هجوم “ماكيفكا”: هل تُشكل الهواتف المحمولة تهديدًا في الحرب الحديثة؟

أحمد السيد

 

منذ سنوات، كان يُلقى باللوم على الانتشار العالمي الكبير للهواتف الذكية في مجموعة من الأمراض الاجتماعية؛ بداية من العزلة بين المراهقين، إلى الأعداد الهائلة من حوادث المرور، وغيرها من الأمراض المجتمعية. والآن، أصبحت القوات العسكرية التي تستخدم الهواتف المحمولة أثناء الحرب تواجه خطرًا من نوع آخر؛ فكل مكالمة أو رسالة نصية أو فيديو يتم بثه على موقع تواصل اجتماعي يُمكن أن يجعلهم هدفًا للعدو.

وربما هذا الأمر هو ما دفع المسؤولين الروس إلى إلقاء اللوم على استخدام الجنود لهواتفهم المحمولة في الهجوم الأوكراني ليلة رأس السنة والذي وقع في منطقة “ماكيفكا” بمدينة “دونيتسك” شرقي البلاد، وأودى بحياة العشرات من الجنود الروس، بينما عارض البعض الآخر هذه الرواية مُلقيًا باللوم على غياب التخطيط الجيد من قِبل القادة العسكريين الروس  وفشلهم في توفير الحماية للجنود. وفي هذا السياق، يُطرح عدد من التساؤلات حول “الهواتف الذكية”، وهل تسببت في مقتل العشرات من الجنود الروس؟ وهل تسعى الجيوش حول العالم إلى حرمان الجنود من هواتفهم المحمولة؟

هجوم “ماكيفكا”

في بيانها حول الهجوم في رأس السنة الجديدة، أوضحت وزارة الدفاع الروسية أن القوات الأوكرانية أطلقت ستة صواريخ من نظام “هيمارس” (HIMARS) التي زودتها بها الولايات المتحدة عند نقطة انتشار مؤقتة لإحدى الوحدات العسكرية الروسية بالقرب من مستوطنة “ماكيفكا” في إقليم دونباس شرق أوكرانيا. وقالت الوزارة إن قوات الدفاع الجوي الروسية أثناء الخدمة اعترضت صاروخين، لكن أربعة أخرى تحمل “رأسًا حربيًا شديد الانفجار” أصابت المبنى الذي كان يتمركز فيه أفراد عسكريون روس، مما أدى إلى انهيار سقوف المبنى.

قُدّمت الإسعافات الأولية للجنود الروس المصابين، ونُقلوا إلى المرافق الطبية، فيما عُثر على آخرين تحت أنقاض الهياكل الخرسانية المسلحة، مما رفع عدد القتلى إلى 89 قتيلًا. في حين أوضحت أوكرانيا أن عدد القتلى بلغ 400 جندي وأصيب 300 آخرون في الهجوم. وذلك في واحدة من الهجمات التي تُعد الأكثر دموية على القوات الروسية مُنذ بدء الحرب في فبراير 2022.

ألقى المسؤولون الروس ووسائل الإعلام الحكومية باللوم في الهجوم الصاروخي على استخدام العسكريين الروس للهواتف المحمولة، والاستناد إلى أنه السبب الرئيس الذي جعل الأوكرانيين قادرين على تحديد موقعهم وتدمير الثكنة العسكرية. وفي المقابل، يُشكك بعض المعلقين والمدونين الروس على هذه الرواية، ويرون أنها حُجة يستند إليها القادة بتحميل المسؤولية على عاتق الجنود بدلًا من إلقاء اللوم على فشلهم، ووجهوا الانتقادات للقادة العسكريين الروس لتركيزهم القوات بأعداد كبيرة في مكان غير آمن بجوار مخزونات الذخيرة وغيرها من المعدات العسكرية.

فيما فسر محللون عسكريون أن فشل روسيا في إغلاق استخدام الهواتف المحمولة في المناطق التي تتركز فيها القوات يوضح كيف تكرر القوات الروسية الأخطاء الأساسية التي تهدد أمن وسلامة جنودها في أوكرانيا، وأن روسيا تعمل على زيادة أعداد قواتها أكثر من تدريبهم على مهارات الحرب وكيفية التعامل في أوقات الطوارئ.

هجوم “ماكيفكا” ليس الأول من نوعه؟

شكلت مشكلة استخدام الهواتف الذكية–وتدفق البيانات التي تنبعث منها باستمرار- مُشكلة ثابته للجيش الروسي مُنذ بداية العملية العسكرية في أوكرانيا، إلى أن هذه المشكلة لا تتعلق بروسيا فقط، فقد واجهت جيوش أخرى مُشكلات مُماثلة؛ ففي الأسابيع الأولى من الحرب، أفادت تقارير عِدة أن القوات الروسية تعتمد بشكل كبير على نظام اتصالات غير آمن بدرجة كبيرة. وعلى الرغم من الاعتقاد بأن معظم الوحدات الروسية كانت مُجهزة بأجهزة راديو آمنه، فكثيرًا ما تم استخدام الهواتف الخاصة للتواصل بين الوحدات وبعضها البعض. وربما يعود هذا الأمر لأحد الأسباب التالية: إما لأن هذه الطريقة كانت الأسهل، أو أن المعدات المُستخدمة كانت معيبة أو ضعيفة، أو عدم اعتقاد العسكريين الروس أن العملية العسكرية ستحدث حتى عبروا الحدود الأوكرانية، وهذه رُبما يُفسره البعض بسبب ضعف التخطيط والانضباط التام للعملية.

وبمجرد أن أدركت السلطات الأوكرانية أن الروس كانوا يتواصلون ببعضهم البعض من خلال هواتفهم الخاصة داخل البلاد قاموا بقطع الشبكة عن الأرقام الروسية، الأمر الذي دفع العديد من القوات الروسية إلى الاستيلاء على هواتف المدنيين الأوكرانيين، واستخدامها للتواصل مع ذويهم، وهذا الأمر جعل من السهل على الأوكرانيين تتبع حركات العسكريين الروس.

وكان لهذا الأمر العديد من الفوائد لأوكرانيا؛ ففي بعض الحالات، تم تداول مكالمات تم اعتراضها من جنود روس على وسائل التواصل الاجتماعي لإظهار التخطيط لهجمات عسكرية، وأظهرت محادثات أخرى تم اعتراضها ضعف الروح المعنوية بين القوات الروسية، وفي حالات أخرى تم استخدام إشارات الهواتف المحمولة الخاصة لتحديد ومهاجمة الأهداف الروسية. وفي مثال على ذلك، تم استخدام إشارة هاتف محمول لتحديد الموقع الجغرافي لجنرال روسي وقتله هو ومساعديه.

ليست روسيا الدولة الأولى التي تُحذر من استخدام الهواتف المحمولة من قِبل الجنود في المعارك العسكرية، فلطالما حذرت الولايات المتحدة والأعضاء الآخرون في حلف شمال الأطلسي جنودهم من استخدام معدات اتصالات غير مشفرة وغير آمنة أو وسائل التواصل الاجتماعي أثناء الخدمة، وعليهم أن يكونوا حذرين بشكل متزايد بشأن جميع أنواع الاتصالات الإلكترونية.

ويعتقد محللو الاستخبارات الغربية أن روسيا عملت منذ عقود على تحديد الأهداف ومضايقة المعارضين من خلال تتبع إشارات الهواتف المحمولة. في عام 1996، كان رئيس المتمردين في منطقة الشيشان الروسية الانفصالية “جوهر دوداييف” يتحدث عبر هاتف يعمل عبر الأقمار الصناعية عندما قُتل في هجوم صاروخي من طائرة مقاتلة روسية. وفي الآونة الأخيرة، عملت روسيا على اختراق الهواتف الذكية لجنود الناتو المتمركزين بالقرب من حدودها في دول البلطيق وبولندا، وأوضح مسؤولون غربيون أن هدف “موسكو” يتمثل في: الحصول على معلومات استخباراتية، وقياس حجم القوات الموجودة.. إلخ.

عالمية المشكلة 

لا شك أن مُشكلة استخدام الهواتف الذكية في الحروب لا تزال جديرة بالملاحظة؛ إذ إن السلطات الروسية كانت على علم بها منذ سنوات، حيث منعت الحكومة الروسية قواتها من حمل الهواتف الذكية في عام 2019، بعد أن تمكن الصحفيون الاستقصائيون من استخدام بيانات الهواتف للكشف عن عمليات انتشار سرية للجيش الروسي في أوكرانيا وسوريا. ويرجح البعض استخدام إشارات الهواتف المحمولة في إسقاط طائرة ركاب ماليزية فوق أوكرانيا في عام 2014.

وعلى الرغم من هذه المشاكل وما نجم عنها من وفيات مُرتبطة بالهواتف المحمولة في المراحل الأولى من الحرب في أوكرانيا، لا يبدو أن الروس قد فعلوا الكثير حيال ذلك.  وفي حين أنه قد يكون من المغري النظر إلى هذا الأمر على أنه مثال على عدم الكفاءة أو الاختلال الوظيفي من جانب الجيش الروسي، فقد كان أيضًا ذلك الأمر مُعضلة للقادة في جميع أنحاء العالم بما في ذلك في الجيش الأمريكي.

ففي عام 2017، تمكن المحللون من استخدام البيانات التي تم تحميلها على تطبيق اللياقة البدنية (Strava) لتحديد مواقع القواعد العسكرية الأمريكية السرية في أفغانستان وسوريا. من خلال تسجيل مساراتهم حول محيط القاعدة. وأصدر الجيش الصيني مجموعة جديدة من الإرشادات حول استخدام الهاتف في عام 2016 بعد الكشف عن قواعد عسكرية لم يتم الكشف عنها من قبل القوات باستخدام تطبيق شائع لاستدعاء سيارات الأجرة.

وفي نوفمبر الماضي، انتشرت القوات البولندية على طول الحدود مع بيلاروسيا -حليف روسيا الوثيق– وتمكنت القوات البيلاروسية من كشف مواقع وتحركات القوات البولندية نتيجة ترك البولنديين بعض تطبيقات التواصل الاجتماعي قيد التشغيل على هواتفهم. وفي السياق ذاته، كانت بعض التطبيقات سببًا للقلق بشكل خاص لبعض الدول، حيث حظر الجيش الأمريكي قواته من تنزيل تطبيق (TikTok) بسبب مخاوف أمنية تتعلق بملكيته للصين.

وفيما يتعلق بالمخاطر التي تُشكلها الهواتف المحمولة، أوضح الجنرال الأمريكي “ديفيد بيرجر” خلال استضافته لإلقاء ندوة بجامعة “جورج واشنطن” أن المخاطر التي تشكلها الهواتف المحمولة هي أحد أهم الدروس التكنولوجية التي يجب أن يتعلمها الجيش الأمريكي من الحرب الروسية الأوكرانية.  وعلى الجنود الأمريكيين أن يُدركوا أن كل ضغطة على زِر الهاتف وقت الحرب ستؤدي إلى قتلك.

وفي الختام يُمكن الإشارة إلى أمرين جديرين بالملاحظة، وهما: 

● الأمر الأول: يُمكن اعتبار الهواتف المحمولة على أنها التكنولوجيا المُحددة للحرب الروسية الأوكرانية، وفي هذا السياق يُمكن الإشارة إلى استخدم الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” وضع “السيلفي” بهاتفه لتحويل نفسه إلى رمز عالمي للمقاومة. ويستخدم المدنيون هواتفهم للكشف عن ضربات الطائرات بدون طيار. وتستخدم القوات من كلا الجانبين هواتفهم لتزويد المشاهدين في جميع أنحاء العالم بصور غير مسبوقة للقتال في الخطوط الأمامية.

● الأمر الثاني: إن استخدام الهواتف المحمولة مسألة ابتليت بها كل من أوكرانيا وروسيا بشكل خاص طوال الحرب، مما جعل القوات عرضة لقطعة من التكنولوجيا التي مهما كانت عادية ومنتشرة في كل مكان في الحياة اليومية، إلا أنها تُشكل تهديدًا وجوديًا في الحرب الحديثة.

وفي الأخير، يُمكن القول إن الهواتف الذكية ستكون جزءًا من الحرب للمضي قدمًا سواء أحبها القادة أم لا، لأن محاولة تقييد استخدام الهواتف المحمولة وقت الحرب أمر عديم الجدوى، وسيتمثل التحدي في كيفية الموازنة بين فوائدها في معنويات الجنود بالتواصل مع أقاربهم وذويهم، وعيوبها الواضحة للأمن التشغيلي بما يعرض حياة مُستخدميها للخطر وقت الحرب.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74989/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M