هل تستفيد الحرب الروسية الأوكرانية من دروس أزمة الصواريخ الكوبية؟

مها علام

 

أوضح الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، خلال مقابلة مع شبكة “سي إن إن”، أن “تهديدات “بوتين” لها تأثير مزعزع للاستقرار”، وحذر من “الأخطاء المحتملة في التقدير التي يمكن أن تترتب على ذلك ويمكن أن ينتهي بحرب نهاية العالم (هرمجدون)”. تأتي هذه التصريحات في أعقاب التصعيد الواسع الذي تشهده ساحة الحرب الروسية الأوكرانية، والتعنت في المواقف الذي يغلف سلوك أطرافها، بطريقة تنذر بدخول الحرب منعطفًا حرجًا يعيد للأذهان شبح أزمة الصورايخ الكوبية، بل ويفتح فرص أمام الحديث حول اندلاع حرب عالمية ثالثة. الأمر الذي يثير التساؤلات بشأن مسارات التصعيد والإحتواء التي تتصل بمسار الحرب الروسية الأوكرانية.

منعطف تصعيدي جديد

شهدت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في 24 فبراير الماضي فصلاً جديدًا من التصعيد الضخم الذي بدأت بوادره مع إتجاه كييف لشن هجمات مضادة بهدف استعادة المناطق التي وقعت تحت سيطرة موسكو، وهو التطور الذي ردت عليه موسكو بعقد استفتاءات لضم 4 مناطق أوكرانية جديدة (لوهانسك، دونتسيك، خيرسون، زاباروجيا). هذا، وقد مثلت عملية استهداف مضيق كيرتش على جسر القرم نقطة تحول مهمة في مسار الحرب، إذ قامت موسكو في أعقابها بتصعيد عسكري واسع في ميدان الحرب؛ حيث أمطرت المدن الأوكرانية، في 10 أكتوبر الجاري، بصواريخ كروز فيما وصفت بأوسع الهجمات الجوية نطاقًا التي شنتها منذ بداية الحرب.

أدى هذا التصعيد إلى انقطاع الكهرباء عن مساحات شاسعة في أوكرانيا، كما استهدف الطرق الرئيسية والمتنزهات والمواقع السياحية في وسط مدينة كييف بكثافة. كما وردت تقارير عن انفجارات في لفيف وترنوبل وزيتومير في غرب أوكرانيا، ودنيبرو وكريمنشوك في وسط البلاد، وزاباروجيا في الجنوب، وخاركيف في الشرق. فيما أفادت الشرطة الأوكرانية بقيام القوات الروسية بإطلاق 84 صاروخًا، أسقط الدفاع الأوكراني منهم 43 صاروخًا، كما تضررت 70 منشأة، منها 29 منشأة من البنية التحتية الحيوية، و35 مبنى سكنيًا.

وتعليقًا على هذا الفصل الجديد من التصعيد، قال الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، في خطاب تليفزيوني،  إنه أمر بشن ضربات “واسعة النطاق” بعيدة المدى تستهدف قطاعات الطاقة والقيادة والاتصالات الأوكرانية، باستخدام صواريخ أطلقت من الجو والبحر والبر، ردًا على ما وصفه بــــــ”الهجمات الإرهابية”، ومن بينها الانفجار الذي وقع في مضيق كيرتش. ومن جهته، اعتبر الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” أن الهجمات الروسية تهدف إلى قتل الناس عن عمد، وتعطيل شبكة الكهرباء بأوكرانيا.

وارتباطًا بذلك، تعهد الرئيس الأمريكي “جو بايدن” لنظيره الأوكراني “زيلينسكي”، خلال اتصال هاتفي، بأن تزود واشنطن كييف بأنظمة جوية متقدمة.  وقال بيان للبيت الأبيض تعقيبًا على هذا الاتصال إن “الرئيس بايدن تعهد بمواصلة تزويد أوكرانيا بالدعم اللازم للدفاع عن نفسها، بما يشمل أنظمة دفاع جوي متقدمة”. مضيفًا أن واشنطن ستواصل بجانب حلفاءها وشركاءها فرض العقوبات على روسيا، وكذا “محاسبتها على جرائم الحرب والفظائع التي ترتكبها، وتزويد أوكرانيا بالمساعدات الأمنية والاقتصادية والإنسانية”. هذا، وقد وصف الرئيس “زيلينسكي” المحادثة بـــ”المثمرة”، لافتًا إلى أن الموضوع الرئيس خلالها دار حول “الدفاع الجوي”، بالاستناد إلى أن التعاون الدفاعي يقع على رأس الأولويات حاليًا.

وردًا على ذلك، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية “ماريا زاخاروفا”، على الموقع الإلكتروني للوزارة، “نكرر مرة أخرى، للجانب الأمريكي بوجه خاص، أن المهام التي نحددها في أوكرانيا سيتم إنجازها”. لكنها أكدت على الرغم من ذلك أن “روسيا منفتحة على الدبلوماسية والشروط معروفة جيدًا، وكلما طال أمد تشجيع واشنطن لطابع كييف العدواني، وتشجيع الأعمال الإرهابية للمخربين الأوكرانيين بدلاً من منعها، كان البحث عن حلول دبلوماسية أكثر صعوبة”.

يأتي كل هذا التصعيد على وقع اتساع نطاق الحديث عن إمكانية استخدام أسلحة نووية، بالاستناد إلى تصريحات الرئيس “بوتين” التي أكد فيها أنه سيستخدم “جميع الوسائل المتاحة” للدفاع عن الأراضي الروسية والتي تمتد إلى المقاطعات الأوكرانية الأربعة التي تم ضمها مؤخرًا. وهو ما يقدم تأكيد جديد للتهديدات التي كان “ديمتري ميدفيديف”، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، قد أطلقها صراحة بشأن حق موسكو في الدفاع عن نفسها بالأسلحة النووية إذا تم تجاوز حدودها.

التهدئة…الفرص لا تزال قائمة 

تحمل التطورات الحرجة على ساحة الحرب الروسية الأوكرانية، وما ارتبط بها من تصعيد عسكري مغلف بتهديدات نووية مشاهد من أزمة الصواريخ الكوبية التي كادت أن تفجر حرب نووية بين القوتين العظميتين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي). فمنذ انطلاق الشرارة الأولى للحرب تعالت بعض التحليلات التي اعتبرت ما يجري مقدمة لحرب عالمية ثالثة، سيما مع اتجاه الأطراف إلى التعنت في مواقفها من أجل تحقيق أكبر مكاسب، وهو الأمر الذي انعكس في تعثر المسار التفاوضي أكثر من مرة في أكثر من مناسبة. علاوة على ذلك، تظل مسألة سوء الإدراك أو سوء التقدير  محفز قائم قد يدفع أي طرف إلى اتباع نهج متهور يفرض تكاليف بالغة، فالتصعيد لا يقع بالضرورة وفق لحسابات المنطق والمصلحة، وإنما قد يكون نتيجة لتصرفات غير محسوبة أو مدراكات غير مكتملة أو مشتتة أو مشوهة. ومن ثم، فإن الاحتمالات المرتبطة بالتهديدات النووية أو التصعيد غير المحسوب لا تزال قائمة، بل وتتطلب الجدية في مواجهتها والتعامل معها.

إلا أن الحديث عن أزمة الصواريخ الكوبية لا يعكس فقط الصورة السلبية المرتبطة باندلاع حرب ثالثة، وإنما يحمل صورة إيجابية أيضًا ارتبطت بقدرة الطرفين المتنافسين على تجاوز هذا المأزق وإحتوائه عبر فتح قنوات خلفية عززت من التوصل لتفاهم يحفظ ماء الوجه للطرفين. لذا، فإن إسقاط هذه الأزمة التاريخية على مشهد الحرب الروسية الأوكرانية لا يعني بالضرورة تفجرها، وإنما قد يبلور أيضًا مسار لإحتوائها. فعلى الرغم من تعدد الأدوات المتاحة للرد على وضع الصواريخ السوفييتية في كوبا بما فيها توجيه ضربةٍ جوية إلى مواقع الصواريخ بكوبا، أو اجتياح كوبا، إلا أن الرئيس الأمريكي “جون كيندي” قد انتهج مسارًا أقل تصعيدًا، عبر فرض ما أسماه بـــ”العزل البحري” quarantine – وليس الحصار حتى لا يعد إعلان حرب – على كوبا، ليفسح المجال أمام الدبلوماسية. وعلى ذات المنوال، لا تزال احتمالات أن تسير الحرب الروسية الأوكرانية على ذات المسار الإيجابي قائمة بطريقة تساهم في إحتواء المشهد وتقف أمام المزيد من التصعيد.

وفي هذا السياق، يتضح أن هناك جملة من المؤشرات التي تعزز من فرص الاتجاه صوب التهدئة والإحتواء؛ والتي يأتي في مقدمتها اعتبار الحرب الروسية الأوكرانية معاكسة تمامًا لأزمة الصواريخ الكوبية، انطلاقًا من كون النقطة المضيئة الأبرز فيها هي أن الولايات المتحدة وروسيا ليستا في مواجهة نووية مباشرة، كما أن أوكرانيا ليست كوبا. لذا، يمكن النظر إلى حالة التصعيد الجارية في طور كونها عملية مصطنعة الغرض منها تحقيق أكبر مكاسب ممكنة لكل طرف. وعلى هذا النحو يمكن تفكيك مواقف الأطراف كالآتي:

ما يتعلق بروسيا:

يبدو أن موسكو تأمل في أن يجبر التهديد النووي واشنطن على التدخل و”تجميد” الصراع  على وضعه الحالي بما يضمن لروسيا مكاسبها الإقليمية الجديدة. وعليه، يمكن النظر إلى كل التحركات الروسية وفق هذا المنظور بما فيها الإعلان عن مناورات عسكرية باستخدام أنظمة صواريخ إسكندر في كالينينجراد، والاستعداد لاختبار صاروخ كروز من طراز Burevestnik يعمل بالطاقة النووية في نوفايا زيمليا، وإغلاق المجال الجوي لاختبار إطلاق صاروخ باليستي…وغيرها. وفي ذات السياق، تبدو موسكو بحاجة ماسة إلى وقف هجوم أوكرانيا المضاد الذي يؤثر على فعاليتها القتالية، بل ويضطرها إلى التراجع والانسحاب من بعض المناطق. وهي المسألة التي ترتبط أيضًا بالحديث المتزايد حول اختلاف الأوليجاركية الروسية بشأن العملية العسكرية، وكذا مدى الرضاء الحقيقي لدى الشعب الروسي عن استمرارها، سيما في أعقاب الإعلان عن التعبئة الجزئية. عطفًا على ماسبق، تدرك روسيا جيدًا أن أي تصعيد نووي من جانبها لن يضر فقط بمكانتها وسمعتها الدولية، وإنما قد يضر أيضًا بعلاقاتها مع الدول الصديقة لها والقريبة منها كالصين والهند ودول آسيا الوسطي.

أما عن الولايات المتحدة:

من جهتها، فإن الحرب قد حققت لواشنطن بعض المصالح؛ مثل: التأكيد من جديد على قيادتها للعالم عبر تزعم كل الجهود الدولية لمعاقبة وعزل موسكو، كما عززت الحرب من العلاقات عبر الأطلسية ودور حلف “الناتو”. ومع ذلك، فإن استمرار الحرب قد ينال من هذه المكاسب، بل وقد يبتلعها، وهو الأمر الذي انعكس في تزايد الامتعاض الذي تبديه بعض الدول بشأن العقوبات وتأثيرها، وأيضًا تزايد الخلافات حول ملف الطاقة، بجانب ظهور بوادر تصدع عبر أطلسي جديد مبعثها الخلاف حول التعامل مع الحرب. ومن ناحية أخرى، فقد فرضت الحرب مجموعة الضغوط على واشنطن بداية من المشكلات الاقتصادية الداخلية، ومرورًا بتكلفة المساعدات الهائلة التي قدمتها، ووصولاً إلى المسؤولية التي تتحملها لإنهاء الحرب انطلاقًا من دورها القيادي. وبالتالي، فإن استمرار الحرب واتجاهها للتصعيد غير المحسوب يعني مزيد من الضغوط على واشنطن ومكانتها الدولية.

وفيما يتعلق بالدول الأوروبية:

يبدو أنها تشهد أوضاع صعبة، تختبر في أقصاها تجربة التكامل الأوروبي ذاتها. لذا، فإن استمرار الحرب واتجاهها لمزيد من التصعيد يعني بالنسبة لأوروبا المزيد من المشكلات الاقتصادية، وأزمة طاقة شرسة، وأزمة لاجئين موسعة. كما يعني أيضًا مزيد من تراجع الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي في مقابل مزيد من الاعتماد الأوروبي على الولايات المتحدة والمظلة الأمنية لحلف “الناتو”.

وبالنسبة لأوكرانيا:

تبدو المسألة مزدوجة، فمن الطبيعي أن تكون لدى كييف رغبة في الحصول على أقصى قدر من المساعدات العسكرية من أجل استكمال عملياتها العسكرية المضادة لاستعادة الأراضي التي تم السيطرة عليها من قبل موسكو. ولكن – في المقابل – تعاني كييف من وضع سيء نجم عن استهداف بنياتها التحتية وخدماتها الأساسية واختناق سبل العيش فيها بطريقة تتطلب سرعة وقف الأعمال العسكرية والشروع في عملية إعادة إعمار فورية.

مجمل القول، إن عملية التصعيد الجارية سواء على مستوى الحرب الكلامية أو مستوى الحرب الميدانية ينذر بتكرار مخاطر أزمة الصواريخ الكوبية، بل ويضع العالم بأسره على شفا كارثة عالمية جديدة. ويتصل بذلك، صعوبة حسم الحرب الروسية الأوكرانية عسكريًا، كما يصعب أيضًا توقع قبول موسكو لأي وضع ينال من صورتها ومكانتها الدولية. ما يعني أنها قد تتجه للمجازفة – حتى النووية – حال أدركت أنه الخيار الوحيد أمامها. ومن ثم، تتضح ضرورة احتواء المشهد المحتقن عبر القنوات الدبلوماسية من أجل التوصل لتوافق ما يضمن على الأقل الحد الأدني من مطالب كل طرف.

فبالنظر إلى الدروس المستفادة من  أزمة الصواريخ الكوبية، يتضح أن أحد الجوانب الرئيسة لإحتواء الأزمة تمثلت في إنشاء قناة خلفية للتواصل بين موسكو وواشنطن. فقد تواصل “روبرت كينيدي”، المدعي العام وشقيق الرئيس “جون كينيدي”، مع المسؤول الاستخباراتي السوفييتي”ألكسندر فيكليسوف”. وهو ما يتماثل مع ما أبلغت به إدارة “بايدن” الكرملين عبر وسيط، في مايو 2022، أنها مستعدة لإنشاء مثل هذه القناة الخلفية. ويتصل أيضًا مع دعوة الخارجية الروسية الأخيرة عبر لسان المتحدثة “زاخاروفا” من أن روسيا منفتحة على الدبلوماسية. وهي المسألة التي تعززها القنوات المفتوحة بين واشنطن وموسكو بشأن تبادل المسجونين.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/21236/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M