نشوء الفضائل وحقيقة العدالة

قد تبين في العلم الطبيعي أن للنفس الناطقة قوتين: “أولاهما”: قوة الإدراك و ” ثانيتهما “: قوة التحريك، ولكل منهما شعبتان: (الشعبة الأولى) للأولى العقل النظري، وهو مبدأ التأثر عن المبادئ العالية بقبول الصور العلمية، و (الشعبة الثانية) لها العقل العملي، وهو مبدأ تحريك البدن في الأعمال الجزئية بالرؤية (1).

وهذه الشعبة من حيث تعلقها بقوتي الشهوة والغضب مبدأ “لحدوث” بعض الكيفيات الموجبة لفعل أو انفعال، كالخجل والضحك والبكاء وغير ذلك، ومن حيث استعمالها الوهم والمتخيلة مبدأ لاستنباط الآراء والصنائع الجزئية. ومن حيث نسبتها بالعقل وحصول الازدواج بينهما سبب لحصول الآراء الكلية المتعلقة بالأعمال كحسن الصدق، وقبح الكذب، ونظائرهما. (الشعبة الأولى) للثانية قوة الغضب وهي مبدأ دفع غير الملائم على وجه الغلبة، و(الشعبة الثانية) لها قوة الشهوة وهي مبدأ جلب الملائم.

ثم إذا كانت القوة الأولى غالبة على سائر القوى ولم تنفعل عنها، بل كانت هي مقهورة عنها مطيعة لها فيما تأمرها به وتنهاها عنه، كان تصرف كل منها على وجه الاعتدال، وانتظمت أمور النشأة الإنسانية، وحصل تسالم القوى الأربع وتمازجها، فتهذب كل واحد منها، ويحصل له ما يخصه من الفضيلة، فيحصل من تهذيب العاقلة العلم وتتبعه الحكمة، ومن تهذيب العاملة العدالة، ومن تهذيب الغضبية الحلم وتتبعه الشجاعة، ومن تهذيب الشهوية العفة وتتبعه السخاوة. وعلى هذا تكون العدالة كمالا للقوة العملية.

بطريق آخر قيل: إن النفس لما كانت ذات قوى أربع العاقلة والعاملة والشهوية والغضبية، فإن كانت حركاتها على وجه الاعتدال، وكانت الثلاث الأخيرة مطيعة للأولى، واقتصرت من الأفعال على ما تعين لها، حصلت أولا فضائل ثلاث هي الحكمة والعفة والشجاعة، ثم يحصل من حصولها المترتب على تسالم القوى الأربع، وانقهار الثلاث تحت الأولى حالة متشابهة هي كمال القوى الأربع وتمامها، وهي العدالة. وعلى هذا لا تكون العدالة كمالا للقوة العملية فقط، بل تكون كمالا للقوى بأسرها.

وعلى الطريقين تكون أجناس الفضائل أربعا: “الحكمة” وهي معرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه والموجودات إن لم يكن وجودها بقدرتنا واختيارنا فالعلم المتعلق بها هو الحكمة العملية. “والعفة” هي انقياد القوة الشهوية للعاقلة فيما تأمرها به وتنهاها عنه حتى تكتسب الحرية، وتتخلص عن أسر عبودية الهوى. “والشجاعة” وهي إطاعة القوة الغضبية للعاقلة في الإقدام على الأمور الهائلة، وعدم اضطرابها بالخوض فيما يقتضيه رأيها حتى يكون فعلها ممدوحا، وصبرها محمودا. وتفسير هذه الفضائل الثلاث لا يتفاوت بالنظر إلى الطريقين.

وأما “العدالة” فتفسيرها على الطريق الأول هو انقياد العقل العملي للقوة العاقلة وتبعيته لها في جميع تصرفاته، أو ضبطه الغضب والشهوة تحت إشارة العقل والشرع الذي يحكم العقل أيضا بوجوب إطاعته، أو سياسة قوتي الغضب والشهوة، وحملها على مقتضى الحكمة، وضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاه.

وإلى هذا يرجع تعريف الغزالي “إنها حالة للنفس وقوة بها يسوس الغضب والشهوة، ويحملهما على مقتضى الحكمة، ويضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها” إذ المراد من الحالة والقوة هنا قوة الاستعلاء التي للعقل العملي لا نفس القوة العملية.

وتفسيرها على الطريق الثاني هو إئتلاف جميع القوى، واتفاقها على امتثالها للعاقلة، بحيث يرتفع التخالف والتجاذب، وتحصل لكل منها فضيلته المختصة به. ولا ريب في أن اتفاق جميع القوى وائتلافها هو كمال لجميعها لا للقوة العملية فقط.

اللهم إلا أن يقال إن الائتلاف إنما يتحقق باستعمال كل من القوى على الوجه اللائق، واستعمال كل قوة ولو كانت قوة نظرية إنما يكون من القوة العملية، لأن شأنها تصريف القوى في المحال اللائقة على وجه الاعتدال، وبدونها لا يتحقق صدور فعل عن قوة.

ثم العدالة على الطريق الأول تكون أمرا بسيطا مستلزمة للملكات الثلاث أعني الحكمة والعفة والشجاعة، وعلى الثاني تحتمل البساطة والتركيب على الظاهر، وإن كانت البساطة أقرب نظرا إلى أن الاعتدال الخلقي بمنزلة الاعتدال المزاجي الحاصل من ازدواج العناصر المتخالفة، وقد برهن في أصول الحكمة أن المزاج كيفية بسيطة.

وتفصيل الكلام في المقام أنه إذا حصلت الملكات الثلاث حصل للعقل العملي قوة الاستعلاء والتدبير على جميع القوى، بحيث كانت الجميع منقادة له، واستعمل كلا منها على ما يقتضيه رأيه، فإن جعلت العدالة عبارة عن نفس هذه القوة، أو نفس تدبير التصرف في البدن وأمور المنزل والبلد، دون الملكات الثلاث كانت العدالة بسيطة وكانت كمالا للعقل العملي فقط، وإن جعلت نفس الملكات كانت مركبة، وحينئذ لا يناسب جعلها فضيلة على حدة معدودة في أعداد الفضائل، لأن جميع الأقسام لا يكون قسما منها، وليس الائتلاف والامتزاج هيئة وحدانية عارضة للملكات الثلاث حتى تكون شيئا على حدة ونوعا مركبا.

ثم على الطريقين يتحقق التلازم بين العدالة والملكات الثلاث إلا أنه على الطريق الأول تكون العدالة علة، والملكات الثلاث معلولة، وعلى الطريق الثاني ينعكس ذلك لتوقف حصول العدالة على وجود تلك الملكات وامتزاجها، فهي أجزاء للعدالة أو بمنزلتها.

المصدر : https://annabaa.org/arabic/ethics/37202

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M