نظرة عن كثب: كيف اشتعل فتيل الحرب في دونباس؟

داليا يسري

 

كانت حُمى القتال دائرة بالفعل في إقليم “دونباس” المشتعل منذ العام 2014. لكن لسببٍ ما، ربما يعزى إلى انصراف معظم وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية عن متابعة تفاصيل القتالات التي تدور هناك بنفس الكثافة والتركيز الذي يتم به نقل متابعات حية من هناك في الوقت الراهن، أو ربما يرجع إلى انشغال الرأي العام العالمي عن هذا الإقليم –خلال تلك السنوات- واهتمامه بمتابعة قتالات أخرى تدور حول ما هو أكثر إثارة منه، على غرار الحرب في سوريا، أو حرب اليمن وغيرها.

لذلك بات يبدو للكثير من مُتابعي الحدث اليوم، وكأن العالم استيقظ فجأة، مكتشفًا حربًا جديدة، اندلعت هناك ما بين ليلة وضُحاها! ومن هذا المنطلق، تأخذنا الحرب الدائرة في شرق أوروبا إلى مناقشة مكثفة للجواب عن سؤال حول كيف بدأ كل شيء؟ ومن أي لسان استمد فتيل الحرب نيرانه؟!

ما تقوله الجغرافيا عن إقليم “دونباس”

يقع إقليم دونباس في شرق أوكرانيا على الحدود مع روسيا، ويُعد –جغرافيًا- جزءًا من القارة الأوروبية. ويضم الإقليم مقاطعتي “دونيتسك” و”لوهانسك”، وهاتان المقاطعتان تُعدان جزءًا مما يسمى بـ “دونباس الغربي”. وفيما قبل الحرب، كان الإقليم قد اشتهر بصناعة الفحم والذي استمد منه اسمه في الأساس، حيث تعني كلمة “دونباس”، “حوض فحم دونيتسك”.

وهذا الإقليم ليس مقصورًا على أوكرانيا، وإنما يمتد إلى داخل الأراضي الروسية والتي تحتوي على ما يُسمى بـ “شرق دونباس”، وتلك تضم العديد من مُدن التعدين في غرب منطقة “روستوف”، وهي مناطق تقع على الأراضي الروسية. وتبلغ مساحة “دونيتسك”، و”لوهانسك”، نحو 16835 كيلو مترًا مربعًا، وكانتا معروفتين قبل الحرب بالصناعات الثقيلة. واحتوت “دونيتسك”، على مطار دولي سابق والعديد من منشآت البنية التحتية الأخرى. غير أن القتال قد دمّر كل شيء وترك الإقليم في حالة عزلة لا تخلو من حالة اقتصادية متردية تزداد سوءًا يومًا بعد يوم.

كيف بدأ الصراع؟

تشهد كُل من “لوهانسك” و”دونتسيك” صراعات مسلحة منذ العام 2014 بين القوات المسلحة الأوكرانية من جهة، وقوات الانفصاليين المدعومين من روسيا من جهة أخرى. وتنظر لهما كييف على أنهما منطقتان تخضعان لاحتلال مؤقت على غرار نظيرتهما شبه جزيرة القرِم. بينما تنظر لهما روسيا على أنهما مناطق لها الحق في الحصول على الاستقلال الذاتي.

لكن ردًا على سؤال حول كيف بدأ كل شيء؟ نجد أن التاريخ يعود بنا إلى مرحلتين: تنقسمان كالتالي؛ ما قبل 6 أبريل 2014 وما بعده. فيما قبله؛ انقسمت دونباس إلى أربع مدن كبرى، لا تقتصر فقط على دونتسيك ولوهانسك، ولكن كان يوجد هناك أيضًا مدينتين “خاركيف” و”دنيبروبيتروفسك”. وكان سكان هذه المدن قد اعتادوا استخدام اللغة الروسية للتواصل، ويُذكر أن الغالبية العظمى من قاطني دونباس كانوا قد اعتادوا التصويت لصالح الرئيس الأوكراني السابق، “فيكتور يانوكوفيتش” –المعروف بولائه للاتحاد الروسي- في انتخابات عامي 2004 و2010.

وجاء فصل الربيع في العام 2014 حاملاً معه رياح التغيير التي هبت فأصبحت مدينتا “دونيتسك” و”لوهانسك” مدينتان نصبتا نفسيهما جمهوريات حكم ذاتي، فيما نجت كل من “خاركيف” و”دنيبروبيتروفسك”، وأصبحت الأخيرة رمزًا للوفاء لأوكرانيا.

نعود للتاريخ 6 إبريل 2014، وهو اليوم الذي احتل فيه عدة آلاف من المتظاهرين المبنى الإداري الإقليمي الرئيس في مدينة “دونيتسك”، وقاموا برفع العلم الروسي عليه وسط ما يقال عنه أنه تواطؤ من الشرطة المحلية المنوط بها حراسة المبنى. ويشار هنا إلى أن هذا التاريخ المفصلي، الذي ترتب عليه انزلاق الأحداث بسرعة مدهشة بدءًا من عند نقطة الاحتجاجات الحاشدة وصولاً إلى إعلان الانفصال وإجراء استفتاء شعبي بالموافقة عليه، قد سبقه نقاط عديدة جديرة بالذكر.

\\SERVER\Folder Redirection\m.abdelrazik\Desktop\274332023_5103486226363626_4791152586900229033_n.jpg

نرى هنا أن من أهم هذه النقاط أن الرئيس الأوكراني السابق، “فيكتور يانوكوفيتش”، والموالي للنظام الروسي والذي تم الانقلاب الشعبي عليه في وقتٍ سابق من العام نفسه. كان ينحدر رأسًا من مقاطعة “دونيتسك”، ويتمتع بشعبية كبيرة بها، والأكثر من ذلك، هو أن غالبية سكانها كانوا قد صوتوا له بالفعل في الانتخابات الرئاسية السابقة.

علاوة على ذلك، يُشاع أن قاطني هذه المناطق معظمهم يدين بالولاء للاتحاد الروسي. غير أنه يصعب تقدير مدى وحجم مصداقية هذا الولاء في الوقت الراهن؛ بفعل التشتت الذي أصاب الجمهوريتين بعد سنوات من الحرب التي مزقت الإقليم وسُكانه إلى أشلاء.

لكن نفهم مما سبق، أن الانفصاليين –سواء اتضح أن روسيا كانت هي المحرك الرئيس لانتفاضتهم الأولى أم لا- كانوا في لحظات احتجاجاتهم الأولى ينتفضون ضد الحكومة الجديدة في العاصمة. ونفهم كذلك، أن الطريقة التي انزلقت بها الأمور بعد ذلك منذ لحظة أن أرسلت كييف قوات عسكرية لإعادة ضبط الأمور في الإقليم الجانح، والتي تلاها تحول المدينتين إلى ساحة حرب؛ كانت تخضع لسوء إدارة وتقدير من الحكومة الأوكرانية الجديدة نفسها.

فقد اتسمت ردود فعل كييف على الحركة الانفصالية بالتردد والتخبط، ما بين قرار بالاقتحام المسلح لمناطق تمركز المتمردين تارة، وقرار بالتمهل والانتظار قليلًا. تارة أخرى. وفي كل الحالات، اقتحمت القوات الأوكرانية في نهاية المطاف المنطقة، وانتهى الخلاف إلى صراع مسلح مستمر بين الطرفين استغلته روسيا لصالح تنظيم حملة سياسية وعسكرية منسقة ضد أوكرانيا.

ومن الجدير بالذكر أيضًا أن هذا الصراع لم يكن ليدوم طوال هذه السنوات لولا الدعم البشري والتقني والعسكري الروسي المتدفق على رؤوس الانفصاليين، والذي وصل –وفقًا لبيانات أوكرانية حكومية سابقة- إلى أن أصبح قوام التشكيلات شبه العسكرية الروسية داخل قوات الانفصاليين الأوكرانيين إلى نسبة تصل إلى 80%!

عند هذه النقطة، وفي ضوء الخطاب التاريخي الذي أصدره الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، أمس الاثنين 21 فبراير 2022، حول اعترافه باستقلال الجمهوريتين وبدء تدفق قوات عسكرية روسية في شكل قوات حفظ سلام إلى هاتين الجمهوريتين؛ يطرح سؤال نفسه، هل هذه هي المرة الأولى التي تقتحم فيها قوات عسكرية نظامية روسية أراضي شرق أوكرانيا؟

ردًا على هذا السؤال، نقول إن هناك تاريخ لافت للانتباه ينبغي أيضًا الوقوف عند أحداثه التي ربما لم يلتفت لها العالم بنفس عين الاهتمام الحاضرة الآن، وهو أغسطس 2014، عندما عبرت المدفعية الروسية والأفراد العسكريون الحدود الأوكرانية الروسية تحت مسمى “قافلة إنسانية”. وتم بعد ذلك خضوع جميع المعابر الحدودية بين البلدين لسيطرة القوات “الموالية لروسيا”، ذلك بالإضافة الى إخضاع المعابر الحدودية التي لم تكن –قبل ذلك التاريخ- خاضعة لسيطرتها، مثل الجزء الجنوبي الشرقي من دونيتسك، بالقرب من نوفوازوفسك.

ومن الجدير بالذكر أيضًا أن هذه الأحداث جاءت في أعقاب توارد أنباء عن قصف روسي منظم لمواقع أوكرانية استراتيجية. وإجمالي هذه الأحداث، وصفها رئيس جهاز أمن الدولة الأوكراني وقتها، “فالنتين ناليفايشينكو”، بأنها غزو مباشر من روسيا للأراضي الأوكرانية. وفي غضون ذلك، كان الموقف الروسي الرسمي يُصر على نفي أي وجود عسكري نظامي روسي على أراضي شرق أوكرانيا، لذلك-على الأغلب- وُجهت أصابع الاتهام نحو “قوات فاجنر”، لكن في هذه الحالة كان من الأكيد أن خبراءً عسكريين روس موجودون دائمًا في الساحة لإدارة دفة الحرب.

استمرت الأحداث بعد ذلك بما يمكن وصفه بأنه ينتقل ما بين ما هو “ساخن” إلى ما هو “مُلتهب”. حتى تجدد الأمل مع ظهور اتفاقية مينسك، سبتمبر 2014، أملًا في وقف إطلاق النار، بعد قمة رباعية بحضور قادة ألمانيا وفرنسا إلى جانب قادة البلدين طرفي النزاع، روسيا وأوكرانيا. غير أن الأمل سرعان ما تبدد مع انهيار وقف إطلاق النار تمامًا بحلول يناير 2015، وتجدد القتالات العنيفة عبر مناطق الصراع، والتي وصلت نيرانها إلى مطار دونيتسك الدولي.

فعاودت الأطراف الاتفاق على وقف إطلاق نار ثاني، بعنوان “مينسك الثاني”، فبراير 2015. لكن سرعان ما أثبت هذا الاتفاق أيضًا فشله، فقد شنت قوات الانفصاليين هجومًا على دبالتسيف فور توقيع الاتفاقية، وأجبرت القوات الأوكرانية على الانسحاب منها. ومنذ تلك اللحظة، والصراع مستمر على حاله، وتحول الإقليم إلى منطقة حرب تشهد أراضيه سقوط العشرات من الجنود والمدنيين كل شهر. وسط نداءات مستمرة من الجانب الروسي للغرب لأجل حث كييف على الالتزام ببنود اتفاقية مينسك.

وختامًا، وفي ظل إعلان الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، بالأمس عن اعترافه باستقلال الجمهوريتين. نرى أن السؤال الأهم طرحه هنا هو ماذا عن مستقبل المدنيين المتضررين من الحرب؟ وما هي الجهة المنوط بها دفع التعويضات للضحايا وعائلاتهم وتحمل تكلفة الحرب؟

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/67583/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M