نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة: مغامرة روسيا في أوكرانيا تعيد تشكيل النظام العالمي برمته

أخيرًا، وفي فجر 24 فبراير/شباط 2022، كشف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن حقيقة خططه. بعد حشد عسكري على حدود أوكرانيا الشرقية والجنوبية والشمالية، استمر لعدة شهور، وتصريحات لم تتوقف عن إنكار الاتهامات الأميركية بأن روسيا تعد جيشها لغزو أوكرانيا، بدأت القوات الروسية بالفعل عملية عسكرية شاملة وعميقة ضد الجار الأوكراني الذي تصفه القيادة الروسية بالشقيق.

في اليوم الأول من الحرب، بدا أن حركة الجيش الروسي تمضي سريعًا، وأن الوحدات الروسية المدرعة تحرز تقدمًا سريعًا في الجنوب الشرقي وشمالي العاصمة الأوكرانية، وتدور معارك كرٍّ وفرٍّ بين الطرفين في مدينة خاركيف، ثاني أكبر مدن أوكرانيا. في اليومين الثاني والثالث من الحرب، أصبح واضحًا أن المقاومة الأوكرانية أكثر صلابة مما توقع القادة الروس، وأن حركة القوات الروسية تباطأت بصورة ملموسة؛ بينما قالت مصادر غربية: إن العملية العسكرية الروسية أخفقت حتى الآن في تحقيق الأهداف المرسومة لها.

في الوقت نفسه، وبعد تردد أوروبي، بدأت بريطانيا، والولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي، إعلان حزم من العقوبات المالية والاقتصادية بالغة القسوة على مؤسسات وشخصيات روسية، على الرئيس بوتين ووزيري دفاعه وخارجيته، إلى جانب حظر شبه كامل على حركة الطيران المدني الروسي. كما ذكرت تقارير في أواخر مساء 26 فبراير/شباط أن القوى الغربية اتفقت على فصل بنوك روسية رئيسة من نظام سويفت، ومنعت روسيا من التبادل في عدد من العملات الدولية، الدولار واليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني.

والمؤكد، رغم أن الفصل عن سويفت -الذي يعتبر سلاحًا ماليًّا نوويًّا- لم يُتَّخذ بالكامل، أن ما أُعلن من عقوبات في الأيام الثلاثة الأولى من الحرب لن يكون آخر الإجراءات الغربية المناهضة لروسيا.

بدأت العلاقات الروسية-الأوكرانية في التأزم منذ خريف العام الماضي، ولكن الحرب لم تكن حتمية بالضرورة. فكيف ولماذا أقدمت روسيا على اتخاذ قرار الحرب، التي تماثل في تأثيرها على النظام الدولي قرار ألمانيا النازية بغزو تشيكوسلوفاكيا في 1939، أو انهيار جدار برلين؟ لماذا تتحمل القوى الغربية، والولايات المتحدة، على وجه الخصوص، جزءًا لا يقل من المسؤولية عن اندلاع الحرب؟ وأية آثار إقليمية ودولية يمكن توقعها لهذه الحرب، بغضِّ النظر عن نجاح بوتين أو تعثر قواته في تحقيق انتصار سريع؟

طريق بوتين إلى الحرب

بدأ نشر القوات الروسية على حدود أوكرانيا، حسب الصور المرصودة، منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2021. وعندما بدأت واشنطن في التساؤل حول حقيقة الحشود الروسية، عكست الردود الروسية اضطرابًا سياسيًّا واضحًا. في مرات، قالت موسكو: إن الجيش الروسي يقوم بتحركات تدريبية دورية داخل الأراضي الروسية، وأن ليس ثمة نوايا عدوانية ضد أوكرانيا. في مرات أخرى، برَّر المسؤولون الروس الحشود بالمخاوف من تجاهل كييف للالتزامات التي فرضتها اتفاقية مينسك لحل الصراع الدائر في منطقة دونباس. ولكن، وما إن بدأت الاتصالات الأميركية-الروسية المباشرة، على مستوى وزراء الخارجية وعلى مستوى الرئيسين، تحدثت روسيا بلغة تربط حشدها العسكري بمطالبها الأمنية، غير المستجدة في الحقيقة، سيما مطالبتها الغرب بالتعهد المكتوب والقاطع بعدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، لا حاضرًا ولا مستقبلًا، وسحب منظومات الصواريخ المضادة للصواريخ من رومانيا وبلغاريا، التي تقول موسكو: إن من السهل تحولها إلى منظومات هجومية في وقت قصير.

في 28 يناير/كانون الثاني 2022، سلَّمت السفارة الأميركية في موسكو المسؤولين الروس ردَّ واشنطن على ورقة المطالب التي كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، تقدم بها لنظيره الأميركي، أنتوني بلينكن. والواضح أن مضمون الرد الأميركي لم يكن مرضيًا لروسيا، وهذا ما أكده الرئيس بوتين في بداية لقائه بالرئيس الفرنسي، ماكرون.

خلال الأيام القليلة التالية، صعَّدت روسيا من تحركها في جوار أوكرانيا بإطلاق مناورات عسكرية ضخمة مع الجيش البيلاروسي؛ وفي 2 فبراير/شباط، عقد بوتين جلسة مباحثات مع نظيره الصيني في بيجين، انتهت بإصدار بيان يعد بتعاون لا حدود له بين الدولتين، كتب بصيغة أقرب إلى التحالف منها إلى مجرد التعبير عن التقارب وعلاقات الصداقة.

في 15 فبراير/شباط، وبعد أن تيقنت موسكو من أن الغرب لن يستجيب لمطالبها الأمنية، ولا حتى بصورة جزئية، بدأ العد التنازلي نحو غزو أوكرانيا. مرَّر البرلمان الروسي مشروع قانون يوصي السلطة التنفيذية بالاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، والواقعتين في الحقيقة تحت الحماية الروسية. وكان واضحًا أن قرار البرلمان الروسي قُصد به توفير غطاء سياسي يمكنه تسويغ الحرب، سيما أن الانفصاليين يسيطرون على أربعين بالمئة فقط من الحدود الإدارية لدونيتسك ولوغانسك، ولن يكون من الصعب الاستعانة بهم لإخراج الجيش الأوكراني من مناطق الانفصاليين الواقعة تحت سيطرته.

في 19 فبراير/شباط، ووسط ادعاءات قيادات الانفصاليين بأن الجيش الأوكراني يصعِّد قصفه لأهداف مدنية في مناطقهم، بدأت عملية إجلاء لسكان مدن دونيتسك ولوغانسك القريبة من خطوط المواجهة. صُوِّرت عمليات الإجلاء وبُثَّت أحيانًا على المباشر في محطات التلفزة الروسية؛ ولكن التدقيق في التفاوت الملحوظ بين أرقام اللاجئين المحتملين المعلنة، وحجم مراكز استقبالهم في الجانب الروسي من الحدود، يشير إلى أن أرقام اللاجئين مضخمة إلى حدٍّ كبير.

في 21 فبراير/شباط، عقد بوتين جلسة طارئة لمجلس الأمن القومي الروسي، يبدو أنها سُجِّلت بكاملها ثم بُثت بعد ساعات قليلة على الهواء لأهداف دعائية بحتة. كان مشهد الجلسة غريبًا بكل المعايير، حيث اصطف كبار مسؤولي الدولة الروسية أمام رئيسهم، البعيد عدة أمتار خلف مكتب مرتفع قليلًا عن مستوى مرؤوسيه. الهدف الحقيقي من الجلسة كان إقناع الرأس العام الروسي بأن كبار رجال الدولة متفقون على ضرورة اتخاذ سلسلة خطوات، وبالخصوص التصديق على قرار الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغخاضعةانسك. ولكن ما شاهده الروس كان في الواقع مواقف متباينة، وعدم اتفاق ملموس، من أعضاء مجلس الأمن القومي، سيما موقفا رئيس جهاز الاستخبارات الروسية ورئيس الوزراء.

مهما كان الأمر، فبعد ساعات فقط من بث جلسة مجلس الأمن القومي، ألقى الرئيس الروسي خطابًا طويلًا، لم يخل من الغضب والشعور باليأس، رشح بأنه كتَبَ شخصيًّا معظمه. ردَّد بوتين ذات المقولات، التي استعرضها في مقالة له نُشرت في يوليو/تموز 2021 على موقع الكرملين الإلكتروني، خصوصًا قناعاته بأن الروس والأوكرانيين هم في الحقيقة شعب واحد، تجمعهم روابط الدم والتاريخ والثقافة، وأن أوكرانيا كيان صنعه لينين بعد اختلاف القادة الشيوعيين حول المسألة القومية في الاتحاد السوفيتي، وأن أوكرانيا ما كان يجب أن تصبح دولة مستقلة. تحدث بوتين طويلًا عن المخاطر الاستراتيجية التي تواجه روسيا بفعل نكث الغرب عن وعوده بعدم توسع الناتو شرقًا، وأعلن عن أنه سيقوم خلال لحظات بتوقيع قرار الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين في الشرق الأوكراني.

وهذا ما قام به بالفعل، في بث حي للشعب الروسي والعالم أجمع. خلال الساعات التالية، لم تتوقف موسكو ودوائر رئاستي دونيتسك ولوغانسك عن إصدار البيانات التي تفيد بتعرض المناطق الانفصالية لقصف مستمر، وبأسلحة ثقيلة، من الجيش الأوكراني. وفي صباح يوم 24 فبراير/شباط، خرج الرئيس بوتين في خطاب قصير نسبيًّا، برَّر فيه قرار إعلان الحرب، وإن لم يستعمل كلمة الحرب وإنما عملية عسكرية خاصة، مشيرًا إلى أن أوكرانيا ليست دولة مستقلة، وأنها خاضعة كليا للغرب، وأنها تُحكَم من قبل حفنة من النازيين، وأنها باتت تمثل تهديدًا حقيقيًّا للدولة الروسية وبقائها.

لم تكن ضرورية ولا حتمية

طبقًا للنيويورك تايمز، تسلَّمت إدارة بايدن معلومات تتعلق بمخطط للحشد الروسي حول أوكرانيا منذ سبتمبر/أيلول الماضي 2021، أي قبل شهر على الأقل من انتشار التقارير التي أكدت وجود تلك الحشود، وأن الإدارة الأميركية أبلغت الجانب الروسي، بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، بمعرفتها بما يحدث. وهذا بالطبع ليس مستبعدًا، فالولايات المتحدة تحتفظ بمصادر استخبارية في كافة مستويات الدولة الروسية منذ ما قبل نهاية الحرب الباردة.

ولكن إدارة بايدن، سواء قبل بدء تطور الوضع إلى مستوى الأزمة، أو بعده، أو مع بدء الاتصالات بين وزيري الخارجية، الأميركي والروسي، أو خلال الاتصالات بين بايدن وبوتين، لم تُبْدِ أي استعداد للتفاوض حول جوهر المطالب الروسية الأمنية. أكدت واشنطن في أكثر من مرة، بما في ذلك مساء يوم 25 فبراير/شباط 2022، ثاني أيام الحرب، على أن عضوية الناتو مفتوحة لكافة الدول الأوروبية، وأن قرار الالتحاق منوط بحلف الناتو نفسه وليس الولايات المتحدة.

لم ينشر الروس ولا الأميركيون محتوى ردِّ إدارة بايدن على ورقة المطالب الروسية، ولكن ثمة تقارير تقول بأن أبعد ما ذهب إليه الأميركيون هو اقتراح ترتيبات أمنية احتياطية، من قبيل التنسيق العسكري وإقامة قنوات اتصال مبكرة في دول الناتو القريبة من روسيا، بين واشنطن وموسكو. وما فُهم من قراءة بوتين لمباحثاته مع الرئيس الفرنسي، ماكرون، في لقاء القمة الطويل الذي جمع بينهما في موسكو، أن القوى الغربية تقول: إن مسألة التحاق أوكرانيا بالناتو ليست مطروحة في المدى المنظور. ولكن هذا لا يعني، من وجهة نظر موسكو أن المسألة لن تُطرح في المستقبل.

بكلمة أخرى، ما طالب به الروس، على الأقل فيما يتعلق بأوكرانيا، كان ضمانات متواضعة بالتأكيد، وهي ضمانات سبق أن تقدم بها الأميركيون للرئيس غورباتشوف عشية توحيد ألمانيا، في 1991، ولكن الغرب نكث بها جميعًا واستمر في توسيع نطاق الناتو في دول حلف وارسو ودول الاتحاد السوفيتي السابقة. والأرجح، أن بوتين أمر قيادة جيشه مبكرًا بالاستعداد لغزو أوكرانيا، ولكنه كان يأمل في أن يدفع الحشد المعلن ورفع مستوى التوتر حول أوكرانيا إلى أن تستجيب الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى لمطالبه. والأرجح، أيضًا، أنه لم يتخذ قرار الحرب إلا بعد أن تيقن أنه لن يحقق ولو الحد الأدنى من هذه المطالب.

ما قامت به إدارة بايدن في المقابل كان الإعلان المتكرر عن اقتراب موعد الغزو، وإرسال مساعدات عسكرية دفاعية لأوكرانيا، وتهديد روسيا بعقوبات اقتصادية ومالية، والتأكيد في الوقت نفسه على أن لا الولايات المتحدة ولا دول الناتو الأخرى ستدفع بقواتها إلى أوكرانيا. بدا الموقف الأميركي، حتى إن لم يكن هذا هو الواقع، كأنه يتجنب تبني سياسة احتواء للروس، ويمتنع عن اتخاذ إجراءات كافية لردعهم، بل قد يشجعهم بالفعل على الغزو.

أما السؤال حول الدوافع خلف عدم الاكتراث بتداعي الأزمة نحو الحرب، فيبقى محل التخمينات. لم تُخْفِ الولايات المتحدة، مثلًا، حتى قبل تسلم بايدن مقاليد البيت الأبيض، قلقها من تزايد اعتماد أوروبا على مصادر الطاقة الروسية، وما يشبه احتضان القوى الأوروبية خلال السنوات العشر الماضية لروسيا ومحاولة دمجها في المجال الأوروبي، ماليًّا واقتصاديًّا على الأقل. والمؤكد أن بريطانيا تشارك الولايات المتحدة هذه المخاوف. لكن اجتياح روسيا لأوكرانيا، لن يقيم حائطًا راسخًا بين روسيا ودول القارة الأوروبية الأخرى وحسب، بل وسينجم عنه عودة الاصطفاف الأوروبي خلف القيادة الأميركية، وتخفف تدريجي في اعتماد أوروبا على مصادر الطاقة الروسية، وخروج روسيا من المؤسسات الأوروبية، بما في ذلك مجلس التعاون الأوروبي، وتوجه أوروبي جديد نحو التسلح وزيادة الميزانيات الدفاعية.

بيد أن الحرب، من ناحية أخرى، لم تكن ضرورية لبوتين ولا لروسيا. مشروعية المطالب الروسية لا تعني أن الحرب كانت الوسيلة الوحيدة لتحقيقها. خلال السنوات القليلة الماضية، استطاعت روسيا استعادة نفوذها في سوريا بدون تورط عسكري عميق، وتعزيز وجودها في القوقاز بعد أن اتخذت موقفًا متوازنًا من الحرب الأذرية-الأرمينية، وإحكام قبضتها على كازاخستان بعد وقوع ما يشبه الثورة الشعبية قصيرة العمر. في هذه الحالات، كما في أوكرانيا خلال السنوات بين 2004 و2014، لم تكن روسيا تحتاج الحرب لتحافظ على نفوذها ومصالحها. وليس ثمة شك في أن استعادة أوكرانيا كانت ممكنة بدون اللجوء إلى الحرب والغزو، سيما أن احتمال عضويتها في الناتو يظل ضئيلًا ومستبعدًا، طالما أن الدولة الأوكرانية تواجه مسألة سيادة على كافة أرضها؛ الأمر الذي يجعلها غير مؤهلة لعضوية الحلف.

نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة

لا أحد يمكنه توقع ما ستتطور إليه هذه الحرب، ولا حتى القيادة الروسية ذاتها. في هذه المرة، تنطبق أيضًا القاعدة الكلاسيكية التي تقول: إن “كل مخطط للحرب ينهار مباشرة بعد الاشتباك الأول”. ولا أحد يعرف على وجه اليقين الأهداف الروسية الحقيقية من الحرب: هل يستهدف بوتين السيطرة على شرق وجنوب شرق أوكرانيا، قلب الصناعة الأوكرانية وطريق روسيا البري الآمن إلى شبه جزيرة القرم، وينتظر من ثم استسلام كييف أو سقوط نظامها الحاكم، أو أنه يسعى إلى دخول كييف واحتلال شامل لأوكرانيا؟

المؤكد أن الحرب في يومها الرابع لا تسير كما تصورتها القيادة الروسية: هذه لن تكون حربًا سريعة، ولا نظيفة، وحتى إن نجحت روسيا في النهاية في احتلال أوكرانيا، فإن تأمين السيطرة عليها يبدو بعيد المنال. قرار بوتين في 27 فبراير/شباط بوضع الترسانة النووية الروسية في حالة تأهب قصوى، للمرة الأولى منذ أزمة الصواريخ الكوبية في مطلع الستينات، يشير إلى ضعف الموقف الروسي لا إلى قوة وثقة بالنفس.

ثمة اتفاق أوَّلي حول عقد مباحثات أوكرانية-روسية، على مستوى منخفض من المسؤولين، في مدينة بيلاروسية حدودية مع أوكرانيا، بدون شروط مسبقة. ولكن من الصعب تصور أن تصل هذه المباحثات إلى نتائج ملموسة في جولتها الأولى، وبدون مشاركة أميركية. كما أنه من غير الواضح ما إن كانت موسكو ستتراجع عن مطالبها المبكرة من أوكرانيا، التي تضمنت تسليم الجيش الأوكراني سلاحه، وتحييد أوكرانيا كليًّا.

برؤية أبعد قليلًا، ثمة عدد من المتغيرات التي يمكن توقعها، وبصورة أولية فقط، لما يمكن أن تفضي إليه هذه الحرب، على الصعيدين، الدولي وشرق الأوسطي:

إن استطاعت روسيا تحقيق انتصار سريع ونظيف، الأمر الذي أصبح محل تساؤل، فليس ثمة شك في أن بوتين سيذهب إلى ما هو أبعد من أوكرانيا، في سعيه لإقامة حزام آمن، تابع أو حيادي، في جوار روسيا الأوروبي والقوقازي والآسيوي. وسيجعل نجاحُ روسيا حلفاءَها شرق الأوسطيين، سيما في إيران وسوريا، أكثر جرأة، سواء في تحركات الأولى الإقليمية، أو سعي الثانية إلى بسط نفوذها على المزيد من الأرض السورية، وربما سيدفع نجاح بوتين في أوكرانيا إلى تشجيع الصين على اتخاذ خطوات أوسع نحو استعادة تايوان.

ولكن، وسواء نجحت المغامرة الروسية في أوكرانيا أو أخفقت، فإن عملية إدماج روسيا في المجال الأوروبي قد توقفت. تعود أوروبا إلى الانقسام من جديد، وإن على أساس خطوط تختلف إلى حدٍّ كبير عن حدود الحرب الباردة؛ حيث خسرت روسيا أغلب حليفاتها السابقات في حلف وارسو، وجمهورياتها الأوروبية السوفيتية السابقة، لصالح الناتو والاتحاد الأوروبي.

أوروبا هي بؤرة الحروب الأكبر في التاريخ الإنساني الحديث، والسلْم الذي عاشته القارة في العقود القليلة الماضية كان سلْمًا استثنائيًّا. ولكن، وبالرغم من أن هذه الأزمة الأوروبية هي الأكثر تعقيدًا منذ الحرب العالمية الثانية، فإن حلًّا تفاوضيًّا، يحفظ ماء وجه الطرفين، لم يزل ممكنًا.

إن لم يحدث التوصل إلى حل تفاوضي، فالأرجح أن الساحة الدولية ككلٍّ ستتحرك نحو تبلور ثلاث دوائر من النفوذ: روسية، وصينية، وأورو-أطلسية (على أساس أن من المبكر جدًّا توقع قيام تحالف روسي/صيني). ولكن الحدود الفاصلة بين هذه الدوائر ستظل مرنة نسبيًّا، نظرًا لمحاولة الأطراف المختلفة جذب حلفاء جدد. ولابد أن دول الشرق الأوسط المنتجة للطاقة، من قطر إلى الجزائر، ستعود لتحتل موقعًا أكثر أهمية في موازين القوى العالمية، خاصة إن بدأت دول أوروبا في التحرر من الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية. كما ستستعيد تركيا ثقلها الاستراتيجي في منظور كافة أقطاب التدافع الدولي، طالما اعتمدت موقفًا متوازنًا من الصدام الروسي-الغربي، حتى مع حفاظها على التزاماتها في حلف الناتو.

من جهة أخرى، فإن كانت التوجهات الغربية نحو عزل روسيا أصبحت واضحة، فليس من الواضح كيف ستتطور السياسات الغربية، والأميركية منها على وجه الخصوص، من الصين، التي أصبحت مصدر قلق كبير للاستراتيجية الأميركية العالمية منذ تبنِّي أوباما سياسة المحور الآسيوي، والتي ترتبط بوشائج اقتصادية ومالية أعقد من روسيا بكثير مع القوى الغربية.

.

رابط المصدر:

https://studies.aljazeera.net/ar/article/5305

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M