تحت المجهر: بين تعديل قانون الانتخابات والعلاقات مع كردستان.. تحديات أمام الحكومة العراقية

نرمين سعيد

 

دائمًا ما تستقطب الانتخابات الحيز الأهم من الأولويات السياسية لأنها الوسيلة التي تنظم انتقال السلطة، ومن ثم فإنه ليس من الغريب أن يشغل القانون الذي يحددها نطاق مناظر من الاهتمام والجدل سواء من القائمين على الأمر أو حتى على المستويات الشعبوية، وتزداد وتيرة الاهتمام والجدل في الدول حديثة العهد بالديمقراطية مثل العراق الذي شهد تحول وصف بالديمقراطي بعد الغزو الأمريكي الذي خلف وراءه حالة من الانقسام الطائفي لم يعهدها المجتمع العراقي من قبل، حينما عمدت واشنطن من خلال حاكمها بول بريمر إلى تسييس فكرة التشيع وزرع بذور المظلومية التي لا زالت تلاحق أي انتخابات عراقية حتى الآن، وهو ما شهدنا انعكاساته في انتخابات تشرين، التي كادت أن تسفر عن مسرح من الدماء قبل أن يقرر زعيم التيار الصدري الانسحاب.

التنسيقي يستبق الأحداث 

في الآونة الأخيرة، وبعد أن أستقر الإطار التنسيقي على رأس النظام الحاكم في العراق بعد اختيار محمد شياع سوداني رئيس للوزراء، شهد الوسط السياسي دعوات حاشدة من قبل الإطار لتعديل القانون الحالي للانتخابات، واستجلبت تلك الدعوات الحديث حول هل التعديل سيشمل قانون انتخاب مجالس المحافظات أو المحليات أم قانون الانتخابات البرلمانية، وقد يتطور التعديل المرجو ليشمل نظام العد والفرز الذي ألزمت فيه المحكمة الاتحادية العليا الجهات المعنية بأن يكون العد في الانتخابات يدويًا.

وتنبغي الإشارة هنا، إلى أن العراق شهد حراكًا رافضًا من قبل الكتل لتعديل القانون حتى قبل أن تتقدم الحكومة بمسودة القانون للبرلمان، فضلًا عن الرفض البرلماني للمشروع لاحقًا، ويمكن تفسير ذلك بوجود شعور لدى باقي الكتل السياسية بأن التنسيقي يرغب في حسم نتائج الانتخابات القادمة، مما يعني سيطرة القوة الموالية لإيران على المشهد السياسي في العراق لفترات ممتدة أخرى، وقد تسلم السلطة للتو إيمانًا منه بأن قانون الانتخابات في شكله الحالي هو الذي أسهم في تشتت أصوات الكتل الكبيرة والدخول في حالة من الفراغ السياسي استمرت على مدى أشهر، إلا أن  ما أدى لحالة الانسداد السياسي هو مفهوم الكتلة الأكبر والتي تم تفسيرها في 2010 لصالح مجموعة معينة، بما يعني أن الكتلة الأكبر هي التي تتشكل بعد الانتخابات داخل مجلس النواب من مجموعة من الكتل، وفي هذا تعارض مع جوهر المسألة الديمقراطية وتفريغ لفكرة الانتخابات، لأن القوى  قد دخلت الانتخابات متنافسة، وبالتالي فإن التحالف مع من كنت تنافسه تحت قبة البرلمان يفرغ العملية من مضمونها ويخلط أصوات الناخبين، والدليل على ذلك أن التيار الصدري رغم حصوله على 74 مقعدًا وتحالفه مع الأكراد والسنة، لم يستطع تحقيق أغلبية الثلثين المطلوبة لتحقيق اختراق سياسي، كما تدفع الكتل الرافضة للتعديل بأن كل انتخابات في العراق يصاحبها تعديلًا في قانون الانتخابات في مشهد من العبث السياسي المستمر.

ومع تسليط الضوء على القانون الحالي، فقد سمح بشكل كبير بوصول المستقلين إلى مقاعد في البرلمان، ولكن هذا الطرح مردود عليه لأن القانون الحالي يمنح النائب المستقل نوعًا من الاستقلالية عن الأحزاب بدلًا من أن يكون تابعًا، على الرغم من أن بعض المستقلين وبمجرد وصولهم للبرلمان قاموا بخلع القناع والعودة للكتلة الكلاسيكية التي دعمتهم أثناء التصويت. في الوقت الذي تفتت فيه أصوات كتل حزبية كبيرة ولكن التيار الصدري كان من الأحزاب التي استطاعت تحقيق أرقام جيدة سواء في انتخابات 2018 أو انتخابات 2021، ولما كان القانون الحالي واحدًا من مكتسبات ثورة تشرين فإن القوى التي لديها وجود في الشارع ستتحرك، مما يضغط على الحكومة الحالية خوفًا من عودة التيار الصدري إلى المشهد خصوصًا أنه يبرع في تحركات الشارع.

وتنصب التعديلات المطروحة على العودة إلى القوائم المغلقة أو العمل بما يعرف بقانون “سان دييجو”، كما أنه يسعى لتعديل قانون مجالس المحافظين، بحيث يخرج ممثل واحد عن كل دائرة وليس أربعة أو خمسة ممثلين أي تحويل الأمر إلى دائرة واحدة في المحافظة، وهو ما ترى القوى المناوئة أنه يعد تمثيلًا غير حقيقي مع الأخذ بالحسبان أنه أحيانا يكون هناك عدم توازن في الدوائر، بحيث يتم تقسيمها بما يتناسب مع الأحزاب وخريطة الناخبين وليس على معايير إدارية أو جغرافية.

التحدي السياسي في أربيل 

بعد رفض التعديل في أروقة البرلمان، بدا النظام العراقي أكثر تفرغًا للتصدي لأزمات سياسية أخرى وعلى رأسها العلاقات المتوترة بين بغداد وأربيل والتي تمتلك جذورًا عميقة، خصوصًا أن أوضاع كردستان تثير توترات حتى على المستوى الإقليمي وتحديدًا مع تركيا وإيران، ولعل تعقيدات الحالة الكردية ترتبط إلى حد بعيد بتشابك مستويات العلاقة مع بغداد ومع العلاقات بين كردستان ومحيطها الإقليمي.

ولذلك فإنه من التفاؤل المبالغ فيه النظر إلى الحوار بين أربيل وبغداد باعتباره سيثمر عن حالة من التسوية على الأقل للأمور الجسام وعلى رأسها ملف النفط، لأنه ما دامت المشاكل والأزمات مركبة ومتداخلة ومتشابكة، وما دامت الظروف والأوضاع العراقية وكذلك الإقليمية تلقي بظلالها على إقليم كردستان، فإن تلمّس الحلول والمعالجات الحقيقية الجذرية، يبدو أمرًا صعب المنال، والوقائع والأحداث والتفاعلات الراهنة تشير إلى ذلك.

ويضاف إلى تعقيدات المشهد التجاذبات الداخلية في إقليم كردستان نفسه، فهناك شبه قطيعة بين الحزبين الرئيسين في الإقليم، لاحت معالمها وملامحها مع تصاعد حدة الخلافات حول منصب رئيس الجمهورية، الذي حسم في نهاية المطاف وفق منطق الأمر الواقع، وتجنب كسر أيّ من الطرفين، استنادًا إلى قاعدة لا غالب ولا مغلوب، بعد استبعاد مرشحيّ الحزبين للمنصب، وهما كل من مرشح الاتحاد برهم صالح ومرشح الديمقراطي ريبير أحمد، والقبول على مضض بالقيادي الكردي في الاتحاد الوطني عبد اللطيف رشيد.

وبنظرة أكثر قرب فإنه بعد مدة من تدهور العلاقات التي أعقبت الاستفتاء الكردي على الاستقلال في سبتمبر من العام 2017، عادت العلاقات بين أربيل وبغداد إلى الاستقرار في الفترة التي سبقت انتخابات عام 2018، وتعززت بشكل أكبر بعد تعيين عادل عبد المهدي، وهو صديق شخصي مقرب من العديد من قادة حكومة إقليم كردستان. في عام 2019 وافقت بغداد على إرسال 12.67٪ من الموازنة الاتحادية لأربيل. في المقابل، وافقت حكومة إقليم كردستان على تقديم 250 ألف برميل من النفط المُصدّر إلى بغداد يوميًا. ولأسباب مختلفة، لم تسلم حكومة إقليم كردستان النفط أو عائداته، ومارست الأحزاب السياسية الشيعية ضغوطًا كبيرة على رئيس الوزراء لقطع حصة حكومة إقليم كردستان من الموازنة. ومع ذلك، استمرت حكومة عبد المهدي في إرسال حصة الإقليم، واستمرت المفاوضات، وتوصل الطرفان في نهاية المطاف إلى اتفاق شامل لحل مشكلات الإيرادات من مبيعات النفط والجمارك. ولكن تم تعليق هذه المفاوضات، وكذلك تنفيذ الاتفاقات السابقة، عند استقالة حكومة عبد المهدي في نهاية نوفمبر عام 2019. ومع ذلك، استمرت حكومة إقليم كردستان في الحصول على حصتها من الموازنة ناقص الإيرادات المحسوبة من صادرات النفط لحكومة إقليم كردستان حتى أبريل عام 2020 (مجموع 454 مليار دينار عراقي، 278 مليون دولار). لكن في الأسابيع القليلة الأخيرة من رئاسته للوزراء، أمر عبد المهدي بوقف تسليم مدفوعات رواتب القطاع العام لحكومة إقليم كردستان واستمرت التجاذبات خلال فترة حكم الكاظمي على الرغم من أنه قد وعد بحلها. مما سبق يتضح أن جوهر الخلاف بين أربيل وبغداد يرجع لعوائد النفط وكون الإقليم يتمتع بالحكم الذاتي حسب الدستور العراقي وأن التوترات أكبر من قدرة أي رئيس وزراء على حلها.

استخلاصًا، فإنه على الرغم من تجاوز العراق لحالة الفراغ السياسي التي أحاطت بالمشهد على مدى ما يقارب من عام، إلا أن هناك المزيد من التحديات التي ينبغي تجاوزها ومنها تراجع التنسيقي عن محاولاته لتعديل قانون الانتخابات العراقي في محاولة لفرض مزاج الأغلبية ومصلحتها، وكذلك اتقاء لانطلاق الشرر مرة أخرى حال قرر الإطار التنسيقي فرض نفسه على المشهد ومن ثم استفزاز التيار الصدري الذي يمكن أن يقطع صيامه ويعود للتظاهر في الشارع، ولذلك فإنه لابد من عدم تمرير القانون دون توافق سياسي أو أن يكون الأجدى من ذلك هو تعديل الدستور الذي يبدو بعيد المنال في ظل وجود شبه اتفاق ضمني بين الأحزاب الكلاسيكية في العراق على عدم تعديل الدستور، وعلى الجانب الآخر فإن هناك عددًا من المحفزات وليس البواعث التي قد تقود إلى حلحلة الأمور بين بغداد وأربيل، منها عودة ظهور داعش كعدو مشترك، والعمليات التركية على الحدود، والحوار بين الولايات المتحدة والعراق من أجل اتفاقية استراتيجية جديدة، وإعادة علاقة العراق مع العديد من الدول العربية، مما يوفر حوافز كافية للمشاركة البناءة بين بغداد وأربيل والسعي لتحقيق نتيجة إيجابية. وفي هذا السياق، يمكن للشركاء الدوليين أن يؤدوا دورًا مهمًا في تشجيع كلا الجانبين على تبني تدابير قوية لبناء الثقة، ومن ثم فإنه ليس لدى القادة في بغداد وأربيل أي سبب للتردد في اغتنام هذه الفرص في الوقت المناسب.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74980/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M