الصحافة الجيدة، لكن هذه التطورات يمكن أن تسير باتجاه مغاير بفضل سياسات ينتهجها فاعلون جدد من القطاع العام.

وتحيل إشكالية التباين بين فئات المستخدمين وجودة الأخبار إلى مستقبل الصحافة نفسها. وفي هذا الإطار، تتباين التوقعات بين تراجع مكانة القيم والمعايير الصحفية، وستتعدد مصادر المعلومات وقد تتنوع أيضًا طرق السرد الصحفي والكتابة الصحفية، مما قد يغير الصحافة نفسها بتراجع صحافة الرأي لصالح أنواع أخرى من الصحافة تعتمد على الدارسات الأكاديمية والجامعية المتخصصة أو التحقيقات التي تقوم على المعطيات والمعلومات.

ومن بين التطورات الممكنة أيضًا تراجع الحدود بين المضامين الإخبارية والترفيهية، وتأثير ذلك في الحياة السياسية. وفي إطار التصورات التي تؤكد على أدوار الصحافة، ثمة تنبُّؤات ترى في تنامي مكانة صحافة الحلول اتجاهًا أساسيًّا، بمعنى أن أدوار الصحافة لن تكون فقط في مستوى التحري والتحقيق والاستقصاء والكشف عن الفساد ومساءلة الحكومات، لأن هناك مطالب بأن تكون الصحافة أيضًا جزءًا من الحل، فلا تكتفي فقط بطرح المشاكل بل أن تقدِّم أيضًا الحلول للمشاكل التي تعرضها. وفي مستوى الصحافة الاستقصائية، يُلاحظ تطور المشاريع التعاونية بين الصحفيين في العالم، وخاصة في مستوى الصحافة الاستقصائية على غرار مشاريع “أوراق باندورا”. وفي الاتجاه ذاته أيضًا نتبيَّن ظهور نماذج صحفية بديلة عن التمويل الخاص بتعزيز التمويل غير التجاري وغير الحكومي، ويحيل هذا النوع من التمويل إلى مؤسسات الصحافة المحلية التي يجب أن توظف صحفيين يعملون في البيئات المحلية التي ينتمون إليها لسرد الأحداث التي تقع في هذه البيئات المحلية(65).

3.2. نحو الصحافة الشاملة  

نتبيَّن من تقارير مدونة الدراسة أن “الصحافة الجيدة” التي تقوم على المهنية ليست وليدة تكنولوجيا، بل لا نرى اهتمامًا يُذْكر في التوقعات والاتجاهات المرصودة بالتكنولوجيا، باعتبارها عاملًا مستقلًّا بذاته يمكن أن يكون مصدرًا لتغيير الصحافة. فأغلب التوقعات “ذات طابع معياري”، أي تهتم بالصحافة كما يحب أن تكون في مجتمع ديمقراطي. إن المبحث الأساسي الذي يتجلى في معظم تقارير التوقعات التي رصدها الباحثان هي العلاقة بين الصحافة والديمقراطية، فلا تبدو هذه التقارير منشغلة بانعكاسات التكنولوجيا على الصحافة بقدر ما تهتم بالأدوار التي تقوم بها الصحافة لخدمة الديمقراطية وحمايتها، في سياق أصبحت فيها الميديا الاجتماعية مصدرًا للمخاطر أكثر مما هي مصدر للفرص. وقد تكون هذه المقاربة التي تؤكد على الأدوار والمعايير متصلة بالسياقات السياسية في أوروبا وأميركا الشمالية التي تتسم بصعود التيارات الشعبوية التي تناوئ الصحافة والمؤسسات الوسيطة بشكل عام، وتراجع الثقة في الصحافة بشكل خاص.

وفي هذا الإطار، ظهر مفهوم الصحافة الشاملة (Total Journalism)، وهو مفهوم يمكن أن يؤسِّس مقاربة شاملة وكلية للصحافة في مختلف أبعادها دون اختزالها في بعد واحد(66). والصحافة الشاملة هي في الوقت ذاته مفهوم نظري يسمح بمقاربة تحولات الصحافة المتشابكة: التحريرية والأخلاقية والتكنولوجية والاقتصادية، وأيضًا مطلب معياري يسمح بتفكُّر الصحافة وقد تزاوجت فيها التكنولوجيا بالمعايير المثلى للصحافة.

ويحيل مفهوم الصحافة الشاملة على تعدد أبعاد الصحافة والمشكلات المتصلة بها، مثل أدوار الصحافة في المجتمع، وأدوار الصحفيين والرهانات (أو التحديات) الأخلاقية (بمعنى الأخلاقيات)، والنماذج الاقتصادية الضامنة لاستدامة الصحافة، وهو يمثِّل مدخلًا للنظر إلى الصحافة باعتبارها وسيطًا للاتصال الاجتماعي. أما من المنظور المعياري، فالصحافة الشاملة نوع من الصحافة التي تتلاءم مع المجتمعات المعاصرة؛ إذ إنها صحافة متجددة توظف كل التقنيات المتوافرة وتقوم على الوسائط المتعددة والروابط المتشعبة، لكن أيضًا على المكتسبات (أو الدروس) المستخلصة من الماضي. وتستثمر هذه الصحافة الذكاء الاصطناعي، والواقع الافتراضي، وتقنيات الجيل الخامس، والتقنيات البصرية، وتقنيات السرد، لكنها في الوقت ذاته تُسهِم في التصدي للتضليل المعلوماتي وتتزاوج فيها التكنولوجيا بالإنسانية بشكل فريد ومتجدد(67).

كما أن الصحافة الشاملة تعبير عن استجابة الصحافة للتحولات المتعددة التي تشمل غرفة الأخبار والطرق الجديدة في السرد الصحفي، وفي تجديد الأنواع الصحفية التي تقوم عليها الصحافة مع ظهور الصحافة الانغماسية (Immersive Journalism) التي توظف التكنولوجيا لابتكار أساليب جديدة في الريبورتاج، والوصف والشكل، وتصوير الأحداث، وابتكار وتطوير أساليب جديدة للتفاعل مع الجمهور على غرار ظهور الألعاب الإخبارية، التي تسمح بفهم الأحداث، إضافة إلى استخدام تقنيات بصرية. لكن الصحافة الشاملة تسهم أيضًا في بناء رأي عام مستنير بتعزيز وظيفة التحري التي تقوم بها (عبر صحافة التحري) والتفسير، كما تجلى ذلك في سياقات جائحة كورونا.

إن مفهوم الصحافة الشاملة يحيل إلى فكرة التهجين (Hybridity) بين القديم والجديد، والتي تقي مصير الصحافة من التصور “التقني” الذي يعتمد فقط على استشراف البعد التقني لتطورات الصحافة دون الاهتمام أو الأخذ في الاعتبار الأبعاد المعيارية للصحافة التي لا تتغير.

لقد قامت الصحافة منذ أن تحولت إلى مهنة في بدايات القرن العشرين على قيم مثلى لم تتغير أبدًا، تجسدت في المواثيق الأخلاقية التي وضعتها المهنة لنفسها، مثل ميثاق نقابة الصحفيين الفرنسيين(68)، عام 2018، وميثاق جمعية الصحفيين الأميركيين(69)، عام 1926، وميثاق الاتحاد الدولي للصحفيين(70)، عام 1954. وقد توافقت المهنة على أن وظيفتها الأولى والأساسية التي تكتسب بواسطتها شرعيتها هي “السعي إلى الحقيقة”، مما جعل من التحري في الوقائع “روح الصحافة”، كما يقول الكاتب الصحفي بيل كوفاتش (Bil Kovach)، و”مبدأ مقدسًا تهتدي به الصحافة التي تتميز عن البروباغندا والترفيه والفن”(71)، وهو المبدأ ذاته أيضًا الذي صاغه شارلز سكوت (Charles Scott) في مقاله الشهير(72) والذي احتفى به بمئوية صحيفة “الغارديان” (The Guardian) البريطانية بوصفه رئيس تحريرها والذي بمقتضاه تكون “الوقائع مقدسة والرأي حرًّا”.

ولعل التحدي الدائم الذي تواجهه الصحافة هو هذا المزج الخلاق بين القيم المؤسسة والمبتكرات التحريرية والتكنولوجية المستمرة التي تجعل من الصحافة طاقة أساسية تحتاجها المجتمعات الديمقراطية، كما يقول يورغن هابرماس (Jürgen Habermas)(73)، أو مطلبًا أساسيًّا من مطالب بناء الديمقراطية.

3.3. مستقبل الصحافة في العالم العربي

أشار الباحثان في مقدمة الدراسة إلى العوامل الثلاثة التي تجعل من الصعب استكشاف مستقبل الصحافة في العالم العربي، وهي تنوع السياقات العربية بل وتنافرها، أولًا، وندرة المعطيات الإحصائية، ثانيًا، والدراسات المسحية، ثالثًا. ورغم هذه الصعوبات، يمكننا في هذا الموضع الختامي من الدراسة أن نفكر في المجالات الكبرى (أو المباحث) التي يواجهها التفكير في مستقبل الصحافة والسياقات العربية.

ونشير هنا إلى أن مصطلح الإعلام العربي مخاتل وغير دقيق، ولا يمكن التعاطي معه باعتباره مصطلحا بديهيًّا. فالقول بالإعلام العربي يعني أن هناك وحدةً ما ناظمة وعلى اختلاف السياقات القانونية والاقتصادية والسياسية يتمخض عنها إعلام عربي يشترك في الخصائص العامة. ومن دواعي التخلص من مصطلح الإعلام العربي أيضًا أن السياقات العربية الوطنية نفسها تتعايش فيها صحافات متباينة(74) بسبب تنافر نماذجها التحريرية أو التصورات المعيارية (التي تتعلق بأدوار الصحفيين في المجتمع) التي تحكم الممارسات الصحفية. ففي البلد العربي تتجاور الصحافة وتتنافس وفق علاقتها بالسلطة السياسية والأحزاب أو الطوائف والأدوار التي يقوم بها الصحفيون في المجال العمومي وتمثلاتهم للأخلاقيات الصحفية وممارستهم لها. وعلى هذا النحو، فإن هذه “الصحافات العربية” يرتبط مستقبلها بثلاثة متغيرات كبرى: السياسية والاقتصاد والتكنولوجيا.

فالممارسات الصحفية تتأثر بشكل مباشر بالتحولات السياسية، وخاصة تلك المتصلة بالحريات. فالصحافة بما أنها مهنة، تفترض سياقات تضمن الحق في النفاذ إلى المعلومات والتحري فيها والاتصال بالمصادر وتنويعها وحمايتها. كما أن للصحافة وظيفة سياسية بما أنها تمثِّل مصدرًا للمعلومات الموثوقة وآلية للتحري في المعلومات التي تتشكَّل بفضلها آراء المواطنين السياسية. وهذه الوظيفة لا يمكن أن تمارس في مجتمع تمنع فيه السلطة السياسية الصحفيين من ممارسة حقهم في البحث والتقصي والتحقق. ولهذه الأسباب، فمن البديهي أن الصحافة لا يمكن أن تزدهر إلا في السياقات الديمقراطية. ومن هذا المنظور، فإن مستقبل الصحافة يتصل بشكل وثيق بالدَّمَقْرَطَة في العالم العربي.

أما المتغير الثاني في مستقبل الصحافة في العالم العربي فيتعلق بنتائج وتأثيرات المنصات الاجتماعية، فالعديد من الدول الغربية أصبحت تدافع في إطار سياساتها العمومية عن مصالح صناعات الصحافة والميديا، وتفرض على منصات الميديا الاجتماعية مفاوضات للحصول على موارد جديدة لدعم صحافتها على غرار أستراليا وكندا… أما في العالم العربي، فلا يبدو إلى اليوم أن الحكومات أو حتى الصناعات الصحفية والميديا نفسها مدركة لضرورة حماية نفسها والدفاع عن مصالحها إزاء مخاطر منصات الميديا الاجتماعية للاستحواذ على مواردها الإعلامية مما يهدد الاستمرارية الاقتصادية لصناعة الصحافة والميديا الخاصة وحتى العمومية.

أما المتغير الثالث الذي يبدو أساسيًّا في استشراف التحولات، إضافة إلى السياسة والاقتصاد، فهو التكنولوجيا نفسها. فالصحافة تشتغل في سياقات انتشرت فيها التكنولوجيا الرقمية؛ حيث أصبحت البيئة الرقمية مصدرًا لمخاطر ولفرص جديدة للصحافة. لكن الرقمنة تفترض بدورها شروطًا مؤسسية حتى تكون مصدرًا للفرص بالنسبة إلى المؤسسات الصحفية.

وعلى هذا النحو، فإن استكشاف مستقبل الصحافة الشاملة في السياقات العربية باعتبارها أفق الصحافة المبتكرة التي تتزاوج فيها بشكل متآلف المعايير المثلى للصحافة بالتكنولوجيا، هو تحقيق متعدد الأبعاد والمستويات.

خلاصة

إن الاستشراف -كما ذكرنا آنفًا- عملية محفوفة بمخاطر عديدة منهجية ونظرية. وهي بشكل عام غير محبذة في بعض الأوساط الأكاديمية والبحثية، لأنها قد تفترض أن التاريخ البشري تسيِّره قوانين ثابتة يمكن اكتشافها. وهذه الفكرة تخلى عنها المؤرخون بشكل نهائي، لأنها بكل بساطة غير متطابقة مع الطابع الإنساني للتاريخ. فالأحداث يصنعها الإنسان في سياقات مركبة تتداخل فيها متغيرات متعددة ومتنوعة… في المقابل، فإن التنبؤ والاستشراف في مجال التكنولوجيا الحصري يطرح مشكلات أقل، لأن ذلك يمكن أن يكون مرتبطًا بإستراتيجيات الصناعات الرقمية التي يمكن التدقيق في تطوراتها.

ويرى عالم الاجتماع، دومينيك فولتون (Dominique Wolton)، أن رفض الرؤية الاستشرافية هو من مقومات المقاربة النقدية للميديا والاتصال، إضافة إلى مقومات أو شروط أخرى على غرار إيلاء التفكير النظري وبناء المفاهيم أهمية كبرى واعتبار السياقات. ويرى فولتون أن رفض الاستشراف يمكن أن يغذي خطابًا طوباويًّا قائمًا على الوعود ويبشر بالثورات والتحولات الطارئة، ويحبذ فولتون التحليل التاريخي الذي يأخذ في الاعتبار الديناميكيات على المدى البعيد أو التحولات التاريخية البطيئة(75).

وثمة فكرة أساسية يؤكد عليها الباحثون تتمثَّل في أن الاستخدام لا يتطابق دائمًا مع الغايات التي وضعها المبتكر للتكنولوجيا. بمعنى آخر، فإن الاستخدام هو ابتكار جديد. وقد استمد الباحثون هذا النموذج النظري الذي يفكرون بواسطته في علاقة الإنسان بالتكنولوجيا من نظرية التلقي التي أصبحت تمثِّل مدخلًا نظريًّا أساسيًّا في دراسات الميديا وعلوم الاتصال(76).

ويقوم هذا النموذج على فكرة أن علاقة القارئ بالنص علاقة تأويلية يقوم فيها بإعادة تأويل النصوص بشكل مغاير للغايات أو للمعاني التي وضعها المؤلف. لكن هذا النشاط التأويلي يتشكَّل داخل سياقات اجتماعية على غرار مثلًا ما يُسمَّى الجماعات التأويلية. وعلى هذا النحو، فإن تطورات الصحافة والميديا والتكنولوجيا الرقمية لا تصنعها شركات التكنولوجيا أو مبتكرو التكنولوجيا، لكن هذا النموذج لا يجب أن يخفي أن التكنولوجيات لها قدرة أيضًا على تشكيل الاستخدام على غرار الخوارزميات.

إن التفكير في التكنولوجيا باعتبارها المحدد الوحيد للاستخدامات الاجتماعية والثقافية يحيل على ما يُسمَّى الحتمية التكنولوجية التي تعني تضخيم دور التكنولوجيا وتحويلها إلى عامل محدد لوحده لاستخداماتها الاجتماعية والسياسية وكأن التكنولوجيا مستقلة بذاتها عن السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تنساب فيها قوة متعالية عليها تفرض إكراهاتها على المستخدم…

في المقابل، فإن التقليل من أدوار التكنولوجيا وتحويلها إلى مجرد أشياء يمكن للمستخدم أن يطوعها قد يمثِّل عائقًا أيضًا أمام فهم أدوار التكنولوجيا (وإستراتيجيات المبتكرين والصناعات). فالمبتكرات التكنولوجية “منتجات”، أو تطبيقات، وضعتها شركات لها غايات إستراتيجية تجارية وصناعية أو حتى ثقافية.

والحقيقة إذا أردنا أن نفكر في التكنولوجيا والصحافة، وفي الميديا بشكل عام، فعلينا أن نتجاوز الحتميتين الاجتماعية والتكنولوجية، وأن نقر بأن التكنولوجيا وضعت لها غايات متعددة يمكن أن تفرض على المستخدم في سياقات مخصوصة على غرار “الخوارزميات”، التي تحدد ما يمكن أن يتعرض إليه المستخدم الذي بدوره يمكن أن يطوع التكنولوجيا لاستخداماته المخصوصة(77). ويمكن أن نشير هنا إلى استخدامات التنظيمات الإرهابية للتكنولوجيات؛ إذ مثَّلت استخدامًا غير منتظر للتكنولوجيات الرقمية، ولم يكن ذلك في أفق انتظارات أو توقعات خبراء التكنولوجيا. وقد مضت سنوات حتى تتمكن المجتمعات المختلفة من وضع آليات لمقاومة هذا النوع من الاستخدامات (والمضامين المتصلة بها)، آليات أمنية وقانونية وثقافية…

وترى الباحثة سونيا لفينغستون (Sonia Livingstone) في دراسة نظرية تناولت فيها المشكلات النظرية حول دراسة الجمهور في عصر سطوة المعطيات أن التفكير في قضايا الجمهور يجب أن يأخذ في الاعتبار الدروس التي تمخضت عن عقود من البحث العلمي في مجال الميديا (منذ أربعينات القرن الماضي على الأقل)، منها على وجه الخصوص أن فئات الجمهور ليست دائمًا متماثلة أو متناغمة وليست غبية أو ساذجة يمكن التلاعب بها كما يقول الخطاب السائد. فلا يمكن الحديث عن جمهور واحد، والذي يتشكَّل في الحقيقة من فئات عديدة متباينة، كما أن هذه الفئات لها قدرات على التفكير فيما تتعرض إليه، إضافة إلى القطع مع التصور الثنائي الذي يقوم، من جهة أولى، على قوة الجمهور التي نجدها في بعض تطورات بحوث التلقي، وعلى قوة الميديا، من جهة ثانية، والتي نجدها في تطورات دراسات تأثير الميديا(78).

وفي هذا الإطار، فإن البحث العلمي في مجال الميديا والاتصال يجب أن يتجه أكثر نحو دراسة ديناميكيتين أساسيتين حسب لفينغستون، وهما: الـتأثير الشامل للمعطيات في كل مجالات الحياة، أولًا، المتصل بدوره بمكانة الميديا الاجتماعية في كل الأنشطة الاجتماعية، والتي يقوم اقتصادها على تحويل المستخدمين وممارساتهم إلى معطيات تخضع إلى أنواع لا حصر لها من المعالجة. أما الديناميكية الثانية، فتتصل باتساع نتائج الميديا على كل مؤسسات المجتمع. وهذه الديناميكية التي يطلق عليها الأعلمة (Mediatization) تكاد تتحول إلى براديغم نظري(79) يتجاوز التصورات التقليدية القائمة على دراسة تأثيرات الميديا على السلوكيات والتمثلات والاتجاهات الجدية المهتمة(80).

وفي كل الأحوال، وفي سياق هذين التطورين الأساسين: سطوة المعطيات، والنتائج الواسعة للميديا (الجماهيرية والرقمية) على كل مناحي الحياة، تدعو لفينغستون إلى مقاربة بحثية تتجاوز التحليلات الجزئية التي تفصل ممارسات المستخدمين عن سياقاتها الاجتماعية، كما تدعو إلى انخراط الباحث في السياقات الاجتماعية التي تتشكَّل فيها ممارسات المستخدمين مع الأخذ في الاعتبار عدة مستويات متعددة من التحليل على غرار تحولات الاقتصاد العالمي وإستراتيجيات المؤسسات الصناعية وسياسات الدولة بما في ذلك سياسات الهيمنة. هذه المقاربة متعددة المستويات والمداخل تجعل البحث العلمي قادرًا على فهم مختلف تحولات ظواهر الميديا والاتصال.

نُشرت هذه الدراسة في العدد الأول من مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا)

نبذة عن الكاتب

مراجع

* ورد هذا التعبير في دراسة للأكاديمية بيلا بالوما التي تركز اهتماماتها البحثية على الصحافة الرقمية:

Bella Palomo et al., “Horizon 2030 in Journalism: A Predictable Future Starring AI?’,” in Total Journalism Models, Techniques and Challenges, ed. )Switzerland: Springer, 2022).

** هنا لابد أن نسوق بعض الملاحظات حول استخدام مصطلح “الميديا” بديلًا عن مصطلح الإعلام. إن الصحافة مهنة تتمثَّل في صناعة الأخبار، أي بتعبير آخر البحث عن المعلومات ومعالجتها من المصادر المتعددة والمختلفة وتحويلها إلى أخبار باستخدام المنهجية الصحفية واحترام الأخلاقيات المهنية. والصحافة تحيل كذلك على مضامين بعينها، أي المضامين الإخبارية التي تُنشَر في الصحف والمواقع الإخبارية من نشرات أخبار وبرامج، والبرامج الإخبارية الإذاعية والتليفزيونية والتي ينتجها الصحفيون. أما الميديا فتحيل على مؤسسات تنتج مضامين نحو جمهور معين، ولا تُمثِّل الصحافة سوى جزء من هذه المضامين. فالميديا على غرار القنوات الإذاعية والتليفزيونية يمكن أن تتيح وتنشر مضامين أخرى ترفيهية مثلًا (دراما…). والميديا مؤسسة لها وجود قانوني وتنظيم تتكوَّن من عدة اختصاصات وأقسام (موارد بشرية، مالية، تقنية (مخرجين، مصممين…)). وتأثيرات الجائحة على الصحافة تختلف عن تأثيراتها على الميديا (كمهنة وكمؤسسة).

للاستزادة انظر: الصادق الحمامي، “كيف غيَّرت جائحة كورونا صناعة الصحافة والميديا؟”، في محمد الراجي، بيئة الصحافة الإلكترونية العربية: سياقات التطور وتحدياته، ط 1 (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، 2020)، ص 252.

(1) Bella Palomo et al., “Horizon 2030 in Journalism: A Predictable Future Starring AI?’,” in Total Journalism Models, Techniques and Challenges, ed. )Switzerland: Springer, 2022).

(2) Nic Newman, “Journalism, Media, and Technology Trends and Predictions 2022,” Digital News Project, reutersinstitute, January 2022, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3Ec9jGa.

(3) “State of the News Media (Project) 2021,” pewresearch, 2021, “accessed July 15, 2022”. https://pewrsr.ch/3Ezjy8M.

(4) منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، “الصحافة منفعة عامة: الاتجاهات العالمية في حرية التعبير وتطوير وسائل الإعلام، التقرير العالمي 2021/2022″، unesco، 2021، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2022)، https://bit.ly/3hI8Ow5.

(5) “State of the News Media (Project) 2021,” pewresearch, 2021, “accessed July 15, 2022”. https://pewrsr.ch/3Ezjy8M.

(6) Jigsaw Research, “News Consumption in the UK: 2022,” July 21, 2022, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3tqASXj.

(7) Nieman Lab, Predictions for journalism 2022 , niemanlab, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3hFlG67.

(8) Nic Newman et al., “Digital News Report 2021,” reutersinstitute, June 23, 2021, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3GbWYV2

(9) Nic Newman et al., “Digital News Report 2022,” June 15, 2022, reutersinstitute, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3E7wAJz.

(10) “Is the Media Doomed? From a Big Tech crackdown to the rebirth of local news, 16 future-minded thinkers predict where journalism will be in 15 years,” Politico, January 21, 2022. “accessed July 15, 2022”. https://politi.co/3hynDRL.

(11) Janna Anderson, Lee Rainie, “Visions of the Internet in 203″5, pewresearch, February 7, 2022, “accessed July 15, 2022”. https://pewrsr.ch/3UIGoAi.

(12) Nic Newman, “Journalism, Media, and Technology Trends and Predictions 2022,” Digital News Project, reutersinstitute, January 2022, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3Ec9jGa.

(13) اليونسكو، “الصحافة منفعة عامة: الاتجاهات العالمية في حرية التعبير وتطوير وسائل الإعلام، التقرير العالمي 2021/2022″، مرجع سابق، ص 10.

(14) “Nic Newman et al., “Digital News Report 2021,” 43.

(15) Ibid, 46.

(16) Rasmus Kleis Nielsen (ed), “Local journalism: The Decline of Newspapers and the Rise of Digital Media,” reutersinstitute, 2015, “accessed September 15, 2022”. https://bit.ly/3Ty2STr.

(17) Ibid, 28.

(18) Ibid, 28-30.

(19) Jigsaw Research,”News Consumption in the UK :2022 “,4.

(20) “State of the News Media (Project) 2021,” pewresearch, 2021, “accessed July 15, 2022”. https://pewrsr.ch/3Ezjy8M.

(21) اليونسكو، “الصحافة منفعة عامة: الاتجاهات العالمية في حرية التعبير وتطوير وسائل الإعلام، التقرير العالمي 2021/2022″، مرجع سابق، ص 10.

(22) “State of the News Media (Project) 2021,” pewresearch, 2021, “accessed July 15, 2022”. https://pewrsr.ch/3Ezjy8M.

(23) اليونسكو، “الصحافة منفعة عامة: الاتجاهات العالمية في حرية التعبير وتطوير وسائل الإعلام، التقرير العالمي 2021/2022″، مرجع سابق، ص 8.

(24) المرجع السابق، ص 17.

(25) “Nic Newman et al., “Digital News Report 2021,” 52.

(26) Jigsaw Research,”News Consumption in the UK :2022 “,6.

(27) “Nic Newman et al., “Digital News Report 2021,” 52.

(28) Ibid, 52.

(29) Nieman Lab, “Predictions for journalism 2022 “, niemanlab, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3hFlG67.

(30) اليونسكو، “الصحافة منفعة عامة: الاتجاهات العالمية في حرية التعبير وتطوير وسائل الإعلام، التقرير العالمي 2021/2022″، مرجع سابق، ص 9.

(31) Franck Rebillard, Nikos Smyrnaios, “Quelle “plateformisation” de l’information? Collusion socioéconomique et dilution éditoriale entre les entreprises médiatiques et les infomédiaires de l’Internet,” Tic et Société, Vol. 13, no 1-2(2019) : 247-293.

(32) اليونيسكو، “الصحافة منفعة عامة: الاتجاهات العالمية في حرية التعبير وتطوير وسائل الإعلام، التقرير العالمي 2021/2022″، مرجع سابق، ص 8.

(33) المرجع السابق، ص 9.

(34) المرجع السابق، ص 9.

(35) Nieman Lab, “Predictions for journalism 2022 “, niemanlab, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3hFlG67.

(36) Ibid.

(37) Newman, “Journalism, Media, and Technology Trends and Predictions 2022,” 15.

(38) Ibid, 26.

(39) Ibid, 28.

(40) Ibid, 15.

(41) Ibid, 33.

(42) Larry Edelman, “Globe wins Pulitzer Prize in investigative reporting for series on states’ failure to keep dangerous drivers off the road,” bostonglobe, June 11, 2021, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3U6GNNf.

(43) Newman, “Journalism, Media, and Technology Trends and Predictions 2022,” 15.

(44) Bella Palomo et al., “Horizon 2030 in Journalism: A Predictable Future Starring AI?’,” 180.

(45) Jason Whittaker, Tech Giants, Artificial Intelligence and the Future of Journalism (Taylor & Francis, 2019), 170.

(46) Jeremy Gilbert, “AI and its Impact on the Future of Journalism,” mccormick.northwestern.edu, May 22, 2021, “accessed October 10, 2022”. https://bit.ly/3TuO74r.

(47) Bella Palomo et al., “Horizon 2030 in Journalism: A Predictable Future Starring AI?,” 180.

(48) Whittaker, Tech Giants, Artificial Intelligence and the Future of Journalism, 33.

(49) Anderson, Rainie, “Visions of the Internet in 203″5, pewresearch, February 7, 2022, “accessed July 15, 2022”. https://pewrsr.ch/3UIGoAi.

(50) Ibid.

(51) Ibid.

(52) Ibid.

(53) Ibid.

(54) Ibid.

(55) “Is the Media Doomed? From a Big Tech crackdown to the rebirth of local news, 16 future-minded thinkers predict where journalism will be in 15 years,” Politico, January 21, 2022. “accessed July 15, 2022”. https://politi.co/3hynDRL.

(56) House of Commons, “Disinformation and ‘fake news’: Final Report 2017–19,” publications.parliament.uk, February 14, 2019, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/2S5yyA0.

(57) Marc Lynch, “After the Arab Spring: How the media trashed the transitions,” Journal of Democracy, 26(4), (2015): 90-99.

(58) الصادق الحمامي، ديمقراطية مشهدية، ط 1 (تونس، دار محمد علي، 2022).

(59) انظر تقرير الاتحاد الأوروبي:

Guillaume Klossa, “Towards European Media Sovereignty: An Industrial Media Strategy to leverage Data, Algorithms and Artificial Intelligence,” ec.europa.eu, March 28, 2019, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3UBKSZZ.

(60) الصادق الحمامي، السياسات العمومية الإعلامية، المفهوم والمجالات والمشكلات، (تونس، النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، 2022)، ص 27.

(61) “Is the Media Doomed? From a Big Tech crackdown to the rebirth of local news, 16 future-minded thinkers predict where journalism will be in 15 years,” Politico, January 21, 2022. “accessed July 15, 2022”. https://politi.co/3hynDRL.

(62) Ibid.

(63) Ibid.

(64) Ibid.

(65) Ibid.

(66) Jorge Vázquez-Herrero et al., “An Introduction to ‘Total Journalism’,” in Total Journalism Models, Techniques and Challenges, eds. Jorge Vázquez-Herrero et al. (Springer, Cham, 2022), 1-9.

(67) Ibid, 2.

(68) Syndicat National des Journalistes, “Charte d’éthique professionnelle des journalistes,” snj.fr, 2011, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3UNBe6E.

(69) Society of Professional Journalists, “SPJ Code of Ethics (USA 1926),” spj.org, September 6, 2014, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3EzYkYp.

(70) International federation of journalists, “Global Charter of Ethics for Journalists (1954),” ifj.org, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/2Zlk2fb.

(71) Bill Kovach, Tom Rosenstiel, “The Essence of Journalism Is a Discipline of Verification,” nieman.harvard.edu, June 15, 2001, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3UyJSWl.

(72) Charles P. Scott, “A Hundred Years,” theguardian, October 23, 2017, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/2YXBrr3.

(73) Jürgen Habermas,Il faut sauver la presse de qualité,” Le Monde 21 mai 2007, “accessed July 15, 2022”. https://bit.ly/3tu1lTY.

(74) Mark Deuze, “The Web and its Journalisms: Considering the Consequences of Different Types of Newsmedia Online,” New media & society, Vol. 5, no 2, (2003(: 203-230.

(75) Dominique Wolton, Penser la communication (France: Flammarion, 1997).

(76) Sonia Livingstone, The Challenge of Changing Audiences: or, What is the Audience Researcher to do in the Age of the Internet?,” European journal of communication, 19(1) (2004): 75-86.

(77) الصادق الحمامي، الميديا الجديدة، الإبستمولوجيا والإشكاليات والسياقات، ط 1 (تونس، المنشورات الجامعية بمنوبة، 2012).

(78) Livingstone, Audiences in an Age of Datafication: Critical Questions for Media Research,” Television & New Media, Vol 20, Issue 2, (2019): 170-183.

(79) Peter Lunt, ad Sonia Livingstone, “Is ‘Mediatization’ the New Paradigm for our Field? A commentary on Deacon and Stanyer (2014, 2015) and Hepp, Hjarvard and Lundby (2015),” Media, Culture & Society, Vol. 38, no 3, (2016): 462-470.

(80) Stig Hjarvard, “The mediatization of society,” Nordicom review, Vol. 29, no 2, (2008): 105-134.

 

.

رابط المصدر:

https://studies.aljazeera.net/ar/article/5582

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M